مجلة الرسالة/العدد 595/السلم العالمية
→ أمتع قصص الحب في الأدب الفرنسي | مجلة الرسالة - العدد 595 السلم العالمية [[مؤلف:|]] |
وحدة الوجود ← |
بتاريخ: 27 - 11 - 1944 |
حمل قريب الأمد
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
كتب الأستاذ محمد توحيد بك السلحدار في عدد سابق من (الرسالة) مقالاً عنوانه منع الحرب حلم الأبد، وأقول رداً عليه إن السلم العالمية حلم قريب الأمد
والحق أننا نعيش الآن على مسمع من قصف المدافع وأزيز الطائرات، وعلى مرأى من مشاهد حرب شنيعة المهلكات
ولاشك أن أحداً من الدول المشتركة في هذه الحرب القائمة لم يكن يرغب في إثارتها، ليكتوي بنارها. والواقع المسلم به أن كل دولة تتبرأ من إعلان الحرب وتصرح بالابتعاد عن تبعة إثارتها
ولم يكن الأمر كذلك في قديم الزمان، إذ درج الحكام والملوك والأمراء على التفاخر بالعدوان، والمباهاة بالقوة والبأس والسلطان. فإذا كنا نرى في الوقت الحاضر أن أصحاب العروش وذوي التيجان وأقطاب الدول والزعماء المحركين للشعوب يتنصلون من تبعة الحرب ويتبرءون من إعلانها، فلا شك أن هذا دليل يحمل في طياته النزعة القوية إلى السلام، ويبشر بتحقيق هذا الحلم الذي كان من أطماع الناس في القديم ولا يزال من آمالهم حتى الآن
والقول في الحرب أو في السلام يقتضي منا الإشارة إلى الأسباب التي تسوق الدول إلى الخصام أو تدفع بها في سبيل الوئام.
قال الأستاذ توحيد بك السلحدار في أسباب الحرب ما نصه: (إن الغرائز والشهوات ما زالت تتغلب على العقل، والطبيعة لم تصلح بعد من شأن النزعات الأنانية، ولم توجهها إلى التعاون الصادق، والإنسان مقسور على الكفاح في الحياة، والدول من طبعها أن تتعمد التوسع وترغب في الفتح والسيادة الدولية بالمنافسة المطلقة في الاقتصاد والصناعة والتجارة والتسلح. وهذه سبيل لا مندوحة فيها عن الحرب بين حين وحين)
وقد جمع الأستاذ بين الدوافع النفسية في الفرد وبين العلاقات الدولية وتنافر مصلحة الجماعات والحجة لا تستقيم بذكر طبائع الفرد وخصائصه، لأننا بصدد حرب بين دولة وأخرى، ومن المسلم به أن طبائع الجماعة تختلف عن طبائع الفرد، كما هو معروف لكل من درس علم الاجتماع
والدليل على نقض تلك الحجة النفسية هو نفور الجند من هذه الحرب الحاضرة من الحرب، لأنها جماعات وكتل بشرية تترك في الميادين يفقد فيها الفرد شخصيته المستقلة.
وأبلغ دليل في هدم كيان تلك الحجة النفسية القائلة يجب الكفاح. وتغلب الغريزة والشهوة والأنانية، أن الأفراد يعيشون في داخل الدولة الواحدة، ويرتفع عددهم إلى ملايين قد تزيد على المائة، وتسود فيهم بطبيعة الحال غرائز الكفاح والأثرة والمغالبة والنزوع إلى السيطرة والسلطان، ومع ذلك تعيش هذه الجماعة، الواحدة كخلية النحل، كل فرد يقوم فيها بعمل، يكسب معاشه، ويتصل بغيره من الأفراد في سبيل كسب المعاش، دون أن تقع بينهم معارك دامية، إلا ما يحدث من الخصام المعروف بين الأفراد، الذي يحله القانون ويقتضيه الأمن والنظام.
فنحن نسلم بوجود النزعة إلى الكفاح في الفرد، وقد اقتضت الحضارة والمدنية أن توجه هذه النزعة إلى كفاح الحياة والتغلب على عقبات المعيشة، وتذليل البيئة المحيطة بالإنسان وتسخيرها لمصلحته، ودفع عدوان الأمراض والأوبئة وهي أفتك بالإنسان من أسلحة الحرب.
والبوليس والقضاء كفيلان بضبط الأمن وحفظ السلام بين سكان الدولة الواحدة.
فالمسألة في السلام هي خضوع الجماعة لحكومة واحدة ونظام واحد، لأن الحرب تقع بين الدول لا بين الأفراد.
فهل يصبح العالم بأسره خاضعاً لحكومة واحدة، وتتحول النزعة الوطنية إلى دولة واحدة وعالم واحد ونظام واحد؟
ذلك أن العلة الأساسية في الحروب هي انقسام العالم إلى دول تنطوي على نفسها، وتحتفظ كل واحدة منها بشخصيتها المستقلة، وتشيع العقيدة في نفس بعضها أنها أقوى من غيرها بأساً، وأسمى عقلاً، وأرفع منزلة، وأوسع علماً.
لهذا وقعت الحرب الحالية لانقسام العالم إلى دولة عظمى وإمبراطوريات كبيرة تتنازع على السيادة والسلطان.
ولهذا أيضاً ستقع الحرب المقبلة - وأنا لا أشك في هذا - بعد أن تضع الدول السيوف في أغمادها، والطائرات في حظائرها، لأنهم يقولون: إن العالم ستتحكم فيه الدول الثلاث المنتصرة: إنجلترا، وأمريكا، وروسيا، وقد يضيفون إليها الصين أو فرنسا.
