مجلة الرسالة/العدد 592/البريد الأدبي
→ ديوان أفراح الربيع | مجلة الرسالة - العدد 592 البريد الأدبي [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 06 - 11 - 1944 |
إلى الطبيب القدير الدكتور حسين همت
يا صديقي. ويا طبيبي!
دار الحول واقتربت الساعة التي أوشكت أن تكون موعد لقاء منظور، وقد كانت عندك أفجع فراق مرهوب
مضت ثلاثة أعوام على تلك الليلة التي ناديتني فيها لتبلغني كلمة واحدة لم تزد عليها، ولكنها لا تحتمل الزيادة، لأنها وسعت من التعبير عن آلام نفسك - أيها الصديق العزيز - ما تضيق به المعجمات والأسفار
ويخيل إلي أنني أسمعها الساعة كما سمعتها منذ ثلاثة أعوام، لأن للكلمات أرواحاً تعيش وتموت، وأعماراً تطول وتقصر، وقلما تموت كلمة مرهونة بألم طويل العمر، مديد البقاء
تعودت يا صديقي وطبيبي أن أطرق جرسك في هدأة الليل لأعوذ بعلمك وطبك في أمري وأمر الأعزاء عندي، ولكنني لم أسمع صوتك يطرق سمعي في هدأة الليل إلا هذه المرة، ولم أسمع منك في هذه المرة غير تلك الكلمة الواحدة. ولكنها الكلمة التي جمعت فيها من ألمك ما لم أجمعه في مئات الكلمات
ماتت!
ولا حاجة بعدها إلى مزيد
وليس من عادتي أن أقحم العزاء على المفجوعين في ساعة الفجيعة الدامية، لأنني أحسبه اجتراء على قدس الأحزان لا خير فيه، ولكنه صوت سمعته لابد له من جواب تسمعه غير الصمت والسكون. . فقلت كأنني لا أعلم ما أقول:
(إنك رجل يا دكتور، ولن تنفعك الرجولة في مقام بعد اليوم إن لم تنفعك بالصبر الجميل في هذا المقام)
نعم يا صديقي، ويا طبيبي!
إنك رجل ذو عزيمة وجلد وإباء. صبرت على الأهوال في بلاد الأهوال، وصحبت الحرب الماضية في البلاد التركية وفي بلاد أوربا الوسطى وأوربا الشرقية يوم كانت تلك البلاد موارة بالخطوب والقلاقل، سوارة بالفتن والزلازل، تصبح في حال ولا تمسي عليه، وتمسي ولا تدري كيف يطلع عليها الصباح
وبلوت من الدنيا ما هو أقسى على النفس من أهوال الفتن والحروب: بلوت منها تقلب القلوب وغدر الصحاب وخيبة الظنون
بلوت هذا كله فما وهنت ولا شكوت ولا أجريته على لسانك إلا كسمر السامر وفكاهة المتحدث، وعبرة المعتبر بأحوال الدنيا وخلائق الناس
أنت يا صديقي رجل ذو عزيمة
ولكنك وا أسفاه رجل ذو قلب وذو ضمير. وكثيراً ما يكون القلب وحده مدداً للعزيمة، والضمير وحده ينبوعاً للصبر والأباء
وهاأنت يا صديقي تفجع في القلب فما جدوى العزيمة وما غناء الصبر وما حيلة الأباء؟
أكنت نسيت ذلك كله ساعة أبلغتني الخبر المشؤوم فأهبت منك بعزم الرجال؟
إن كنت قد نسيته في تلك الساعة فما كان اخلقني ألا أنساه، لأنني لمست شواهده قبيل ذلك بأيام، وشاءت الأقدار أن أسبقك إلى مصاب يهد القوي ويفت في الأعضاد، وشاءت الأقدار أن تكون أنت في لواعج الخوف من وقوع مصابك الأليم ولا علم لي بشيء من ذاك، لأنك كنت تواسيني مواساة الصديق والطبيب، وتعوذ من نفسك بعزم أولي العزم، وتكتم عني ما كنت فيه
فلما برح بي الألم ولجأت إليك أستمد منك عوناً لهذه البنية ينصرها على البرحاء علمت ما يشغلك، وعلمت مبلغ صبرك على مغالبة الخوف والفزع والبلاء
علمت أنك هجرت بيتك ولزمت حجرة المستشفى منذ أيام، وتركت محرابك الذي لا تتركه لتقيم إلى جوار تلك العزيزة التي تودع الحياة: تلك العزيزة التي كان منها مدد قلبك ومدد عزمك. . . تلك الزوجة الرؤم بل ذلك الملك الكريم الذي سكنت إليه كما تسكن السفينة إلى الميناء الأمين بعد هوج البحار
علمت أنك تأوي إلى المستشفى منذ أيام ولم أعلم ما حقيقة الداء وما مبلغ الرجاء في الشفاء، وكان أغلب الظن عندي أنها عقدة من عقد الجراحة يحلها مبضع الجراح. فلما ذهبت إليك قويت عندي هذا الظن وتمالكت وتجلدت وألححت في السؤال عني لتطلق لساني وتنسيني ما أنت فيه وهاأنت يا صديقي تفجع في القلب فما جدوى العزيمة وما غناء الصبر وما حيلة الآباء؟
حين دق الجرس في هدأة الليل، وسمعت صوتك يجهش بالبكاء، ويلقي إلي بتلك الكلمة القصيرة في حروفها، الطويلة في عقابيلها - لم يخطر على لساني إلا الصبر أثوب بك إليه، ولولا ذهول المفاجأة لخطر لي أن الصبر قد أصيب في المقتل المنيع، لأنه قد أصيب في القلب الذي يعتصم به الرجل الصبور، وكثيراً ما يتراجع الرجال بعزائمهم إلى قلوبهم، فإذا أصيب القلب - فإلى أين يتراجعون؟
ذاك هو اللغم في الميناء، وأنه لأهول من الإعصار في هوج البحار
واليوم وقد دار الحول دورته الثالثة لا أحاول العزاء، لأن العزاء تخفيف من الأسى والأسى على الأعزاء عزيز مثلهم، لا يروقنا أن نمسه بتخفيف
إنما أحاول ترويض الحزن بشيء من التذكير
ولا أذكرك إلا بمصائب الحياة إلى جانب مصائب الموت. فوالله يا صديقي أن الحياة لأقسى من الموت في أكثر من مصاب، وأن قسوة الموت لرحمة في بعض الأحايين عند قسوة الحياة، فليست أوجع السهام مخبوءة لنا في جوف التراب، بل هي مخبوءة لنا في رحب الهواء
إن فقدان الموت يورثنا الألم ولكنه الألم الذي لا نهون به ولا نخجل من قبوله، وقد نشرف أمام أنفسنا بالصبر عليه والحنين إليه
وكم من فقدان في الحياة يورثنا الألم الذي يخجل ويضيم، لأنه ألم لا يجمل بنا أن نحسه ولا يشرفنا الصبر عليه والحنين إليه، وإنما يشرفنا أن نقتلعه من جذوره كلما استطعنا، وقد لا نستطيع
كل مفقود بالموت يستحق الحزن عليه، وكل مفقود بالحياة فالحزن عليه كثير
ولأكرم لنا وللأعزاء أن نفقدهم موتى ولا نفقدهم أحياء، وما يرضينا أن نفقدهم على حال من الحالين لو كان لنا اختيار بين الأمرين، ولكننا مسيرون يا صديقي للقضاء، ولا حيلة يا صديقي للموتى ولا الأحياء، مع حكم القضاء
عباس محمود العقاد
شرح وحدة الوجود في غير هذا المكان من الرسالة يجد القراء كلمات كتبتها لنفسي، ولم أكن أنوي نشرها في هذا الوقت، ولكن المقال الأخير للأستاذ دريني خشبة حملني على تقديمها لمجلة الرسالة، لتكون جواباً على اعتراضات كثيرة واجهني بها كثير من أصدقائي، وتمنوا أن أجيب، ليستطيعوا الإجابة عني حين يستطيل أعدائي
وأقول بعبارة صريحة: إن الأستاذ دريني بعيد كل البعد عن نظرية وحدة الوجود، ومقالاته في نقضها تشهد بأنه لا يريد أن يسمع ما نقول في تأييد هذه النظرية، وأنه يحرص على أن تكون كل فكرة موصولة بالدين الإسلامي، مع أني قلت له أني لا أجعل الإسلام في بالي حين أواجه معضلات الوجود، لأن الإسلام ينهانا عن مواجهة تلك المعضلات
وقراء الرسالة يشهدون أني فررت من الميدان حين رأيت أن ثباتي فيه يعرضهم لبلبلة فكرية لا أريدها لهم بأي حال، وأنا القائل بأن المجد كالرزق فيه حرام وحلال، وأنا لهذا أبغض الشهرة المجلوبة بإيذاء الناس
وقال قوم أنه كان يجب أن أرد على الأستاذ معروف الرصافي، وأقول أني لن أرد عليه، لأنه أكرمني بنقد آرائي، وأنا أحترم من ينقدون آرائي بإخلاص. . . وقد قلت مرة إن الذوق خير ما دعا إليه الأنبياء، ولهذا المعنى لن أناقش الأستاذ دريني، لأنه من أعز أصدقائي، وإن كان ينفر من آرائي
وأنتهز هذه الفرصة فأسجل بيتين هما خير ما قال صديق في الشوق إلى صديق، وهما تحية من الشاعر عبد الرحمن البناء:
لك يا ابن الغُرِّ الميامين نفسٌ ... خُلقت من مكارم الأخلاق
فرَّقتنا الدنيا فهل يا زكيُّ ... أنا باق إلى اللقاء، أنا باق
سأراك يا أيها الشاعر إن سنحت فرصة لزيارة بغداد، وسأراك إن تفضلت بزيارتي في وطني، فأنا بحمد الله من أكابر الأغنياء في وطني، وسيكون من الشرف أن أهدي إليك داراً في سنتريس هي طيف من دارك في بغداد، يا شاعراً سابق الرصافي إلى إكرامي في بغداد.
زكي مبارك حول أبي فراس الحمداني
إلى مترجمي دائرة المعارف الإسلامية
قرأت ترجمة أبي فراس في دائرة المعارف الإسلامية، فاسترعى نظري أمران خالف فيهما وجه الرأي مترجمو هذه الدائرة، والواجب العلمي يقضي بالتنبيه إليهما
أما الأمر الأول فما جاء في هذه الترجمة من قولهم: (وقبض عليه (أي أبي فراس) للمرة الثانية عام 351هـ (962م) وسيق إلى القسطنطينية وسجن فيها عدة أعوام، ونظم في ذلك الحين مراثي مؤثرة رثى بها أفراد أسرته، ومن بينها مرثيته المشهورة في أمه التي ترجمها أهلواردت وهذا خطأ واضح؛ فإن أبا فراس لم يرث أمه أصلاً؛ لأنه مات قبلها كما أجمع على ذلك مؤرخوه
أما القصيدة التي يشير إليها بروكلمان الذي كتب هذه الترجمة، فليست قصيدة رثاء لوالدته، ولكنها قصيدة أرسلها إليها وقد ثقل من الجراح التي نالته، ويئس من نفسه فكتب إلى أمه كأنه يعزيها، وأول هذه القصيدة التي ترجمها أهلواردت إلى الألمانية
مصابي جليل والعزاء جميل ... وظني بأن الله سوف يزيل
والأمر الثاني قولهم: (وتمتاز أشعاره بطابع شخصيته القوي الواضح، وهي أقرب ما تكون إلى اليوميات. ولو أنها لا تختلف في أسلوبها عن أشعار معاصريه، وهي ليست في روعة أشعار المتنبي)
وقد نقل المستشرق المعروف بلاشير في كتابه عن المتنبي (ص330) رأي بروكلمان الذي ذكره في دائرة المعارف الإسلامية، وهو يخالف هذه الترجمة التي نقلناها إذ يقول: , ? , -
أي أن بروكلمان، مثل فون كريمر، يضع أبا فراس في مرتبة أعلى من مرتبة أبي الطيب. ومنه يتبين الفرق بين ما نقله بلاشير عن بروكلمان في دائرة المعارف وما ترجمه مترجمو هذه الدائرة إلى اللغة العربية.
(حلوان)
أحمد أحمد بدوي مدرس بحلوان الثانوية للبنين
الهكسوس ومدة حكمهم لمصر
اختلف الأستاذان سيد قطب وصلاح ذهني في تحديد مدة حكم الهكسوس لمصر. فهذه المدة في رأي الأستاذ ذهني مائتا عام أو أقل مستنداً في ذلك إلى الفصل الذي كتبه الدكتور أبو بكر في كتاب (المجمل في تاريخ مصر العام)، وهي في رأي الأستاذ سيد قطب خمسمائة عام مستنداً إلى جوستاف لوبون في كتاب (الحضارة المصرية القديمة)، وهذا فارق كبير في التقدير يحتاج إلى كثير من التحقيق
يقرر الدكتور أبو بكر أن الهكسوس دخلوا مصر عام 1710 ق. م. وطردوا منها نهائياً عام 1580 ق. م. فتكون مدة حكمهم قرناً ونصف قرن ويقدر الأستاذ برستد في كتاب (تاريخ مصر من أقدم العصور إلى الفتح الفارسي) المدة بين حكم الأسرة الثالثة عشرة (وهي التي بعد انحلالها أغار الهكسوس على مصر)، وبين نهاية حكم الأسرة السابعة عشرة بمائتين وثمانية أعوام (1788 - 1580ق. م) بما في ذلك مدة حكم الهكسوس، ويؤكد أن مدة حكمهم لم تزد على مائة عام، ويجعل المسيو دريتون في كتابه: , , مدة حكمهم بمائة وخمسين عاما (1730 - 1580ق. م)
أما الذين قالوا ببقاء الهكسوس بمصر خمسة قرون. فلا أذكر منهم غير المؤرخ اليهودي جوسيفوس الذي زعم أنه نقل عن ماتينون أنهم استمروا يحكمون مصر 511 عاماً. ولكن برستد يقرر أنه لم يوجد على الآثار ما يؤيد كلام ماتينون، كما يقرر الدكتور أبو بكر مبالغته مدة حكم الهكسوس
ويرجح الأستاذ دريتون حدوث المحاولات التي انتهت بطرد الهكسوس بين (1680 - 1580ق. م)، ويورد قائمة بأحد عشر ملكاً سماهم ملوك الأسرة السابعة عشر حدثت في أيامهم تلك المحاولات، فتكون مدة هذا النضال مائة عام وليست مائتين أو مائة وخمسين كما يحاول الأستاذ قطب تأويل كلام الأستاذ ذهني
هذا ونأمل أن يتقدم أحد المشتغلين بتاريخ مصر القديم والمهتمين بعصر الهكسوس بصفة خاصة، وأقصد به الأستاذ الدكتور باهور ليعرض عصر الهكسوس عرضاً سليماً صحيحاً ويجلو لنا بصفة خاصة مسألة العجلات الحربية، ولا يخفى على دارسي تاريخ مصر القديم ما كان للهكسوس من أثر كبير في ذلك التاريخ
وبعد فأنتهز هذه الفرصة لأعرب عن أسفي لاستعمال ذلك الأسلوب الذي غلب على الأستاذين المتساجلين ورمي أحدهما الآخر بالتبجح والجهل، فما كانت الحقائق التاريخية لتخضع لمثل هذا الجدل، بل لابد أن يدحضها منطق سليم وتؤيدها أدلة ثابتة قاطعة
وكم أود كذلك لو انتفع النقاد بما كتبه الدكتور صبري في العدد 590 من الرسالة، فهذا دستور سليم لمن أراد نقداً أدبياً صحيحاً، فقد سئمنا ذلك الأسلوب الذي جرت عليه المساجلات والمناقشات في السنين الأخيرة، وطالما تأذينا من ذلك الصغار الذي يقلب على كتابة كبار الكتاب، وكم نرجو أن تكون الحجة هي الفاصل والعقل هو الحكم، والخلق الأدبي هو الذي يسود حتى يتخلص النقد الأدبي من تلك المهاترات التي لا تقدم ولا تؤخر، بل تنزل من قيمة كاتبها درجات، ويبعث في مصر الرأي العلمي الصحيح الذي يزن الأمور بميزان النقد الصحيح فلا يكون النقد أداة هدم فحسب.
(الإسكندرية)
مصطفى كمال عبد العليم
ليسانسه في التاريخ