مجلة الرسالة/العدد 58/فصول مدرسية في الأدب الدرامي
→ نسبة شعر | مجلة الرسالة - العدد 58 فصول مدرسية في الأدب الدرامي [[مؤلف:|]] |
بمناسبة الفيضان المبارك ← |
بتاريخ: 13 - 08 - 1934 |
1 - الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
الرواية تمثل طائفة من الناس لحادث متحقق أو متخيل لا يخرج عن حدود الحقيقة أو الإمكان. فكونها تمثيلاً يخرج الملحمة لأنها حكاية صرفة، والرواية مدارها على التطبيق والعمل، فليس لمؤلفها وجود في المسرح ولا حضور في الذهن، وإنما يرى المشاهد ويسمع الأشخاص يعملون بعينه وأذنه.
وكون الحادث متحققاً أو متخيلاً يفيد أن الحقيقة التاريخية ليست شرطاً في الرواية، فيستطيع الكاتب أن يكملها بالزيادة ويجملها بالمبالغة كما فعل كوريني في (بوليكت)، أو يختلق الحادث وحده اختلاقاً كما فعل في (السيد)، أو يخترع الحادث والأشخاص اختراعاً كما فعل فولتير في (زيير).
وقولنا (لا يخرج عن حدود الحقيقة أو الإمكان) احتراس من إدخال الخوارق في الرواية، لأن قانونها الأساسي أن تكون صورة للحياة البشرية ما استطاعت. ولن تستطيع أن تتصور الحياة أو تقلدها إلا بتوخي الحوادث الحقيقية الواقعة أو الممكنة.
وشرط الإمكانية يوجب على الكاتب أن يقف عند حدود الممكن المعقول في الموضوعات المتخيلة، وأن يضحي بالواقع أحياناً إذا بعد احتماله لشذوذه وغرابته في الموضوعات المتحققة. على أن من الجائز استعمال الخوارق قليلاً في الرواية إذا كان الكاتب قادراً والمخرج المسرحي ماهراً كما وقع في رواية (فيلوكتيت) لسوفوكليس، ورواية (أتالي) لراسين؛ ومحل ذلك حين يراد تقوية الشعور وإثارة العاطفة وتحريك الهوى في شخص من أشخاص الرواية، بإبراز هواجس فكره ووساوس نفسه في صورة مشخصة مجسمة، كما صنع شكسبير بشبح (هملت) وساحرات (ماكبث). وليس من الضروري أن يهبط الآلهة والأشباح والهواتف على منصة المسرح، بل يجوز أن يحدث ذلك في ظاهرة ثم يخبر به شخص من الأشخاص، كما حدث مثلاً في حلم أتالي وبولين، وفي موت هيبولييت وأوديب.
منشأ الرواية وتأثيره كان منشأ هذا النوع من الأدب تلك اللذة التي يبعثها في نفوسنا ويفيضها على حواسنا تقليدنا لطبيعة الإنسان وعمله.
فتمثيل الطبيعة الناطقة والصامتة والأحجار والألوان والألحان إنما يلذنا منه ذلك التقليد الذي أجاده الفنان وأحكمه. قال أرسطو طاليس في كتاب (الشعر): (إن الإنسان مقلد بطبعه، وأشد ما يطربه ويعجبه من الفنون إنما هو التقليد). وليس من شك في أن التقليد في الرواية أكمل صنعاً وأقوى ظهوراً منه في غيرها من سائر الفنون. لأن التقليد فيها لا يقف عند الأشكال الخارجية للإنسان كالنحت والتصوير، وإنما يتغلغل في باطنه، فيصور نوازع نفسه وخواطر فكره ودواعي عمله. أضف إلى ذلك تلك الحاجة الملحة التي تدفع الإنسان إلى السبوح في أجواء الخيال فراراً من وحدة العيش وضيق الحياة وثقل الحقيقة وجد الإنسان تلك اللذة وقضاء هذه الحاجة في التمثيل المسرحي، فسرَّه أن يخرج من نفسه، ويقلد أبناء جنسه، ممثلاً لعينه ذلك المثل الأعلى الذي طالما رسمه في خياله، وتمنى أن يعيش على مثاله. ظهر ذلك أولاً عند الإغريق في أعياد باخوس إله الخمر، إذ تقدم (إبيجين) من أهل (سسيون فمثل ذلك الآلة على المسرح، وقطع مابين الأناشيد بحكاية بعض الحوادث الحماسية، فاستغل (يسبيس) ذلك الابتكار، وجاء (أسخيلوس أبو المأساة، فأضاف إلى الممثل الأول ممثلاً آخر، فخلق الحوار ثم اخترع الوجه الكاذب، والثوب الضافي والحذاء العالي واستعمل الألفاظ الجزلة، والتراكيب الفخمة، واختصر الأناشيد التي سميت بعد ذلك (خورس)، فضعف شأنها في الموضوع.
على هذا النحو نشأت المأساة، وهي أحد فرعي الرواية كما ستعلم بعد. أما فرعها الآخر وهو الملهاة فمنشؤه ذلك التهريج الذي كان يستبيحه الشعب الإغريقي لنفسه في مواكب باخوس وهو يجول جولان الفرح في قرى (أتيكا). ومن ذلك يعلم أن الرواية منذ خلقها الإغريق تنقسم إلى قسمين مستقلين: هما المأساة والملهاة أو التراجيدية والكوميدية كما سيجيئك تفصيله بعد قليل.
