مجلة الرسالة/العدد 593/منع الحرب؟
→ تعليقات على يوميات | مجلة الرسالة - العدد 593 منع الحرب؟ [[مؤلف:|]] |
يا أخت ليلى ← |
بتاريخ: 13 - 11 - 1944 |
حلم الأبد!
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
خبت نار الحرب الكبرى السابقة، وبقي أثر رزاياها وذكر أهوالها باعثين من البواعث على حب السلام والوعد بحفظه والتحذير من نقضه. من ذلك قول الفيكونت جراي إن الأفراد والأمم (إذا أرادوا ضمان المستقبل وحياة المدنية، وجب أن يعرفوا هل الحال العقلية السائدة في الحاضر هي أكثر حذراً وصواباً من العقلية التي سادت قبل تلك المحنة العظيمة، وإلا زالت مدنيتنا كما زالت مدنيات سابقة)؛ وقول بلدوين رئيس الوزارة البريطانية الأسبق (من في أوربا يجهل أنه إذا وقعت في الغرب حرب جديدة انهارت في زلزلة هائلة مدنيتنا المؤلفة، كما انهارت مدينة روما) وقول المستر ديفز (إذا نشبت حرب عالمية جديدة، واحتدمت بالأسلحة التي تعدها التطبيقات العلمية للإنسان، سهل إبادة الأمم في بضعة شهور)
لكن التجارب والمخاوف جميعاً لم تمنع هذه الحرب الضروس الشعواء التي يشهد العالم طرأ ما تحدث وحشيتها من دمار وانهيار. ذلك بأن الغرائز والشهوات ما زالت تتغلب على العقل، والطبيعة لم تصلح بعد من شان النزعات الأنانية، ولم توجهها إلى التعاون الصادق، والإنسان مقصور على الكفاح في الحياة، والدول من طبعها أن تتعمد التوسع وترغب في الفتح والسيادة الدولية بالمنافسة المطلقة في الاقتصاد والصناعة، والتجارة والتسلح؛ وهذه سبيل لا مندوحة فيها عن الحرب بين حين وحين، تشتبك بحجة الدفاع الشرعي أو الدفاع عن شرف الدولة وسيادتها، وتارة ببعض تلك الحجج التي تموه بها بواطن الأمور وحقائقها من أنانية وشهوات وأطماع ذاتية ومصالح شتى، لتندفع الشعوب إلى الملاحم الجهنمية والمجازر الآدمية
على أن كل حرب كبيرة تعقبها فترة رجعية سببها الحاجة الطبيعية إلى الراحة واستجمام القلب ولم الشعث، فترة تهبط فيها غريزة المنافسة الطليقة إلى مستواها الأدنى، وتتلاشى في المعسكرات لتظهر على الأخص في الميدان الاقتصادي، فتدفع إلى الاستعداد لحرب تالية وإن كثرت الوعود بالمحافظة على السلام وبتوطيد دعائمه ومنع الحرب. من هذه الدعائم جمعية جنيف المحترمة التي أمست، فيما زعموا، لعبة بيد الدولة البريطانية وفرنسا ثم بيد بريطانيا وحدها، ثم أخفقت في منع الحرب: لأن منعها يحتاج إلى نظام يضمن العدل الدولي، والعدل الدولي دونه التسلح، ومنع التسلح لا يتحقق بغير أمن، والأمن ليس يوجد بغير عقوبة مقررة للمعتدي، وتقرير العقوبة ليس بوازع إلا إذا كانت هناك قوة تنفذها، قوة تفوق مجموع قوى الدول، وما من دولة تأمن طغيان مثل هذه القوة المتفوقة أو ترضى أن تنزل نزولاً حقيقياً عن سيادتها أو عن حق حماية شرفها، بل حتى عن حق الاعتداء على غيرها
وليست سياسة جنيف تجربة أولى لحفظ السلام بجمعية دولية، بل هي سياسة يمكن إرجاع العمل بها أول مرة إلى عهد المدنية اليونانية العتيد، على الأقل. وقد عادت إليها الدول مراراً منذ ذلك العصر القديم، وإن تكيف تنفيذها بالأحوال في كل زمان. ولكن الأمم لا تزال ترفض بعزم وحزم أن ترضخ لسيادة الحق، وإن هددت الجوارح مرات عديدة بأن تهلك الجنس البشري بأسره
