مجلة الرسالة/العدد 593/تعليقات على يوميات
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 593 تعليقات على يوميات [[مؤلف:|]] |
منع الحرب؟ ← |
بتاريخ: 13 - 11 - 1944 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
من آيات الكتاب الحي أنه يذكر ويوحي ويستطرد بك إلى مناسبات تشبه مناسباته وأحاديث تقترن بأحاديثه، لأنه يروي عن الحياة الإنسانية وهي متشابهة في كثير من الوقائع، متقاربة في شتى الأزمنة والأعمار. فإذا صدق الكاتب في الحكاية عنها لم يلبث القارئ أن يلمس دليل ذلك في أحاديثه ومناسباته التي تشبه ما في الكتاب من الأحاديث والمناسبات
وكذلك الكتاب الذي بين يدي وهو كتاب (من يوميات محام) لمؤلفه القانوني البحاثة والأديب المبين الأستاذ عبده حسن الزيات
والأستاذ عبده مؤلف معروف بأكثر من كتاب في أكثر من موضوع، فهو مترجم رواية اللصوص للشاعر شلر، ومترجم كتاب (حكايات من الهند) التي ظفرت بتقدير الأدباء، ومؤلف كتاب (سعد زغلول في أقضيته) وهو مرجع في تاريخ القضاء وتاريخ الزعيم
أما كتابه الجديد فقد يوهمك أنه كتاب محامين لأنه (من يوميات محام) كما جاء في عنوانه، ولكنه في الواقع مما يقرأه المحامي وصاحب القضية كما يقرأه من لا يلم بالقانون ولا يعرف ساحة القضاء، لأنه يعني أحياناً بالملاحظات النفسية والاجتماعية كلما عني حيناً بالملاحظات الفقهية والقضائية، وفي كل مسألة من مسائل الخلاف الذي يعرض على المحاكم مسألة من مسائل النفس وقصة من قصص البيوت أو الأفراد
وأدل ما فيه على الحياة كما أسلفنا أنه يوحي ويذكر ويستطرد بالقارئ إلى مناسبات كثيرة. فما قلبت صفحة فيه إلا وقفت عند حادثة تشبهها أو تقاربها أو تدعو إلى التأمل والتعقيب. ففي كل صفحة منه صفحات يضيفها القارئ إليه لو شاء، أو هو ينطوي على قطعة من كل نفس على حد تعبيره في الكلام عن ذكرياته بمدينة بور سعيد
أهدى كتابه (سعد في أقضيته) إلى صاحب الدولة أحمد زيور باشا لأنه كان عضوا في المحكمة التي كان يجلس فيها سعد رحمه الله، وكان المؤلف حريصاً على تسجيل رأي زيور باشا في زميله ورئيسه وعلى الإصغاء إلى ذكرياته في هذا الصدد من خمس وأربعين سنة
فسأل دولته عن جناية الجزيرة الشقراء وقال له: (بأن ما يهمني هو أن الحكم تضمن حملة شديدة على رجال البوليس في أسلوب عنيف قوي العبارة)
فقال غير متردد: (نعم هو سعد كان شديد على رجال الإدارة)
فذكرت تواً أحاديث سعد رحمه الله عن رجال الإدارة، وعجبت كيف تتنبأ طبيعة الرجل بما سيبلوه من بعض الناس قبل عشرات السنين، فقد كان سعد في أحاديثه وخطبه كما كان في أحكامه القضائية شديد الأنحاء على رجال الإدارة والشرطة، وسماهم في بعض خطبه ملوك النيروز الذين يدوم لهم الملك يوما ثم يزول، ولم يكن يعلم وهو يتعقب أخطاءهم بالتنديد من منصة القضاء أنه سيبتلى بهم على منصة الزعامة وسيعاني من تصرفهم أضعاف ما كان ينعاه من ذلك التصرف في شؤون الناس. وقد صدق ابن الرومي حين قال:
وللنفس حالات تظل كأنها ... بما سوف تلقى من أذاها تهدد
فلعل حالة من هذه الحالات هي التي أوحت إلى سعد أن يسبق حوادث الزمن فيقول في أسباب الحكم في قضية الجزيرة الشقراء: (وحيث إن وقوع مثل هذه التصرف بحجة إظهار الفاعل أو كشف الحقيقة أشد خطراً على النظام العام من خفاء الجاني أو تخلصه من العقاب، لأنه لا شئ أسلب للأمن وأقلق للراحة وأزعج للنفوس من أن يعبث بالنظام من عهد إليه حفظ النظام. وحيث أنه لا يصح أن تكون مثل هذه التصرفات أساسا للحكم بل لا يصح غض النظر عن المؤاخذة عليها، لأن ذلك مما يضر بالقضاء ويجعله عوناً للظلم بدلاً من أن يكون نصيراً للعدالة)
وقد طرب زيور باشا وهو يسمع هذا الكلام مرة أخرى بعد خمس وأربعين سنة، فابتسم ابتسامة الصافية كما وصفها المؤلف وقال: هذا كلام سعد. . . والفرنسيون يقولون الأسلوب هو الرجل
وأشار المؤلف الفاضل إلى قضية لي مع مصلحة التلفونات كان له الفضل في كسبها قبل أربع سنوات
قال الأستاذ عبده: (منذ يومين أرسل إلى الأستاذ عباس العقاد حكماً صدر ضده قاضياً بإلزامه بأن يدفع لوزارة المواصلات مبلغ 475 قرشا والمصروفات، قال الأستاذ أنه يريد أن يعارض في هذا الحكم تمسكاً بوجهة نظره، فإن القيمة التي طالبته الوزارة بها هي أجرة مواصلة بين تلفونين كانا له حين اصدر صحيفة الضياء فلما ترك هذه الصحيفة نقل كلا من التلفونين إلى منزل لصديق من أصدقائه وقد تولى كل من الصديقين وفاء الاشتراك الخاص به لمصلحة التلفونات ولم يبق مبرر بل لم يبق سبيل للاتصال بين التلفونين، فانهما في دارين مختلفتين عند صديقين مختلفين، فعلام إذن تستحق أجرة أو رسوم هذه المواصلة المستحيلة؟)
هذه هي الواقعة التي بنيت عليها الدعوى
وتتمة الواقعة أن أروي للمؤلف الفاضل ولحضرت القراء قصتين صغيرتين
فالقصة الأولى قصة نزاع على شجرة في بعض جهات الإقليم الذي نشأت فيه وهو إقليم مشهور باللدد في المنازعات القضائية
هذه هي الشجرة التي لا ثمر لها ولا ينتفع منها بغير الوقود بعد قطعها كانت موضع النزاع سنوات بين أسرتين، واجتمع من قضاياها عشرات الملفات وألوف الصفحات؛ وتفرعت على الدعوى المدنية فيها دعاوى جنايات شتى لا تنتهي الواحدة منها حتى تتلوها الأخرى
وكان الأحكام العسكرية يومئذ مضروبة على إقليم أسوان لاشتعال الثورة المهدية وقرب الإقليم من الحدود
فكان قاضي المدينة ضابطاً من رؤساء الضباط في فرق الجيش المقيمة بها، وضاق ذرعاً بهذه المنازعات فأمر بإعداد الزورق البخاري ذات يوم ودعا بأحد الحطابين وبأفراد الأسرتين المتنازعتين لموافاته عند الشجرة. . . ثم أمر بقطعها وإلقائها في النيل ووراءها الملفات والأوراق. . . فأراحهم واستراح
تلك إحدى القصتين
والقصة الأخرى يعلمها أديب من بلد الأستاذ عبده الزيان: دمياط
وخلاصتها أنني كنت أشتري أقة من الكمثري الخشنة التي تعرف (بالخشابي) لأنني كنت أستعين بخشونتها على الهضم في بعض الأوقات. فسامني الرجل فيها ثمانية قروش، وكانت تباع بسبعة قروش في ميدان سليمان باشا
قلت للرجل: أنها تباع بسبعة قروش عند زميلك فلان
قال: إذن خذها من فلان!
قلت: نعم آخذها من فلان، ولن آخذ شيئاً منك بعد الآن. . .
