مجلة الرسالة/العدد 58/مصر تنسى شاعرها حافظ إبراهيم
→ بين توفيق الحكيم وأهل الكهف | مجلة الرسالة - العدد 58 مصر تنسى شاعرها حافظ إبراهيم [[مؤلف:|]] |
حول مقال ← |
بتاريخ: 13 - 08 - 1934 |
للأستاذ كرم ملحم كرم
تألم صاح (الرسالة) المصرية لحظ الأدباء المنكود. وأوجعه أن يسير حافظ إبراهيم إلى مثواه الأخير بين حفنة من رجال الفضل والأدب، وألا يمشي وراء نعش أحمد زكي باشا رجل العلم والهدى غير نفر معدود، على حين أن السياسيين إذا ماتوا اندفعت وراءهم الأمة بأسرها على في شبه مظاهرة، وأبدت عليهم من الأسف واللوعة مالا تفكر أن تبديه حيال أي أديب.
ومما زاد في إيلام صاحب (الرسالة) أن القوم في مصر تناسوا أدب حافظ إبراهيم، وبات الرجل لديهم أشبه بأبي نواس في مجونه، فهم إذا ذكروه تحدثوا عن نوادره لاعن أدبه، كأنما شاعر البائسين أضحى من الهازلين، كأنما أضحى جحا في مداعباته مع أن حافظاً خالد في شعره ونثره، فقد أبقى من المنظوم والمنثور ما يحق للغة العربية، وخصوصاً لمصر، أن تفاخر به. فان حافظاً شاعر الوطنية وشاعر الأدب البائس. وقد أحيا في قصائده كما أحيا شوقي والمطران، عهداً للأدب مشرقاً في مصر، فأعادوا على ضفاف النيل عهد الفرزدق والأخطل وجرير على ضفاف بردي.
ومصر مدينة لحافظ بشيء من هذه النهضة الوطنية البادية فيها. أما هز النفوس بقصائده في ضرورة إنقاذ مصر من الطغيان الأجنبي؟ أما أظهر استبداد المحتلين وجورهم وسعيهم لي إذلال مصر؟. . .
لقد ترددت قصائد حافظ تحت سماء وادي النيل كأنها أنفاس بوق يدعو المصريين إلى الجهاد والاستشهاد، ومع كل هذه الغيرة الملتهبة على مصر من حافظ، لم يجد حافظ من المصريين أي وفاء، فما اعترفوا له بمكرمة ولا بمأثرة في غير بطون الكتب والصحف والمجلات. أما عامتهم، ولاننسى خاصتهم، فما فكروا في أن يقيموا لشاعرهم ضريحاً. ولقد ضل الوفد اللبناني طريقه إلى هذا الضريح وهو يحمل إليه إكليلاً مضفوراً من فلذة أكباد اللبنانيين الذين يجاهدون في سبيل أدبهم، الأدب العربي، ويقدرونه قدره، والذين لا ينسون لحافظ أقواله فيهم وحبه لهم وإعجابه بهم مع أن من واجب مصر ألا تجحد فضل شاعرها عليها، من واجبها أن تقيم له ضريحاً يليق به، من واجبها أن تذكره كشاعر قبل أن تذك كما جن، فالمجون في حافظ لا يغلب على الشعر.
وكنا نعتقد أن صداقة حافظ لمحمد محمود باشا ستدفع به إلى تخليد ذكرى الشاعر بإنشاء ضريح فحم يضم رفات فقيد الأدب. ومما حملنا على هذا الاعتقاد ما يتمتع به محمد محمود باشا من ثروة، ولقد أخلص حافظ إبراهيم للرجل، ولقي من عنت حكومة إسماعيل صدقي باشا ما لقي لأجل إخلاصه لمحمد باشا محمود وصداقته له، أيكون هذا جزاءه منه؟. . .
أيضن الرجل المصري العظيم الثروة بقليل من المال في سبيل تشييد ضريح يرد فيه جثمان حافظ بأمان؟. . .
من حق صاحب (الرسالة) أن يتألم، وإننا لنشاطره ألمه ونأسف على مصير الأدب والأدباء في البلاد العربية. فالأديب لا يجد من ينصفه، لا في حياته ولا في مماته. فان قيمته لدى الناس لا تزيد على ما يملك في جيبه من المال. فإذا كان ذا ثروة وجد من يحفل به ويشيعه إلى مرقده الأخير. أما إذا خانته الثروة فلا صديقه يتأثر لفقده ولا بنو قومه. فالمال هو كل شيء في هذه الحياة.