كانت المدينة اليونانية في الغابر دولة حقيقية ذات سيادة. وكانت دول المدائن الهِلِّينية تتحد لأغراض دينية وسياسية. ومن محالفاتها (اتحاد ديلس) والعصبة (الآخية)
جمع اتحاد ديلس، تحت رياسة أثينا، الدول الهلينية البحرية، وأوجب عهد التحالف على كل منها تقديم سفن لأسطول مشترك أنشئ للدفاع عن الاتحاد ضد الفرس، وحراسة النظام في بحر إيجه، ولتنفيذ العقوبات التي يقضي بها مجلس الاتحاد في المنازعات بين أعضائه
كانت ديلس مقر المجس، ومن شروط الحلف نص يلزم أعضاؤه أن يعرضوا عن المحاربة فيما بينهم وإن يحكموا المجلس في منازعاتهم. وهو يمثل السلطة التنفيذية ويفصل الخصومات ويحكم بالعقوبات وأثينا تباشر تنفيذها وتقتضي كل عضو ما شرط عليه تقديمه من رجال ونقود، وتتخذ تدابير الإجبار للمخالفين والمقصرين في القيام بالالتزامات العسكرية
فكان كل عضو، في البداية، دولة بحرية مستقلة ذات سيادة، تعاون بحصة لحفظ القوة المشتركة. لكن أثينا كانت أقدر على بناء السفن الحربية وأسرع من غيرها، فانتهى الأمر إلى اختصاصها ببناء هذه السفن إذ صار أكثر الدويلات في الاتحاد يؤدي بدل السفن نقوداً للخزينة المشتركة
والنتيجة السياسية من هذا النظام هي سيادة أثينا على قوات الاتحاد الحربية، وإرادتها سائر الأعضاء على معاونتها براً وبحراً وعلى اتخاذ دساتير ديمقراطية مماثلة لدستورها هي، حتى ردت الاتحاد إمبراطورية بحرية تحت سيطرتها
أما العصبة الآخية فقد جمعت قرابة ستين دولة معرفة، حين بلغت أعظم شوكتها. وكان لكل عضو منها حرية التصرف في شؤونه الداخلية. أما السياسة الخارجية. فكانت بيد مجلس العصبة، ولكل عضو صوت فيه. والمجلس هو الذي يعقد المعاهدات والمحالفات ويعلن الحرب ويجتمع بدعوة من رئيسه. ورئيسه قائد ينتخب كل سنة ولا يعاد انتخابه إلا بعد مدة رياسته بسنة، وهو، في حالة الحرب، يصبح قائداً عاماً مطلق السلطة. وقد اعتمدت العصبة على جيش دائم تحت إمرة مجلسها رأساً، وكانت أحياناً تطلب مؤناً وعتاداً من بعض المدن، أو تخول قائدها السلطة لحشد جميع القوات العسكرية التي لأعضاء الاتحاد. أنشئت العصبة لمواجهة النفوذ المقدوني على الخصوص، وكانت تستعمل هذه القوى في حماية نفسها وتنفيذ العقوبات، وفي حتم الانضمام إليها على دول آخر في بعض الأحوال
وحق أن هذه العصبة وما سبقها من اتحادات كانت جميعها محالفات بين دول المدائن الهلينية توالي الإخلاص لعنصر واحد، ولكن يخطئ من يظن أن تحقيق الاتحاد بين تلك الدول كانت سهلاً أو أن التحاسد بينها لم يكن شديداً قاسياً
ثم بسط السلام الروماني رواقه على كل أرض رفرف فوقها علم رومه، وتحقق العدل بين الأمم للمرة الأولى في التاريخ، إذ ارتاض أقوام مختلفة عناصرهم ومدنياتهم لفكرة نظام سياسي مشترك؛ ولولا اعتماده على تفوق الجيوش الإمبراطورية لما أمكن قيامه في كل مكان وجدت به حامية رومانية
