مجلة الرسالة/العدد 590/القضايا الكبرى في الإسلام
→ قضية المرأة! | مجلة الرسالة - العدد 590 القضايا الكبرى في الإسلام [[مؤلف:|]] |
امتحان الأستاذية الأزهرية ← |
بتاريخ: 23 - 10 - 1944 |
قضايا ابن تيمية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 9 -
أخذ الجمود في العلم يخيم على العقول منذ أقفل باب الاجتهاد، وأخذ الحجر على العلماء يتسع قرناً بعد قرن، حتى استحكمت حلقات الجمود في القرن السابع الهجري، فحرم الأخذ في الأصول بغير مذهب الأشعري، وفي الفروع بغير مذاهب الأئمة الأربعة، ومنع الناس من النظر في الفلسفة وعلومها، وبهذا وقف المسلمون عن النهوض في ميدان التنافس بين الأمم، فتأخروا وسبق غيرهم، وصاروا إلى ما نشاهده الآن، مما لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى
وبينما كان أهل ذلك القرن يغطون في نومهم، ظهر بينهم ابن تيمية يحطم بعض تلك القيود، ويدعو إلى فتح باب الاجتهاد، ويحاول الخروج في الأصول على مذهب الأشعري، وفي الفروع على مذهب الأئمة الأربعة، ويحارب بدعة التصوف التي لعبت بعقول العامة، وجعلت دينهم ضلالات وخرافات
وهذا الإمام المصلح هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن عبد الله بن القاسم بن تيمية، ولد سنة 661هـ بمدينة حمران، وأخذ على علماء عصره، وأكثر من المطالعة والقراءة، حتى فاق الأقران، وصار عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان، والتوسع في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السلف والخلف
وقد دعا في الأصول إلى الأخذ بمذهب السلف من الوقوف عند ظاهر النصوص، وترك التأويل الذي يلجأ إليه الأشعري وغيره، وقد جره هذا إلى القول بأن الله في السماء، أخذا بظاهر قوله تعالى في الآية - 16 - من سورة الملك: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور) ثم أخذ يدعو إلى منع ما شاع في عصره من التوسل في قضاء الحاجات بغير الله تعالى من الأنبياء والأولياء، ويفتي في الفقه بما قام الدليل عليه عنده، ولو لم يكن موافقاً لما قال به الأئمة الأربعة، ومن ذلك فتواه بأن الطلاق الثلاث من غ تخلل رجعة بمنزلة طلقة واحدة
فقامت عليه بذلك قيامة العلماء والفقهاء والمتصوفة، وشكوه إلى السلطان المرة بعد المرة، وكانت أولى شكواهم في شهر ربيع الأول سنة 698هـ فبحث في شكواهم، وحكم بمنعه من الكلام فيما شكوا منه، ثم شكوه ثانياً إلى السلطان في سنة 705هـ فورد مرسوم من السلطان إلى نائب دمشق بامتحانه فيما يعتقده، فعقد له مجلس في (7 من رجب سنة 705) سئل فيه عن عقيدته، فأملى عليهم منها، ثم أحضروا عقيدته التي تسمى الواسطية، فبحثوا في مواضع منها، ثم اجتمعوا في (12 من رجب سنة 705) وندبوا الصفي الهندي ليناقشه، ثم أخروه وقدموا الكمال الزملكاني، وقد انتهى الأمر في هذا التحقيق بإشهاده على نفسه أنه شافعي المعتقد
وكان لابن تيمية أشياع وأتباع، فأشاعوا أنه انتصر على خصومه، فغضبوا وقدموا شخصاً من أتباعه إلى الجلال القزويني نائب الحكم بالعادلية، فحكم بتعزيره؛ وكذلك فعل الحنفي باثنين منهم، فقامت فتنة كبيرة بين الشافعية وغيرهم في دمشق، وقد اعتزل فيها القاضي ابن صصري الشافعي القضاء، احتجاجاً على ما أصاب الشافعية من الأذى