ولو لم يمت شوقي عن ثروة ضخمة لكان نصيبه من بني قومه نصيب حافظ، وربما كان دون نصيب حافظ. وربما كان دون نصيب حافظ. إلا أن ثروة شوقي شفعت له في حياته ومماته، فساعدته على التربع في عرش أمارة الشعر، وحلمت الناس على الإطناب فيه، وهي هي التي دفعت الحكومة المصرية إلى إقامة ذلك المهرجان العظيم لرثاء شوقي والاحتفال بذكراه.
نعم، هي المآرب السياسية وصلات القربى التي مالت بإسماعيل صدقي باشا إلى إقامة ذلك المهرجان نكاية في الوفديين والأحرار الدستوريين الذين أخلص لهم حافظ، وتودد إليهم في أيامه الأخيرة إلا أن الوفديين والأحرار الدستوريين هم الفئة الكبرى في مصر فكيف تناسوا حافظاً ولم يحتفلوا بتخليد ذكراه، ولو لأجل النكاية كما اختلفت حكومة إسماعيل صدقي بتخليد ذكرى شوقي؟.
إن حافظاً ليس في حاجة إلى ضريح خاص يقام له ليخلد، ولا بحاجة إلى مهرجان أدبي تقال فيه قصائد الرثاء ليمس الرجل ذا قدر في عالم الأدب، فان آثاره تكفي لتخليده، وتلك المظاهر الزائلة ليست ذات شأن في مقام حافظ الأدبي، بل هي عديمة الشأن، إلا أن الفضل يجب أن يعلن، والوفاء واجب على من طوق حافظ جيدهم بجميله، وعلى كل ذي مروءة وحمية إلا يصدف عن هذا الواجب المفروض.
لسنا نجهل أن حكومة إسماعيل صدقي ماتت، ولكن الوفديين والأحرار الدستوريين لم يموتوا، وما فاتهم بالأمس يجب إلا يفوتهم اليوم، وعلى مصر بأجمعها ألا تنسى بنيها ذوى الأدمغة النيرة فيها، وتلك النشرة الخاصة التي أذاعتها جريدة (السياسة) لإحياء ذكرى حافظ لا تكفي، فمن الواجب الدعوة إلى المهرجان، من الواجب تشييد الضريح، وإن مجلة (الرسالة) لا تخطئ إذا خصصت أحد أعدادها بحافظ، فتدعو أدباء الأقطار العربية جمعاء إلى إعلان كلمتهم في الشاعر المبدع الموهوب، فان نشرة كهذه يذهب لها صدى بعيد، وتحمل كل ذي شمم على الاهتمام بشاعر كل عيبه أنه رغب في توطيد دعائم الأدب في وادي النيل وفي الإشادة بوطنه، وفي لفت أنظار سائر البلاد العربية إلى ذلك الأدب الريان المورق في خمائل مصر.
وإن تكن (الرسالة) تطمع في المساواة بين حافظ وشوقي فلتخصص نشرة من نشراتها بحافظ ونشرة أخرى بشوقي، فذلك إليها، على أن تثبت الدعوة إلى مهرجان حافظ وإلى بناء ضريحه، وبهذه الهمة تخدم الأدب وبنيه خدمة لم تسبقها إليها صحيفة عربية، ويكفي أن تعظ المصريين بتذكيرهم بواجبهم حيال علم من أعلامهم خفق في ميدان الوطنية والأدب، فان هذا التذكير لابد منه لأجل مصر قبل الجميع، لئلا تتحقق كلمة المتنبي وحافظ فيها:
فما أنت يا مصر دار الأدي ... ب ولا أنت بالبلد الطيب
نحن نتألم لنصيب حافظ من بني قومه كما يتألم صاحب (الرسالة) الأستاذ الزيات. وإنا لعلى اعتقاد تام أنه لن يغفل عما نبدي من رأي. وحرام وألف حرام أن يطرح حافظ جانباً كالمنبوذين من الناس، وأن يقصد الغريب عن مصر إلى ضريحه يحج إليه فلا يجد من يهديه إلى هذا الضريح، وقد تناسب مصر واجبها حيال شاعرها، فما جادت ببضعة دنانير تحفظ بها بقاياه!
بيروت
كرم ملحم كرم صاحب مجلة العاصفة والرسالة نرجو أن توفق إلى رأي الأستاذ