وشبيهة الإمبراطورية الرومانية في العصر الحديث هي الإمبراطورية البريطانية بالهند التي كانت إمارتها على اعتراك دائم والاضطهاد فيها كثير، ثم انتظمت محاكمها بعد الاحتلال واعتمد تنفيذ أحكامها على الشرط وخلفهم الحاميات البريطانية. فقضت الهند ردحاً من الدهر في ظل السلام البريطاني كالسلام الروماني. لكن نظام الهند قد ضرب على أهلها، ولم يبن على أساس من رضائهم وإرادتهم
وقد وضعت مشروعات عديدة في أزمان مختلفة لتحقيق العدل الدولي وإقرار السلام ومنع الحرب. ولكن الأمم والدول عاشت حتى الآن في تحاسد وحرص على سيادتها، وعلى حق في دفاعها عن شرفها؛ وآثرت أخطار الحرب - ولو فظعت بأسلحتها الحديثة، في سبيل الأطماع والشهوات - على سلام يحفظه مجلس مشترك بيده قوة متفوقة. ذلك بأن الاتحاد الذي يعتمد مجلسه على مثل هذه القوة قد ينقلب إمبراطورية يسود فيها الأقوى، كما شهد التاريخ
أما وقد مضى خمسة وعشرون قرناً عانت الإنسانية فيها من الحروب بلايا فادحة أفظعها ما ترى من فتك هذه الأسلحة الشيطانية التي تمحق البشر وتمحو المدن؛ أما وقد وعد الحلفاء بسلام دائم ورخاء عام، فالمأمول أن يفلحوا هذه المرة. والذي يؤكد للأملين أن الحلفاء صادقون في وعودهم قادرون على الوفاء بها هو ما يذاع من أقوالهم وبنشر من كتاباتهم ويجيء ذكره في الأخبار من أعمالهم، مثل (مشروع تأمين سلامة العالم) المقترح من مؤتمرهم في دومبرتون أوكس بأمريكا، وملخصه:
1 - إنشاء عصبة أمم جديدة تسمى (الأمم المتحدة) - على أن يكون للعصبة أربع هيئات هي (مجلس الأمن)، الذي تكون له القيادة الفعلية لقوات العالم المسلحة؛ (والجمعية العمومية)، التي ينضوي تحت لوائها جميع الأعضاء - يعني جميع الأمم المحبة للسلام؛ و (محكمة العدل الدولية)، وأخيراً (السكرتارية)، ويجب أن يكون السكرتير العام رئيساً إدارياً من حقه أن يوجه نظر مجلس الأمن إلى ما يبدو أنه يهدد السلام العالمي
2 - أن يكون للدول الأربع الكبرى: أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي والصين، ثم فرنسا فيما بعد، مقاعد دائمة في مجلس الأمن؛ وأن تشكل الجمعية العمومية من جميع أعضاء هذه الهيئة الدولية، ويكون لها أن تنتخب الأعضاء غير الدائمين في المجلس
3 - تشكيل (لجنة عسكرية) مهمتها إسداء النصيحة إلى مجلس الأمن فيما يتصل بجميع الحاجات العسكرية لحفظ السلام، وبقواعد التسلح، أو نزع السلاح إذا لزم الأمر؛ وأعضاء هذه اللجنة هم رؤساء قيادة الولايات المتحدة وقيادات بريطانيا والاتحاد السوفيتي وفرنسا والصين، أو ممثلوهم؛ وعلى جميع أعضاء هذا النظام أن يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن، بناء على طلبه، قوات مسلحة وأن يبذلوا العون اللازم للمحافظة على السلام
4 - أن يجب على الأمم المتنازعة اتخاذ الوسائل السلمية فيما بينها؛ فإذا استمر النزاع تولاه مجلس الأمن، وهو صاحب الحق في أن يقرر لنفسه تولي أمر هذا النزاع؛ فإذا وجد أن للنزاع ما يبرره أحاله على محكمة العدل؛ وللمجلس أخيراً أن يستعمل القوة المسلحة متى تراءت له ضرورة ذلك
واضح أن بين هذا المشروع وبين اتحاد ديلس والعصبة الآخية أوجه شبه
هذا ويرى المستر سمنر ويلز، وزير خارجية أمريكا السابق (إن وجود هيئة الأمن الدولية بعد الحرب سيكون مرهوناً باستعداد روسيا وبريطانيا والولايات المتحدة للعمل معاً).
