مجلة الرسالة/العدد 597/بعد الاعتكاف
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 597 بعد الاعتكاف [[مؤلف:|]] |
حول وحدة الوجود فيما كتبه الأستاذ دريني خشبة ← |
بتاريخ: 11 - 12 - 1944 |
وجدتُني بعد خروجي من المستشفى أشبه شيء بالآلة الميكانيكية الموهونة، تزلزلت مفاصلها وانحلت عراها، فشدوا بعضها إلى بعض بخيوط غليظة بالية؛ فكنت إذا نهضت نهضت متحاملاً على ذراع، وإذا مشيت مشيت متثاقلاً على حذر. وتلقيت على هذه الحال دعوة المجمع العلمي العربي بدمشق إلى مهرجان المعري، فارتحت إلى هذه الدعوة، لأنها ستتيح لي سعادة النفس بلقاء الإخوان، ومتعة العقل بشهود المهرجان، وصحة البدن بهواء الجبل، وتأدية الواجب لشيخ المعرة
ولكن السفر شاق، والأمد بعيد، والآلة الهشة لا تزال من الوهن تميد وتتخلع. فقررت الاعتكاف عن دنيا الناس حيناً من الدهر تحية وزلفى لإمام المعتكفين في مهرجانه؛ وقلت لنفسي: هي خلوة صوفية يثوب فيها الجسم، وتصفو بها الروح، وتشفُّ بيننا وبين أبي العلاء الحجب؛ فنخلو إلى روح الشاعر في كتبه، ونجلو لإخواننا المحتفلين فناً من أدبه. ووقفت بنا السيارة على باب صومعتي الريفية، وهي قائمة وحدها بين الحقول الخضر والأشجار الغين، كما كان يقوم عش آدم في الجنة حين لم يكن على الأرض إنسان غيره وغير زوجه، فدخلتها دخول الناسك الشريد وجد الظل والماء بعد وقدة الهجير وشدة الظمأ. وهبّت على الجسد العليل نفحات النسيم البحري فأذهبت عنه ما أرمضه في القاهرة من لفحات يوليو القائظ. وغمرني السكون الريفي الحي في المنزل والحديقة، وفيما حولهما من مزارع القطن والرز، فسبحتُ في فيض من سكينة الفردوس اختنق فيها ما بقى عالقاً بسمعي من أصداء الحياة وضوضاء المدينة. وقطعت عن عشي صلات العالم الخارجي فلم أعد أرى غير مخضرٍّ أو مفترٍّ، ولم أعد أسمع غير صادح أو باغم.
تذكرت حينئذ ناسك المعرة، وقد اختصر العالم في داره، واختزن العلم في صدره، ثم كفاه الله هم الرغيف والمرأة، فانفلت من إسار العيش، وانطلق سابحاً في جواء الفكر الحر، ينظر من علٍ إلى بني آدم المساكين، وقد سلطتهم الطبيعة على أنفسهم، فتفارسوا بالغرائز، وتنافسوا في الصغائر، وزعموا أنهم العلة الغائية لخلق السموات والأرض وما دب على ظهرها، وتولد في بطنها، ونما في ثراها، ولو أنك نضوت عنهم ثياب التمثيل، وجردتهم من وسائل التمويه والتجميل، لما وجدتهم في حقيقة الأمر يختلفون عن جماعة الكلاب تقتتل على جيفة، أو تختصم على كلبة!! كان اعتكافي كما قلت قرباناً لأبي العلاء؛ فأنا أعيش معه أكثر النهار في اللزوميات، أو في الفصول والغايات، أو في مسارح التأمل والتفكر. وكثيراً ما كنت أستغرق في ادِّكاره واستحضاره وأنا مستلق على العشب، فأتمثله وهو مضطجع على سريره يفكر، أو جالس على حشيَّته يملي، وكاتبه بين يديه، وأولاد أخيه من حواليه، وتلاميذه وزواره في صحن الدار يرقبون أن تشرق عليهم شمس المعرفة من غرفته. وكنت أتخيل الشيخ بين هؤلاء كائناً عجيباً يشع العلم طبعاً كما تشع الشمس النور، وتبث الزهرة العطر، وتعسل النحلة الشهد، فأسائل نفسي: هل أبو العلاء وأضرابه من عباقرة الفكر أفراد من نوع الإنسان؟ وإذا كان وجودهم دليلاً على قابلية هذا النوع لمثل الرقي، فلماذا كانوا من الندرة بحيث يعدون عدَّاً منذ وقع في سمع الزمان نبأ آدم؟ وهل يجوز أن يكون التفاوت بينهم وبين سائر الناس كالتفاوت بيني وبين هذه الحشرات التي تموج من حولي تحت وريقات هذا العشب؟
خلوت إلى أبي العلاء في هذا المعتكف شهرين شغلتهما بالفكر فيه والقراءة له والتأمل معه وكنت أشعر في خلالهما أني أعمق شعوراً بالكون، وأدق فهما للطبيعة، وأتم علماً بالناس، ولكني مع ذلك حاولت مراراً أن أكتب فلم أفلح! ذلك لأن الخواطر التي كانت تنثال عليً إنما كانت صدى لخواطر المعري أو اشتقاقاً منها أو اقتياساً بها. وكنت أجد في شعره أو نثره التعبير الجميل الصادق عن هذه الخواطر فلا أجد بي حاجة إلى مزيد. والاعتكاف بعد هذا ضرب من العبادة الصامتة يغنى بها الفكر عن الذكر، والاستغراق عن المشاهدة، والاستقبال عن الإذاعة
وأوفيت على تلك الحال بالنذر للشيخ، فودعته وودعني، وانسدلت بيني وبينه القرون العشرة؛ ثم عاد إلى قبره الجديد، وعدت إلى مقري القديم، ليستأنف هو راحة الخلود في سكون المعرة، وأستأنف أنا جهاد الحياة في زحمة القاهرة. فلما أخذت، على عادتي في الريف، أبسط رئتي للهواء النقي، وأرهف أذني للصوت الجميل، إذا الهواء منتن بزكم الأنف ويأخذ بالنفس، وإذا الصوت منكر يندب الأخلاق وينعى الشرف، وإذا النقائص والفواحش التي أخذها أبو العلاء على الناس متفرقين في الأمم والعصور، تتجمع كلها في زمن واحد وبلد واحد! وتلك كارثة خلقية تتضاءل بجانبها كوارث الحرب في الأموال والأنفس. فإن من يشكو الجوع والموت والدمار وهي بلايا تدفعها السلم القريبة ويعوضها العمل المنتج، ليس كمن يشكو جوع النفوس، وموت الضمائر، وخراب الأخلاق، وهي محن لا ينفع فيها غير تبديل الفطر الأصيلة، وذلك من صنع الله وحده!
لم يأت وا أسفا على مصر في دهرها الطويل حينٌ كهذه الحين انماعتْ فيه الرجولة، وانجلت الأخلاق، وطغت الشهوات، وأظلم الحس، حتى خفت الرذائل على الطباع، وساغت التهم الفواجر في الأسماع، فأصبح الناس يقرءونها كالأخبار، ويسمعونها كالقصص، ويتبادلونها كالتحايا، ثم لا يجدون لها في أنفسهم مضاً ولا غضاضة!
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات