مجلة الرسالة/العدد 590/امتحان الأستاذية الأزهرية
→ القضايا الكبرى في الإسلام | مجلة الرسالة - العدد 590 امتحان الأستاذية الأزهرية [[مؤلف:|]] |
طاقة زهر ← |
بتاريخ: 23 - 10 - 1944 |
بعد أربعة أعوام
للأستاذ زكي الدين إبراهيم بدوي
منذ نيف وثلاث سنوات حضرت امتحانات العام الدراسي الأول لدرجة (الأستاذية) الأزهرية، وأبديت على صفحات الرسالة الغراء عدة ملاحظات عنت لي بشأن المحاضرات والرسائل التي اشتملت عليها تلك الامتحانات. ولما كنت قد قضيت معظم المدة المنصرمة بعيداً عن البلاد في مهمة تعليمية بالعراق عدت منها أخيراً، فقد بدا لي أن أحضر بعض امتحانات هذا العام لأقف على مدى تطور هذه الدراسة الجديدة في الأزهر بعدما سلخت امتحاناتها أربعة أعوام
ويسرني أن أبدا اليوم ملاحظاتي بتسجيل بعض خطوات التقدم في النواحي التي كنت قد تناولتها بالنقد في كلمتي الأولى.
فمن ناحية الشكل أخذت إدارة الكليات الأزهرية بطرف من النظم الحديثة المتبعة في مناقشات الرسائل، فأعدت مدرجات خاصة لهذه المناقشات بعدما كانت تجري في غرف ذات مقاعد منبسطة. وأصبح النظام الحاضر يقضي بأن يقدم للمناقشات بعرض موجز يلم فيه صاحب الرسالة بعناصر البحث الذي تشتمل عليه رسالته. فيتيح بذلك لجمهور المستمعين من الطلاب وغيرهم متابعة هذه المناقشات والإفادة منها. كذلك أخذ معظم حضرات أعضاء اللجان بالتقليد الجامعي الجميل، الذي يقضي بأن يبدءوا ملاحظاتهم على الرسائل بالتنويه بما يستحق التنويه من مواطن الإجادة فيها مما ينطوي على تشجيع نافع لأصحابها، ومكافأة أدبية لهم على ما بذلوا من جهد، وحفز لهم غيرهم
ومن ناحية الموضوع لمست تقدماً محسوساً لمستوى الطلاب العلمي تجلى في عرض الرسائل والمناقشات التي دارت حولها مما يدل على ارتقاء وسائل هذه الدراسات في فروعها المختلفة
على أنني حين أبادر إلى تسجيل بوادر التقدم الآنفة الذكر مقدراً للمشرفين على هذا النوع من الدراسة جهودهم التي أبلغته هذا المبلغ من النهوض على حداثة عهد الأزهر به - لا يسعني مع ذلك أن أغفل التنبيه إلى ما لا يزال بارزاً من مواطن القصور والتقص فأول ما يسترعي الانتباه من ذلك أن هذه الدراسات تعوزها الطريقة الحديثة للبحث والعرض والتصنيف. فالرسائل وإن كانت قد تزحزحت قليلاً عن طرائق الأزهر التقليدية التي كانت تضفي على الآراء والمذاهب القديمة هالة من التقديس تجعلها بمنجاة من سهام المناقشة الطليقة والنقد الحر - إلا أنها مازالت في مجموعها محدودة بحدود التجميع والتنظيم للأبواب العامة في مختلف العلوم، ولا تخرج عن هذا النطاق إلا خروجاً جزئياً بأبحاث عابرة متفرقة يقع عليها قارئ هذه الرسائل في غضون صفحاتها دون أن يحس بوحدة فكرية تربط بين عناصرها وتوجهها وجهة معينة مما يبرز فيه أثر المجهود الشخصي الذي هو طابع التصنيف الحديث. يضاف إلى ذلك أنه حتى في نطاق التجميع والتنظيم لا يبدو في الرسائل والمحاضرات الحالية - فيما عدا القليل منها - أثر المجهود الشخصي في التجديد والابتكار في العرض
والأصل الذي تقضي به الطريقة الحديثة المتبعة في مثيلات هذه الرسائل والمحاضرات أن يتناول كل منها بالبحث نقطة معينة - لا باباً من الأبواب العامة - يدرسها الباحث دراسة مستفيضة من جميع نواحيها وما يحيط بها من ملابسات، ثم يعمل فكره ورأيه الخاص في ذلك كله، حتى يخرج بفكرة عامة تنتظم عناصر البحث وتقرر له كياناً مستقلاً يشهد عرضه لصاحبه بالبداء والابتكار، فيضيف بذلك جديدا إلى الموضوع الذي يعالجه، ومن شأن ذلك أن يثبت مقدرته على الاضطلاع في مستقبل حياته العلمية بإضافات جديدة من هذا القبيل يسهم بها في تقدم العلم والفن أن هو وفق إلى ابتكار آراء أو نظريات جديدة، أو يساعد على ذلك - على الأقل - إن وقف به جهده عند حد التجديد في العرض والتأليف المستساغ بين عناصر من الأبحاث جديرة بأن يبذل الجهد في تنظيمها تنظيماً علمياً جديداً وجمع شتاتها على هذا النحو. وهذا هو الهدف الأول للأبحاث والدراسات الأكاديمية المختلفة
كذلك يسترعي الانتباه في رسائل الأستاذية أن أصحابها لا يراعون فيها الطرائق الحديثة في التبويب والتقسيم والفهارس، فما يزال بعضهم يجري على الطرائق القديمة في ذلك متبعاً التقسيم التقليدي إلى أبواب عديدة وفصول، ومقتصراً على فهرس واحد في آخر الرسالة. وقليل منهم يحاول محاكاة الطريقة الحديثة في التبويب والتقسيم، لكنه يسير في ذلك على غير هدى لعدم وقوفه على أصول هذه الطريقة، فيبدو تقسيماً غير منطقي يقدم فيه ما حقه التأخير ويؤخر ما حقه التقديم وتوضع بعض عناصر البحث في غير المكان المناسب من أقسامه مما يشيع فيه الفوضى والاضطراب والتكرار أحياناً، فيشوه العرض ويعوق الإفادة منه ويصد عنها
والطرائق الحديثة في التبويب والتقسيم تقضي بالبدء بوضع خطة للبحث تقررها وحدته وكيانه المستقل بعد اتضاحه في ذهن الباحث، ويراعي فيها التأليف بين عناصره المتشاكلة لدرجها تحت أقسام رئيسية قليلة العدد، ثم يتدرج من ذلك إلى تبويب كل من هذه الأقسام، ثم إلى تفصيل الأبواب، فالتمييز بين المباحث المختلفة فيها، وتفريع كل من هذه المباحث إلى فروع، والتمييز بين النقط التي يشتمل عليها كل فرع وهكذا بحسب تشعب موضوعات البحث حتى يعرض في ثوب قشيب نسج على أساس منطقي متماسك البنيان متسق الحلقات يروق القارئ ويساعده على الإحاطة بأطرافه والوقوف على الفكرة أو الفكر الرئيسية التي يقصد الباحث إلى إبرازها. أما الفهارس في المصنفات الحديثة، فيراعى فيها التعدد بحيث تشتمل على ثبت للموضوعات بحسب ترتيب ورودها في البحث، وآخر لها بحسب ترتيبها الأبجدي، وثالث للمراجع، ورابع للأعلام، وخامس لأسماء البلدان وهكذا بحسب ما يشتمل عليه البحث ويتطلبه تيسير المراجعة
ولاتباع الطرائق الحديثة أهمية خاصة في موضوعات الدراسات الأزهرية التي تعتمد على مراجع عتيقة كتبت بأساليب القرون الخالية، ومن حق الناس على الأزهريين أن ينتظروا منهم - على الأقل - إفراغ هذه الموضوعات في قوالب جديدة تناسب عقلية الجيل الحاضر وتتفق وطرائق تفكيره
