مجلة الرسالة/العدد 58/بين توفيق الحكيم وأهل الكهف
→ شعب شرير | مجلة الرسالة - العدد 58 بين توفيق الحكيم وأهل الكهف [[مؤلف:|]] |
مصر تنسى شاعرها حافظ إبراهيم ← |
بتاريخ: 13 - 08 - 1934 |
بقلم شهدي عطية الشافعي
قرأت لتوفيق أهل الكهف فيمن قرأ. وأحببتها حباً فوق حب الناس لها. ولكن ناحية منها لم ترضني، وليس ذلك بجريرة للمؤلف آخذها عليه. ولكنه شعور نفسي تملكني.
منظر
في إحدى جنان الخلد. ثلاثة رجال متكئون على الأرائك وأمامهم أبارين وأكواب من ذهب وفضة، والأطيار من حولهم تشدو مرنوش: (متأملاً حوله) - يا لله! ما أبدع هذا وما أجمله! مشلينيا أيها الكسول. إلا تستيقظ لتستمتع بهذا الجمال.
مشلينيا: (يفرك عينه) أهذا أنت يا مرنوش! أين نحن؟ لسنا في الكهف.
مرنوش: (في حدة) الكهف؟ تباً لك! لا تذكرني به، لقد كان كابوساً مخيفاً.
مشلينيا: لعنة الله عليه ما أشامه. . . وهذه الثلثمائة عام التي لبثناها فيه.! وملك آخر مسيحي مكان دقيانوس الوثني. . . وبريسكا غير بريسكا. كيف كان كل هذا؟
يميخا: (مستيقظاً) حمداً لك يا خالق السموات والأرض. اللهم إنا نمجدك ونؤمن بعيسى نبيك.
مرنوش: (مأخوذاً) يمليخا؟ كيف أنت؟
يمليخا: (في خشوع) ألا تحسان فيضاً من النور الإلهي يخترق شغاف القلب. كأني على قيد ذراع من الله. يا لروعة هذا!
مرنوش: (في عجب) إنك لتبدو جميلاً يا يمليخا. أنّى لك هذا الثور المزركش وذلك الوجه الصبوح؟
مشلينيا: (في دهش) ولكنك لم تر ثيابنا يا مرنوش. إنها موشاة بالذهب. مَن أتانا بها (ناهضاً) مرنوش يا للعجب!
لقد شف جسمي حتى لأرى ما بداخله! مرنوش! مرنوش. لقدَ خف ثقلي حتى لاحسبني طيراً ذا جناحين!
مرنوش: مشلينيا، ماهذا؟ لقد صدقت. ألا تذكر استكراش بطني وانتفاخ رجليّ. لقد ذهب كل هذا (بتحسن وجهه) لله ما أنعم وجهي وما أرقه! مشلينيا: وأنت يا يمليخا (لا يجيب ولكنه يذهب بعيداً) يمليخا! أتاركنا؟ إلى أين؟
يمليخا: إلى حيث قطمير كلبي.
مرنوش: (ضاحكا) أليس لك في هذا الجمال سلوى عن قطمير؟
يمليخا: (مبتئساً) قطمير. عزيز قطمير. حارس غنمي ورفيق طريقي وصاحبي في السراء والضراء (متهللا فجأة) يا لله! هاهو ذا مقبلاً. انه يهز ذيله فرحا.
مشلينيا: (عابثاً) أهذا قطمير كلبك؟ أين هذا ذو الشحم واللحم من قطمير الضاوي البطن البارز الأضلاع؟
يمليخا: (في سرور) إنه قطمير بعينه. إنني مستطيع أن أتبينه من كلاب الأرض جميعاً. تعالت قدرتك يا إلهي. لقد أنلتني بغيتي وجمعتني بكلبي!! سبحانك اللهم نسبح بحمدك!
مرنوش: (متجهاً بنظره) وما يدريك لعله امرأة. (بعد برهة) إنه يضع قرصاً أحمر فوق رأسه ويشد عنقه بمنديل.