فطلب القاضي ابن صصري وابن تيمية إلى القاهرة، وكان أمراؤها قد انقسموا في أمره، فقام الأمير بيبرس الجاشنكير والقاضي المالكي بالإنكار عليه وعلى أتباعه من الحنابلة، وقد اشتد الأمر عليهم حتى صفع بعضهم، وانتصر له الأمير سلار، فلما وصلا إلى القاهرة قدم ابن تيمية في (12 من شهر رمضان سنة 705) إلى القاضي المالكي لينظر في دعوى خصومه عليه، فقال ابن تيمية: هذا عدوي. ولم يجب عن الدعوى، وقد كرر عليه السؤال فأصر على الامتناع عن الجواب، فأقامه القاضي من المجلس، ثم حكم بحبسه فحبس في برج، وكان الناس يترددون عليه فيه، فلما بلغ القاضي ذلك قال: يجب التضييق عليه إن لم يقتل، وإلا فقد ثبت كفره. فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجب
ثم أرسل مرسوم إلى دمشق فقرئ في الجامع على أهلها، ونودي في شوارعها بأن من أعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله، وجمع الحنابلة من الصالحية وغيرها فأشهدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإمام الشافعي، وكان قاضي الحنابلة ضعيفاً ليست له مكانة في العلم، فبادر إلى إجابتهم في ذلك المعتقد، وقد استكتبوه فكتب لهم بذلك وكان قاضي الحنفية شمس الدين بن الجريري، وهو عالم شجاع لا ترهبه قوة السلطان، ولا يخشى في الحق لومة لائم، فانتصر لابن تيمية على خصومه، وكتب محضراً أثنى عليه فيه بالعلم والفهم، وذكر أن الناس لم يروا مثله منذ ثلاثمائة سنة، وكان جزاؤه على هذه الجرأة العزل من القضاء
وقد سعى الأمير سلار في تخليص ابن تيمية من الحبس، وأحضر القاضي الشافعي والمالكي والحنفي وكلمهم في إخراجه، فأجابوه إلى ذلك بشرط أن يرجع عما أخذ عليه في الدعوى، وقد أرسلوا إليه مرة بعد مرة فامتنع من الحضور إليهم، وآثر الحبس في الجب على أن يرجع عن عقيدته، ولم يزل في ذلك الجب إلى أن شفع له أمير آل فضل، فأخرج من الحبس في الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول، وأحضر إلى القلعة وعقد لمباحثته مجلس من الفقهاء، ثم كتب محضر بأنه قال: أنا أشعري
ولكنه لم يكد يخلص من أولئك الفقهاء حتى قامت عليه قيامة المتصوفة، وكان زعيمهم في الثورة عليه ابن عطاء صاحب الحكم المشهورة، فذهبوا إلى القلعة في العشر الوسطى من شوال وادعوا على ابن تيمية أنه يطعن في شيوخ الطريقة، وأنه أنكر الاستغاثة بالنبي ﷺ، فأمر بتسييره إلى الشام على خيل البريد، وكان القاضي المالكي قد اشتغل عنه بمرض أشرف منه على الموت، ولكنه لم يكد يعلم بمسيره إلى الشام حتى أرسل إلى النائب فرده من نابلس، وأقيمت عليه دعوى عند القاضي ابن جماعة، وشهد عليه شرف الدين ابن الصابوني، فحكم عليه ثانياً بالسجن في حارة الديلمة، وقد نقل إلى القاضي أن جماعة من أتباعه يترددون عليه، وأنه يكلمهم فيما أنكر عليه مما تقدم، فأمر بنقله إلى الإسكندرية، وقد حبس هناك في برج شرقي، وكان موضعه فسيحاً، فقصده أصحابه هناك، وصاروا يدخلون إليه للقراءة عليه، وبحث ما يحتاجون إليه من المسائل، ولم يزل محبوساً إلى أن عاد الناصر إلى السلطنة، فشفع فيه عنده، فقبل الشفاعة فيه وأمر بإحضاره من الحبس، وكان حضوره إليه في (18 من شوال سنة 709) فأكرمه وجمع القضاة وأصلح بينه وبين القاضي المالكي، وقد اشترط هذا القاضي في صلحه ألا يعود إلى ما أخذ عليه من الأقوال، فقال له الناصر: قد تاب