ولكن من ذا عساه أن يوجه شباب الأزهر التوجيه الذي يهيئهم لأداء هذه الرسالة؟ إن الطلاب لا يستطيعون الاهتداء بأنفسهم إلى طرائق البحث والعرض الحديثة، ولا مندوحة لهم من الاعتماد على أساتذتهم في الأخذ بأيديهم في هذا السبيل. وهنا نواجه من جديد مشكلة الأزهر العتيدة بل مشكلة الإصلاح العامة حيثما بدت الحاجة إلى الإصلاح في معاهد التعليم، وأعني بها مشكلة المدرس أو الأستاذ. وقد حاول الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي في مشيخته الأولى علاج هذه الناحية يندب عدد كبير من أساتذة الجامعة للتدريس في الأزهر، وإيفاد بعوث أزهرية إلى الخارج عاد أكثر أفرادها إلى مصر بعد انتهاء دراستهم وانتظموا في سلك أساتذة الأزهر. لكن عدد هؤلاء من القلة بحيث لا يفي بإحداث هذا التغير الجوهري في طرائق التعليم، وقد وقفت ظروف الحرب الحاضرة إيفاد البعثات للخارج، كما فتر حماس الأزهر للاستعانة بأساتذة الجامعة الذين كان في مقدورهم حقاً المساهمة في التوجيه الدراسي المنشود، ويؤسفني أن أقرر أن معظم من بقي به للآن من الأساتذة غير الأزهريين هم من تلاميذ المدرسة القديمة الذين لا يختلفون كثيراً عن جمهرة شيوخ الأزهر الحاليين من حيث الصلاحية للتوجيه الأكاديمي
وإذا كان لي بمناسبة ما أبديته من الملاحظات المتقدمة على دراسات (الأستاذية) الأزهرية أن أنبه إلى ما أعتقده كفيلاً بالإصلاح الممكن في الظروف الحاضرة، فإنني أتوجه إلى المسؤولين في الأزهر والغيورين على نهضته بالمقترحين التاليين:
1 - العودة إلى الاستعانة - في نطاق واسع - بكبار الأساتذة الذين إليهم يرجع الفضل في توجيه سياسة التعليم الجامعي في مصر إلى الوضع الذي استقرت عليه الآن، وبخاصة من جمعوا في ثقافاتهم بين الدراسات الأزهرية وغيرها، سواء منهم من بقوا في الجامعة حتى الآن ومن خرجوا منها، دون ما نظر إلى الاعتبارات الأجنبية عن التعليم والتي وقفت حتى الآن عقبة في سبيل الاستعانة بهؤلاء الأفاضل الذين يستطيعون وحدهم الاضطلاع بوضع حجر الأساس للتطور المنشود
2 - الاستعاضة مؤقتاً عن البعثات الأزهرية الخارجية غير الميسورة الآن ببعثات داخلية توفد إلى كليتي الآداب والحقوق بجامعتي فؤاد وفاروق، ولهذا سابقة حاولها الأستاذ المصلح الكبير السنهوري بك لترقية تدريس الشريعة في كلية الحقوق بجامعة فؤاد في عهد عمادته لهذه الكلية، وكانت فكرة جليلة لم تمهله الظروف السياسية - مع الأسف - حتى يستطيع تنفيذها، فلا مانع الآن من الأخذ بها في نطاق واسع لصالح الأزهر وثقافته
وقبل أن أختتم هذه الكلمة أوجه النظر إلى ما سبق أن نهبت إليه في كلمتي الأولى من وجوب قيام الأزهر بطبع الممتاز من وسائل الأستاذية على نفقته مع الأخذ بنظام تبادل الرسائل مع الجامعات الأخرى، لأن في ذلك شحذاً للهمم، وإذاعة لمجهودات الأزهريين، وتقريباً نافعاً بين ثقافتهم وأنواع الثقافات الأخرى.
إبراهيم زكي الدين بدوي
المتخرج في الأزهر وكليتي
حقوق باريز والقاهرة