يمليخا: انه اسرع في خطاه نحونا.
مرنوش: لعلع ذلك لحاجة له. إنني أرى تقاطيع وجهه جيداً. إنه رجل يا مشلينيا. يا لغرابة لباسه. إنه يشد عنقه بحبل ملون لا بمنديل.
توفيق الحكيم: (بلباس إفرنجي وفوق رأسه طربوش متبينا القوم) ميشلينا! مرنوش! يمليخا!. وقطمير أيضاً هنا! يا لحسن حظي. كيف أنتم؟ لقد كنت أتوق لرؤيتكم.
(أهل الكهف يتلاومون ويتأملون توفيقاً في خوف غير قليل)
يمليخا: (متشجعاً) ومن عساك تكون؟ ومن أنباك بأسمائنا؟
توفيق: ألا تعرفونني؟ لكنني أعرفكم حق المعرفة، وأحفظ وجوهكم كأني عشت بينكم ألف عام. أنا توفيق الحكيم.
مشلينيا: ماذا يقول؟
يمليخا: (هاماً) انه يخبر عن صناعته. فهو حكيم.
مرنوش: (في اضطراب) ولكن ليس بنا من مرض يا سيدي.
توفيق: لا. لا. إنه اسمي. توفيق الحكيم. لقد قرأت سيرتكم وتحدثت عنها في قصة حوت فن باريس وفلسفة أثينا وحكمة الروم.
يمليخا: (في همس) إنه يذكر الروم.
مرنوش: (في ذكاء) آه. لقد فهمت يا سيدي. لعلك - رأيتنا إذ بعثنا من كهفنا بعد نومنا الطويل.
توفيق: لا، لا، ليس هذا. إني قرأت عنكم وامتزجت روحي بروحكم، ولكنني لم أركم قط رؤيا العين.
مشلينيا: ولكن أنى لك بمعرفة وجوهنا؟
توفيق: (في دلال) إنه الفن يا سيدي. يسمو بالمرء حتى ليرى ما تختلج به نفوس القوم، وما تضطرب به أفئدة البشر، إنه الفن الذي يصل الماضي بالحاضر. لقد ترجمت عما في نفوسكم واستكشفت خباياها بعد موتكم بعشرات القرون. أفيعجزني الآن أن أتعرف إلى وجوهكم؟
مرنوش: (هامساً في خوف) لعل به مسّاً من الشيطان!
يمليخا: (معترضاً كالهامس) لعله قديس وهبه الله قبساً من نوره فقرأ ما في نفوس البشر.
مرنوش: (في همس) لقد عرفنا وعرف أسماءنا، برغم انه لم يرنا قط.
مشلينيا: بل ويزعم أنه استطلع ما في نفوسنا.
توفيق: (عابثاً) نعم. ألست أنت مرنوش (مشيراً إليه). ألم يكن لك زوج تحبها. وبنيت بها في الخفاء فأنجبت لك غلاماً، ثم نجوت بنفسك إلى الكهف خوفاً من دقيانوس وشروره!!
يمليخا: (هامساً) ألم أقل لكما أنه قديس؟ (في صوت عال) صدقت أيها القديس.
توفيق: (متمماً حديثه) ولولا زوجك هذه يا مشلينيا لما كنت مسيحياً، ولمت وثنياً، ونقمت على المسيح والمسيحيين. أنت يا ساعد دقيانوس الأيمن في مذابحه قبل زواجك. . . فإذا ما افتقدت زوجك وغلامك انقلبت ساخطاً على السماء والأرض (ومت مجرداً من كل شيء عارياً كما ظهرت، فلا أفكار ولا عواطف ولا عقائد).
مرنوش: أتعنيني أنا؟ (هامسا إلى زميله) لقد حسبت به مساً من الشيطان، ولكني واثق الآن أنه الشيطان نفسه.
ولعله كان يسكن هذا الكهف المظلم المشئوم الذي لبثنا فيه حقبة من الدهر. ولابد أنه تحسس أخبارنا ونحن في ظلمة لنتبين من أمره شيئاً.
