الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 595/وحدة الوجود

مجلة الرسالة/العدد 595/وحدة الوجود

بتاريخ: 27 - 11 - 1944

2 - وحدة الوجود

للبروفيسور ج. أ. بودن

بقلم الأستاذ عثمان حلمي

إن وجود الخالق الذي كون العالم من أرواح أثيرية والذي رعى ودعم العالم، لا يمكن أن يثبته وجود العالم نفسه، بينما يظن (نيوتون) في موافقة للتقاليد أنه لما كان للعالم بداية فإن النظام الكوني كان أزلياً منذ أن ضمن وجود الله إعادة تجديده المستمر. ويرى نيوتون أن في شتى أجزاء الفضاء إلهاً يشكل خلقه في المادة وكذا في قوانين الطبيعة، ومن الجلي أن الطبيعة في نظر (نيوتن) ليست محض كتل ميتة عمياء تصطدم على غير هدى وتتجمع أو تنفصل في الفضاء، ولكن العالم تتخلله روح خالق يدين له العالم بوجوده كما يدين بتدعيمه وحفظه لهذه الحقيقة، وهذا يجعل الدنيا قابلة للفهم كما يجعلها جميلة مقبولة

يسخر ليبنتز من فكرة أن الله غير قادر على أن يخلق آلة ميكانيكية فوراً تسير بنفسها، ولكنها في حاجة إلى عامل معها لحفظها، إلا أن (ليبنتز) لم يقدر حساب اتجاه الانحدار في المادة (انحلال الحركة)

ففي عالم (ليبنتز) لا يوجد فقد عارض، غير أن فهم (ليبنتز) في إعادة التناسق في الذرات الهيولية التي تدور كالساعة منذ الأزل لم يبرهن عليه بنتيجة يرتاح إليها العلم الحديث

وأبعد من هذا فإن لابلاس قد تناول علم نظام الكون في مبادئ نيوتون (بفرض عدم وجود الله) ولكنه لم يعمل حساب قوة قابلية المادة للتحول

ويرى كلارك ماكسويل ثاني أعظم مهندسي العلم الحديث وجهة قابلية المادة للتحول فيخال أن (روح العالم بكل شيء) الذي يقدر أن يتصرف بدقائق أجزاء الطبيعة قد يعكس تدرج الانحدار المادي باختبار عاقل مدرك، غير أن (روح العالم بكل شئ) اصطناعية بجانب إله نيوتن. ومما لا ريب فيه أن نيوتون رغب في أن يعرف الله وإن يكشف عن جوهره بينما ارتضى علماء اليوم أن يقروا بجهلهم، فهو مثلاً كان متأثراً بحقيقة أنه في أي توزيع لكم من المادة عدد لا حصر له من الأنظمة والقوانين، وأنه يجب أن يكون هنالك اتجاه إلى نظم أُخرى خارجة عنها حتى يمكن أن يظل استمرار تناسق الأشياء وتوازنها الذي لا يمكن أن يدوم بغير قوة إلهية لحفظه، وجدير بعلماء هذا العصر أن يلاحظوا، م هي؟

هو يجزم أن هذه الدنيا سائرة لا محالة إلى نهاية بعد قليل من بليونات السنين من يومه، والذي نسيه هو أن مسألة النهاية محددة بمسألة البداية، وعالم حقيقي كنيوتون يهمه أن يقف على حقيقة كل ذلك

لقد كان نيوتون عالماً عظيماً بما وراء الطبيعة بفضل سلامة بصيرته وصحة وجدانه، فضلاً عن تخصصه الفني، وإن درايته بما وراء الطبيعة لتزيد كثيراً على ما تطلبه حاجة علمه

(إنك لا تستطيع أن تفصل الله عن العالم الذي فحصه العلم ثم تستطيع بعد ذلك أن تزعم أنك قد اقتنعت بهذا العلم)

هذه النظرة من فلسفة نيوتون قد أهملت طويلاً، وقد قال لنا علماؤنا السفسطائيون إن (كانت) قد دحض فلسفة نيوتون بتدليله على أن الفضاء والزمن وهميان - أي في العقل - وإنه بناء على ذلك لا يمكن أن يقال إنهما بميزان العالم الحقيقي إلا أن كل ما أورده (كانت) لم يكن إلا إظهار منطق نيوتون بصورة (إقليديسية) متخصص بعلم الفضاء، وأن النظام الزمني لم يكن ليستمد إلا من عقولنا، إن (كانت) لم يدحض نظرية الفضاء التجريبي الذي بني عليه علم نيوتون حقيقة وهذه لم يمكن دحضها بحجج سابقة، وفضلا عن ذلك فإن إيمان نيوتون بدقة هذا النظام المحكم المتزن في الطبيعة سيبقى حجة تتحدى العقل الإنساني، وإننا لا يمكننا أن نهمل سبق هذا النظام ولكن يجدر بنا أن نجهد أنفسنا لكي نكشفه كلما وجدنا إلى ذلك سبيلا