ستقع الحرب في الجيل المقبل أي بعد عشرين عاما كما يقال، وقد تقع بعد جيل آخر أيضا، ولكن الخطوات التي يخطوها العالم في سبيل التطور والوحدة، فخطوات سريعة جداً، هي التي تجعلنا نقول بأن السلم قريبة الآن.
ونحن نؤيد هذا القول بشواهد في التاريخ، معتمدين على النظر إلى تطور الإنسانية خلال العصور الطويلة.
ذلك أن الجماعات كانت تعيش قديما في مدن صغيرة، أو قبائل متناثرة، ثم اقتضى الرقي والعمران أن يلتئم شمل المدن في دول، وأن تتسع رقعة القبيلة فتصبح شعباً كبيرا.
وكلما اتسعت الدولة زالت الفوارق بين الناس في اللغة والتقاليد والعادات والفكر والدين.
وقد ظهر في العالم عامل جديد لا ينبغي إغفاله لكل من يريد أن يبحث في تطور البشر. وهو عامل سيقلب كيان الإنسانيةكلها ويغير من مظهرها القديم.
هذا العامل هو سرعة المواصلات البرية والبحرية والجوية، فأصبح انتقال الإنسان في أرجاء الدنيا الأربعة من أيسر الأشياء. وإن آثر أحدنا البقاء في مكانه ولم يكلف نفسه عناء إلى شتى بقاع العالم، فمن اليسير عليه أن يفتح المذياع فيتلقى أنباء العالم في لمح البصر. وانظر بعد كيف يتم التقارب الشديد بين الناس جميعاً في الفكر وأسلوب الحياة.
وهذه خطوة بالغة الأثر في توحيد العالم
وستعقبها خطوات أُخرى يخيل إلينا أنها قريبة الوقوع وهي وحدة اللغة، ووحدة التقاليد، ووحدة الزي، ووحدة الأساليب في شتى فروع الحياة.
ألا ترى أن تركيا اصطنعت الكتابة بالحروف اللاتينية. وأن عبد العزيز باشا فهمي يريد في مصر مثل ذلك. والدلالة التي نعتبر منها في مثل هذه الحالة وأشباهها، هي النزعة الشديدة نحو اتحاد العالم في مظهر واحد. ولن يتأخر اليوم الذي تتم فيه هذه الوحدة لما ذكرناه من سهولة شتى المواصلات وسرعتها.
ولا يغيب عن بالنا أن نذكر في هذا الصدد ما دار في الأذهان في أوائل هذا القرن وأواخر القرن الماضي من محاولة اختراع لغة عالمية سموها في ذلك الوقت (اسبرانتو). وقد ماتت الفكرة حيناً من الدهر، ولكنها أخذت تبعث الآن. فتوحيد اللغة أمر لابد من وقوعه لأنه لا يتوقف على الأمل والنية، بل يعتمد على طبيعة الأشياء. وطبيعة العمران الجديد الناشئ عن تيسير المواصلات بين أجزاء العالم، تقتضي حتما التفاهم بين الناس بلغة واحدة
ومن العوامل القوية في منع الحروب وتحقيق السلام بعد توحيد العالم على النحو الذي وصفنا وقوعه في المستقبل، انتشار التعليم بين سواد الناس، وما يتبع ذلك من رقي عقلي، ونزوع إلى تغليب الحكمة على الشهوة، وحل المشكلات بالعقل لا بالقوة. وكلما ارتفعت عقليات الأفراد صعب قيادهم قياداً أعمى لمصلحة ذوي المطامع الذين اصطلحوا على تسميتهم بمجرمي الحرب، ولا ننس أن الحرب صناعة كسائر الصناعات، ويحتاج إعدادها إلى تهيئة جيش مدرب على استخدام السلاح، ويعتنق فلسفة العدوان ويكره الجنوح إلى السلام، والعالم يسير الآن نحو خطة جديدة يرمي بها إلى نزع السلاح، ويجري في التعليم على بث روح السلم واعتناق فلسفة السلام
هذا التطور السريع الذي نشاهده في العالم يرمي إلى اشتراكية اقتصادية لاشك فيها الآن. وقد كانت الشيوعية هي المذهب المنتظر للفلسفة المادية التي تبغي إلغاء الملكية ومنع الاستغلال المزري، ولكنها اعتدلت فأباحت شيئاً من الملكية لضرورة العمران، فاقتربت بذلك من المذهب الاشتراكي الذي أصبح واقعاً في جميع الدول الآن. ومن شأن تنظيم الاقتصاد العالمي، وتيسير المعيشة لكل فرد في طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه وتعليمه، أن يشعر جميع الناس بالراحة من جهة معاشهم، فلا يبقى محروم تدفعه الحاجة إلى الثورة وامتشاق الحسام للحصول على الطعام
فإذا ذهبنا مع أصحاب الفلسفة المادية الذين يفسرون جميع الحروب التي حدثت في التاريخ تفسيراً اقتصادياً، فإن تحقيق المساواة لجميع سكان العالم في الحياة المادية، وهو ما يقضي به التطور الذي نشهد آثاره، كفيل بمنع الحرب وإقرار السلام، ولهذا صح ما نقوله من أن السلم حلم قريب الأمد، لا أنه حلم الأبد
أحمد فؤاد الأهراني