إن تحالف الروسيا وبريطانيا والولايات المتحدة (نهض على أسس المصالح الجوهرية الدائمة) من حيث أن هذه المصالح، وإن اختلفت بين الدول، تقتضي الإجماع على التخلص أولاً من العدو المشترك. وفيا يتعلق بتواتر الأحاديث (عن نشوب خلاف بين الدول الكبرى الثلاث حول بعض المسائل المتصلة بضمان سلامة العالم، قال المرشال استالين: هناك خلافات بطبيعة الحال وقد أوضحت قرارات مؤتمر دومبرتون أوكس حزم الجبهة المعادية للألمان. . . والتحالف (سيصمد أيضاً لامتحان المراحل الأخيرة من هذه الحرب. . . بل يجب علينا أيضاً أن نجعل من المستحيل وقوع أي اعتداء أو حرب جديدة إذا لم تكن نهائياً فعلى الأقل لوقت طويل)
ويبدو أن في أمريكا نفسها من يعترض على أصحاب المشروع من هذه السياسة فيقول أنها (طريق الدولة العظمى) وقد قطع مراراً من قبل، وأنه يبدأ في الأغلب بفكرة (مثالية) ولكنه ينتهي دائماً بمعارك دموية. فالدول العظمى تتولى أمر العالم (بتحالف سلمي) ينتهي (بمناطق نفوذ) وكل دولة كبرى تسرع في الأخذ بأساليب القوة في منطقتها، والمناطق تتزاحم وتتصادم. يعد سمنر ويلز من أعظم الساسة المطلعين الذين أنجبتهم الولايات المتحدة، وهو يقول: (ما من محالفة عسكرية تدوم، فإن كل فريق فيها لا يلبث أن يحاور الفريق الآخر في سبيل الأهداف الفردية الخاصة)
ويقول آخر: (إن الحرب لا يمكن أن تمنعها إجراءات جماعة عامة، والنظام العالمية لا يمكن أن يحرسه الشرط. على أننا نستطيع أن نقيم مجلساً عالمياً تتشاور فيه الحكومات، وتحاول أن تتفق. فإن المسائل التي تعدها الدول حيوية لا يمكن أن تقرر بالتصويت. أن الولايات المتحدة تحتاج الآن إلى الدفاع عن نفسها - شانها في ذلك شأن الدول الأخرى في التاريخ - بالدبلوماسية والسياسة والسلاح. . . ولا يمكن إقامة نظام دولي إلا بعمل متسق من (جماعات) من الأول. وأنا أسمي إحدى هذه الجماعات (جماعة الأطلسي) ومن الجلي أن روسيا محور وحدة ثانية. . . فتقدم الدول الكبرى الحماية التي لا تستطيع الدولة الصغيرة أن تكفلها لنفسها، بسبب الخصائص الفنية للحرب الحديثة، وتقدم الدولة الصغيرة التسهيلات الاستراتيجية اللازمة للدفاع المشترك. . . ولقد اهتدت الأمم الأمريكية إلى سياسة ثبتت فائدتها، وإن كانت لم تبلغ بعد مرتبة الكمال. وقد كان من الممكن أن تفضي إلى إمبراطورية أمريكية؛ غير أنها أفضت إلى بدعة في الشؤون الإنسانية هي البديل الصحيح الوحيد من الإمبراطورية، وهو ما تسميه (سياسة الجوار الحسن)
وإذا كان هذا الحسن بديل الإمبراطورية، والتصادم من سوس الإمبراطوريات أو الدول العظمى أو مناطق النفوذ، وكانت الأنانية أس الاجتماع الإنساني، فالحق أن منع الحرب حلم الأبد.
محمد توحيد السلحدار