أما تأثير الرواية أو المسرح فلا جدال في قوته وخطره، فالحكاية مهما قويت في التعبير وبالغت في التأثير لا تبلغ شأو الرواية في ذلك، إذ القصص الحكائي لا يخاطب إلا المخيلة، وهي تختلف في الناس ضعفًا وقوة، فلا يكون تأثرها إلا بمقدار، أما القصص الروائي فيخاطب الخيال والحس، ويملأ البصر والسمع، فيكون فعله أقوى وأثره أشد، أرأيتك إذا قرأت أو سمعت حادثة قتل مثلا، فهل يبلغ أثرها منك مهما عظم واشتد ما يبلغه ذلك الأثر الذي يستولي على نفسك وحسك حين تسمع استغاثة المذبوح، وترى انسكاب الدم المسفوح؟ لذلك كان حقاً على الكتاب أن يتوسلوا بهذه الوسيلة الناجعة إلى إقرار الخير في النفوس، واقتلاع الشر من الرءوس، وتغذية القلوب المريضة بالعواطف النبيلة بتصوير مُثلها العليا كما في المأساة، أو إلى إصلاح الفاسد وتقويم المعوج من العادات والأخلاق باتخاذ أهلها مضحكة للناس كما في الملهاة. أما تلك القطع الداعرة التي يلفقها ضعاف الكتاب، ويمثلها صغار الفرق، تمليقاً للشهوة وتصيُّداً للمال، فهي من عمل الزور وتجارة المحظور وإذاعة الفاحشة، وهي لا تجد مكانها إلا في الشعوب البهيمية الجافية التي لم يثقفها علم ولم تهذبها حضارة، فواجب النقد الأدبي يعن مهاجمة هذا الخطر، فان ضرره لا ينال الخلق وحده، وإنما ينال الأدب والذوق والفن جميعاً.
العمل الروائي
العمل الروائي هو الفعل الذي يجري على المسرح من قيام وقعود وحركة وسكون. وبعبارة أدق هو العراك الناشب بين الوسائل والحوائل التي تتنازع حادثا من الحوادث، فالأولى تعمل لوقوعه، والأخرى تعمل لمنع أو إنتاج ضده.
فمن هذا التعريف نستنتج أن العمل لابد أن يكون مريباً غير مؤكد، ثم لا يزال في عماية من الشك وغيابه من الظن حتى آخر الرواية، لأن عقدة العمل إذا لم يكن لها إلا محل واحد يدل عليه المنطق، ويتنبأ به المشاهد، فقد المداورة، وهي تحول ذهن الشاهد من الضد إلى الضد تبعاً لتصرف الأشخاص وتقلب الظروف، فتارة يقدر النتيجة على نحو معين، وتارة يقدرها على نحو آخر، وهكذا دواليك حتى ينتهي العمل، وربما انتهى على غير ما فكر وقدر. فالتباس العمل هو الذي يوجد هذه المداورة ويفرض كثيراً من الحلول، ويف المشاهد بين الخوف والرجاء، وعلى ذلك كله يقوم أساس التشويق والجاذبية، ولكن ماذا عسى يصنع الكاتب لو كان للعمل حلان ممكنان فسبقه ذكاء المشاهدين إليهما، ووقف قبل النهاية عليهما؟ أو لو كانت روايته على ما يريد الفن، ولكنها مثلت غير مرة، فعرف الناس كيف تتعقد وكيف تتحلل، إلا يكون معنى ذلك أن إبهام العمل لا يفيد المشاهد ولا يجذبه إلا أول مرة؟ وجواب ذلك أن تذليل هذه العقبة ليس في طوق الكتاب ولا هو من واجبه، وإنما هو عمل الممثل وأخص واجباته. وهل يكون الوهم المسرحي بالغاً كماله إلا إذا أنساك ما تعلم وشغل فكرك بما ترى؟
كذلك نستنتج من التعريف أن الحوادث المتعارضة كلما كانت مسافة الخلف بينها بعيدة، ومناقضة بعضها لبعض شديدة، كان شأنها أهم وجاذبيتها أقوى، وذلك حق لا جدال فيه، فان حوادث العمل إذا تتابعت طائفة منها مفرطة في الحزن، وأخرى مفرطة في السرور، كان حلها أمتع وألذ مما لو سارت ضعيفة في جهة وقوية في أخرى، أضرب لك مثلا برواية بُوليُكت لكورني: لو أن كورني جعل (بولين) مشغوفة الفؤاد بحب زوجها لكانت المشكلة أعقد وأصعب، وموقف بولين أقسى وأرهب، ولكن كورني جعلها عاشقة (لسفير) ففضل جاذبية الإعجاب على جاذبية الإرهاب، وأطاع عبقريته في هذه القطعة فحرك الدهش وسكّن الفجيعة.
وليس تعاقب الحزن والسرور والخوف والرجاء من خواص المأساة، وإنما يكون في الملهاة أيضاً، فان جاذبيتها لا تتم إلا بشيئين: أولهما أن تجعل المشاهد يتمنى أن يؤول أمر الأضحوكة إلى السخرية والاحتقار، ثانيهما أن تولد في نفسه القلق والفضول والرغبة في أن يرى هذه الأمنية كيف تتحقق. ففي رواية البخيل يدور في نفس المشاهد هذا السؤال: أيتزوج البخيل من مريان أم يتخلى عنها لابنه؟ وفي رواية ترتوف أو الشيخ متلوف تترد على خاطره هذه المشكلة: أيفتضح أمر ترتوف عند أُرجون ويبوء باللعنة والخزى أم يتمتع بثمرة حبه وخبثه؟ على أن الحزن في الملهاة يجب ألا يتعدى أشخاص الرواية إلى جمهرة المشاهدينفان ذلك ميزة المأساة. ومن حق النظارة عليك أن تسرهم على حساب أشخاصك فتضحكهم من بكائهم وتسعدهم بشقائهم. وسيمر بك تفصيل ما أجمله التعريف من صفات العمل وتحليله فنجتزئ الآن بذلك.
يتبع
(الزيات)