وقد ثار خصومه عليه بعد ذلك في شهر رمضان سنة 719هـ، لأنه أفتى بأن الطلاق الثلاث من غير تخلل رجعة بمنزلة طلقة واحدة، ولم يهدأوا حتى عقد له مجلس في رجب سنة 720هـ، فحكم عليه بالحبس في قلعة دمشق، وقد مكث فيها إلى أن أخرج منها في 10 من المحرم سنة 721هـ
ثم ثاروا عليه في شعبان سنة 722هـ، لأنه أفتى بمنع زيارة النبي ﷺ، فأعيد اعتقاله بتلك القلعة، ولم يزل بها إلى أن مات في 20 من شهر ذي القعدة سنة 738هـ، وكان يوماً مشهوداً، حتى ضرب المثل بكثرة من حضر جنازته، وأقل ما قيل في عددهم خمسون ألفاً
وهذه القضايا الخطيرة تمثل لنا أروع معركة علمية قامت في الإسلام بعد إقفال باب الاجتهاد، وتبين لنا كيف أقفل هذا الباب بالقهر والعسف، وأنه لم يقفل بالدليل والإقناع، ولا لمصلحة عامة أو خاصة اقتضت حظره على العلماء
وكم كان ابن تيمية موفقاً في محاولته فتح باب الاجتهاد في الفروع، وإيثاره فيها الدليل من الكتاب والسنة على أقوال الأئمة المعروفين، وكم كان موفقاً أيضاً في حملته على أولئك المتصوفة الذين حشوا أدمغة المسلمين كثيراً من الجهالات والخرافات، ومما أنشد له في ذلك على ألسنة فقرائهم:
والله ما فقرنا اختيارُ ... وإنما فقرنا اضطرارُ
جماعة كلنا كسالى ... وأكلنا ما له عيار
تسمع منا إذا اجتمعنا ... حقيقة كلها فشار
ولكنه لم يكن موفقاً في حجره على العقول في الأصول، والحكم عليها بالوقوف عند ظواهر النصوص، وموقفه في هذا غير منسجم مع موقفه الأول، وقد وقع بهذا فيما وقع فيه خصومه من الحجر على حرية الرأي، وحصر الدين في حدود ضيقة يشتد فيها الحرج على العقول، ولا تتسع للاجتهاد الذي لا شطط فيه ولا انحراف، ولقد كان خصومه منطقيين في جمودهم على كل ما ألفوه، وتحريمهم في الفروع مخالفة الأئمة الأربعة، وفي الأصول مخالفة الإمام الأشعري، ولم يكن هو منطقياً في تسويفه مخالفة تلك الأئمة بالاجتهاد في الأصول، فهو بهذا قد فر من جمود إلى جمود
واضطرابه في ذلك هو الذي لم يجعل منه المصلح السمح الذي يعلو على ما كان يقع فيه خصومه من المجازفة بالتكفير، وجعله يجازف بالتكفير مثلهم، ويشتط في الإنكار على الأشعري وغيره ممن حاول في الدين الجمع بين العقل والنقل، وأخذ في ذلك بالاجتهاد في الأصول، ولم يجمد كما جمد ابن تيمية وغيره على ظواهر النصوص، والإسلام من المرونة بحيث يعلو على ذلك التضييق، وهو الذي أتى برفع الحرج في الدين، ولم يقف من العقل موقف المنابذ المخاصم، بل وقف منه موقف المصالح المسالم
ولو أن ابن تيمية لم يقع في ذلك الاضطراب لكان منه المصلح الذي يتطلبه المسلمون في ذلك العصر، ولأمكنه أن يجمع كلمتهم على الإصلاح اللازم لهم، وهو إصلاح لا يقف عند الحدود الضيقة التي وقف هو عندها، بل يتناول الإصلاح في الدين، والإصلاح في العلم، والإصلاح في الحكم، وما إلى هذا من أمور الدنيا والآخرة
عبد المتعال الصعيدي