(ثم يتوجه بكلامه إلى توفيق في صوت عميق حار) لا يا سيدي لد عشت مسيحياً، ومت كما عشت، ولقد أرتني زوجي الطريق إلى الله فأحببته بكل جارحة، وما عبأت بدقيانوس ولا بمكاني عنده.
مشلينيا: (هامساً) لنمتحنه! فلعل ما يدريه عني خير مما عرفه عنك (في صوت مرتفع) وماذا عندك لي يا. . يا. . معذرة يا سيدي الفاضل.
توفيق: (متردداً) مشلينيا الذي أحب بريسكا وأحبته، بل عبدته، حتى لقد اعتنقت المسيحية من أجله، ورضيت بدين عشيقها عن دين آبائها بديلا.
مشلينيا: (محاولات كتمان غضبه) تا لله لقد أخطأت. إنها أرادت لنفسها هذا الدين وآمنت به قبل أن تدري عن مسيحيتي شيئاً. لقد كان دين الحب، وكانت تعاليمه البساطة عينها والنبل نفسه، فآمنت بريسكا الطاهرة الساذجة، وكان إيمانها قوياً.
ألا تذكر يا مرنوش كيف كانت تمزج قبلاتها لي بالصلاة لله شاكرة له أن هداها سواء السبيل، وأن أرشدها إلى نوره الحق؟ أو تذكر عند هروبنا تحت جنح الليل، وقد كشفوا أمرنا كيف كانت مطمئنة واثقة أن الله سينجي عباده المخلصين؟ وكيف أخذت على نفسها عهداً أن تصلي وتصلي لعل الله ينجينا.؟
يمليخا: (هامس في ذعر) إن هذا الرجل لا يعجبني! ماذا يقفه ببابنا؟ ما أقبح عينيه! انه ليشع منها ذكاء خبيث!
مشلينيا: ألم تحسبه قديساً؟
يمليخا: لقد نسيت أن الشياطين تتخذ أحياناً ثوب القديسين.
توفيق: (محاولات التقرب بعد ما أحس منهم نفوراً) ويمليخا. . . . الراعي الذي آمن في اخلاص، وأحب الله في قوة.
ورضى قرير العين أن يترك غنمه ليرشدكم إلى الكهف تلجئون إليه.؟
مرنوش: ولماذا جعلته من بيننا وحده المؤمن؟
توفيق: (بين التردد والأحجام) لم يكن له أهل (وكان قلبه خليّا، فلا يضيره أن يمنح قلبه لله).
مرنوش: (هامساً لزميليه) ألا تشمان في عبارته رائحة الخبث والسخرية المخبوءة؟ مشلينيا: (في ضجر) لقد صدقناك يا سيدي. ولكن ما دفع بك إلينا؟
توفيق: لقد اتصلت روحي - روح الفنان بروحكم، ولم تستطع الأجيال أن تفصل بيننا، فبعثت قصتكم بعثاً جديداً إلى القرن العشرين.
مرنوش: (في تهكم خفيف) أكنا في حاجة إلى هذا البعث.؟
توفيق: (في غيظ) أتنكرون فضلي؟. لقد أصبح القوم ولا حديث لهم إلا أهل الكهف. ولقد أخرجتكم إلى الناس في ثوب من الفن أنيق، أتقنت في الصياغة، وأجدت فيه الانسجام، وسخرت له كل ما قرأت من فلسفة اليونان، وفلسفة القرن العشرين؟!!
مرنوش: ولكنك مسختنا وأنكرت علينا إيماننا ومسيحيتنا التي كانت كل شيء لنا.
مشلينيا: ولقد أهنت بريسكا الطاهرة الجميلة.
يمليخا: (في سأم وضيق) سيدي القديس! لعل في جوارنا أهل كهف آخرين. فلتبحث عنهم. أما نحن فلسنا من ذكرت.!!
شهدي عطية الشافعي
بكالوريوس آداب