وكان اليوم قائظاً فأنفقت في الركوب إلى ميدان سليمان باشا والعودة منه عشرة قروش، لكي لا يسومني أحد من الناس أن أرضخ عن قرش واحد بالعنت والإكراه
أكانت معارضتي في قضية التلفون إذن من لدد الإقليم أم من هذه الخليقة الشخصية؟
لا احسبني أحب المنازعات القضائية لأنني أحسمها دائماً قبل الدخول فيها، ولكنني أعلم أنني كنت على استعداد لإنفاق عشرة أضعاف المبلغ الذي طلبته مصلحة التلفون قبل أن أسلمه لها بغير الحق، وإنني ما كنت ألجئها إلى المقاضاة لو علمت أنها كانت على حق فيما تدعيه
ولكن الأستاذ عبده قد أراحنا من سداد المبلغ ومن إنفاق أضعافه، لأنه وفق بدفاعه إلى تقرير مبدأ عادل في موضوع هذه القضايا، لعله قد أراح المئات من المشتركين وحق له في أموالهم جميعاً نصيب غير مقدور
ومن طرائف ما في الكتاب قصة ذلك (البريء) الذي حكم عليه بالسجن في قضية قتل لم يجنه، ولكنه كان قد جنى وأفلت من العقاب مرات
أعرف شبيه هذه القضية في سرقة عوقب عليها لص ولم يجنها وكان قد جنى غيرها ونجا من العقاب
فليس بالنادر هذا الجزاء الإلهي الذي يجري أحياناً على أيدي القضاء
ولكن الذي يحضرني في هذا الصدد مشابهة فكاهية لهذا الصواب في الخطأ، أو هذا في الخطأ في الصواب، حدثت لي يوم كنت في مراجعة التذاكر بمصلحة السكة الحديد
فقد زدت تذكرة في قسم ونقصت تذكرة في قسم آخر، وسألت في ذلك فقلت: واحدة بواحدة، ضعوا هذه في مكان تلك، فلا زيادة إذن ولا نقصان
إن جاز في حساب العدد والنقود جاز ذلك في حساب النفوس والأحكام
وكلاهما يجوز على اضطرار
ولو شاء القارئ لاستطرد من الكتاب إلى كتب على هذا المنوال، ففيه ضروب من القضايا وفيه فنون من الهوامش والتعليقات، وهو يلم أحياناً بجرائم المصادفة وأحياناً بجرائم العوارض النفسية وأحياناً بمذاهب التشريع في غير تعسف ولا إقحام، ويمزج ذلك بلمحات من السخر تستطاب في سياقها، كقوله في التعقيب على كلام مجرم ينتظر بعد خروجه من السجن أن ينصفه أقرباؤه في الميراث:
(. . . هذا مجرم لم يتحجر فؤاده بعد عشرين عاماً في قطع الأحجار. أنه حسن الظن بالناس، بل بالأقرباء أيضاً. . .) أو قوله يعاتب نفسه على إهمال المذكرات ثلاثة أشهر: (. . . إن هذه المذكرات هي هي التي حنت عليك وهي هي التي تقبلتك في صدرها واستمعت إلى هرائك وسخفك، وأصغت إلى هزلك إصغاءها إلى جدك! أتراك أنت أيضاً قد سرت إليك العدوى فأنت مدبر عمن يقبل عليك مسيء إلى من يحسن إليك) أو قوله عن القتلة أتباع الطريق الذين استباحوا القتل ولا يستبيحون الكلام في المرحاض (لأن شيخنا ينهي عن الحديث في محل الأدب، لأن الملائكة مكلفون بقيد كل ما نقول؛ فإن نحن تحدثنا فيه فقد أرغمناهم على ملاحقتنا داخله، وهذا لا يليق في حقهم!)
وترتفع نغمة الحديث أحياناً من السرد إلى الوصف البليغ بل إلى الشعر المنثور حين يعرض المؤلف للذكريات في مدينة الإسماعيلية وغيرها من مدن القناة
فهو لاشك قراءة ممتعة، ومطالعة نافعة، وكلام فيه ما يروق بالسخر والفكاهة، وفيه ما يروق بالوصف والبلاغة، وكله مما يشوق القارئ أن يرى يوما من الأيام (يوميات محام) ولا يقنع بـ (من يوميات. . .)
عباس محمود العقاد