إن إصرار نيوتون على فكرة ضرورة وجود مبدأ ميكانيكي سام في الطبيعة سيبقى كذلك، ولقد قال بعض ذوي الكفايات العلمية المحدودة من متأخري اللاأدريين أن (كانت) قد حطم أساس البراهين التي أقيمت على وجود الله، غير أن (كانت) لم يحطم في الواقع إلا البراهين السابقة التي بنيت على الأوهام وشرود الذهن الذي لا حد له

إن رأي نيوتون في الله كواسع ودائم وموجود في كل مكان كان رأياً علمياً غير ثابت عند الطبيعيين كما أنه لم يكن ليستطاع جعله مثاراً للجدل

إنه ليوجد سبيل واحد نستطيع به فهم الكون كدعوى سائرة، وذلك كما يقول أفلاطون عن طريق بعض الشعور بتسلط الحياة والعقل، والحياة هي الشيء الوحيد الذي نعرفه والذي تصل به الطاقة إلى أعلى مستوى في النظام ودقة الترتيب.

إن الجسم الحي هو النوع الوحيد من الأشياء الذي يستطيع أن يطوع الطاقة في حدود أجزائه بحيث يمكن توطيد صلة تداولها المشترك بين مصدرها وهدفها، والطاقة في الجسم الحي غير مبعثرة كيفما اتفق في التوزيع بحيث يمكن أن يصدم جزء منها شيئاً آخر في سبيله ثم يكون لهذا عواقبه المرجوة الموافقة، ولكي تكون الصلة مناسبة على الدوام فإنها لابد أن تكون دائمة حتى في المصادفات، والجسم الحي لا يعمل كمجرد مجموعة عرضية من الأجزاء مع مجموعة عرضية مماثلة من الصلات العرضية، ولكنه يعمل كوحدة، وتدار طاقات الجسم كلها لصالح الجسم كله، وبسيطرة ضابطة على جميع الأعضاء فإن كل عضو يقوم بوظيفته حسب منهجه الخاص

وليست كمية الطاقة فقط هي التي يعول عليها ولكنها الطاقة المناسبة وعملها المحدد الذي ينجز حيثما تدعو الحاجة إليه

ففي حالة ما إذا أصيب الجسم بجرح فإن عدداً لا يحصى من الكريات البيضاء يلم شعثه ويندفع إلى موضع الخطر لتلافي سوء نتائج ما حدث، وليست هذه بالطبع مسألة مصادفة، ولا تتكاثر هذه الكريات بدون تمييز في النظام والترتيب حتى يكون منها القدر الكافي في الموضع المعين فحسب، ولكن النشاط الكلي للجسم يتركز في نقطة الخطر لحصره، أما كيف ينتقل نشاط الجسم في مثل هذه الحال فإن ذلك يماثل في غموضه وتعقيده حالة النشاط الإشعاعي في فضاء الكون)

إننا نعرف أن النشاط الغدد المهمة مثل الغدد الدرقية أهميتها البالغة في حالة دثور وتجدد أجزاء الجسم المتعددة التي قد يكون بعضها بعيداً عن الغدد. ولكننا لا نعرف شيئاً عن انتقال هذا النشاط آلياً

وقد يكون إفراز عصارات الغدد داخلياً ومع ذلك فإنها تؤثر في النواحي المتعددة التي هي في حاجة إليها في كل مكان من أجزاء الجسم

نجد في الجسم الحي حينئذ مثالاً بل المثال الوحيد للعلاقة المشتركة - علاوة على المدى - بين الطاقة وهدفها ففي الجسم الحي بناء وتجديد لأجزائه، وهما في خدمة الجسم كله.

ولو اعتبرنا الأمة كوحدة في مقابل جسم الفرد لوجدنا الطريقة واحدة في البناء والتجديد لحفظ كيان الأمة. والمجتمع هنا يكون حياة الأمة في مقابل حياة الفرد ولكن المبدأ واحد

والآن لنفرض أننا فهمنا الكون قائماً كوحدة بتعدد جزئياته التي يجب أن تكون مناسبة لنا لتعليل ما يمكننا فمه من أسرار الكون من المادة إلى العقل الخالق - يجب أن نفهم أن الكون تدب فيه الحياة والروح، وإنه ليس مجرد كتل مبعثرة من المادة، ولنفهم أنه كوحدة حية ليس معناه أن كل جزء في الكون عضو حي، وهذه هي مغالطة في التقسيم، ففي الجسم الحي الذي نعرفه توجد عناصر وتحولات كما يستعمل هذا التعبير في الاصطلاحات الطبيعة والكيميائية - وهما يمدان حياة السم مع سيطرة الضابط - ولكنهما غير عضوين

ومن الواضح أننا لو فهمنا الكون كوحدة فانه لا يمكن أن تكون هناك علاقات خارجية - العلاقات حينئذ يجب أن تكون داخلية - لأن الكون ليس له خارج - والعلاقة بين جزء وجزء مع الضابط هي في أجسامنا أو في المجرة النجيمية أو في السديم اللولبي سواء

ويمكننا أن نقرر أنه لا توجد طاقة مبددة في هذا الفراغ من الفضاء، كما يمكننا أن نعتبر النشاط الإشعاعي في الكون كدم الحياة له، وبسيطرة الضابط العام يدور الجميع.

يتبع

عثمان حلمي