الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 58/بمناسبة الفيضان المبارك

مجلة الرسالة/العدد 58/بمناسبة الفيضان المبارك

بتاريخ: 13 - 08 - 1934


النيل

للأديب حسين شوقي

عند ما انتهى المصريون من تشييد معبد الكرنك الفخم، تكريماً للإله (آمون)، دعا (آمون) الآلهة الآخرين إلى اجتماع خاص ليختاروا أحسن هدية تقدم لبني مصر مكافأة لهم على عملهم، ولا سيما أن المصريين ما برحوا يبنون مثل هذه المعابد الشاهقة لآلتهم من آن الآخر. . . فاقترح (هوروس) الإله الشاب أن تقدم إلى فرعون آلة سينما لتسليته هو وأولاده في ليالي الشتاء العابسة، ولكن الإله (سوكر) وكان شيوعي النزعة اعترض على هذا الاقتراح قائلاً: إن الشعب المصري هو الذي أُرهق في بناء المعبد، فالهدية يجب أن تكون له لا لفرعون، فثار بعضهم على اعتراض (سوكر) وكاد المجلس ينقلب إلى عراك بين شيوعيين وفرعونيين، إلا أن (أنوبيس) - آله الموتى - صاح فيهم بصوته المزعج: أنصتوا إليّ لقد وجدت ضالتكم، أقيموا للمصريين جبلاً الذهب بجوار طيبة أو منفيس فانهم يعبون هذا المعدن في حياتهم، ويستصحبونه معهم في قبورهم بعد مماتهم. ولكن (حوتيب) آله الحكمة اعترض على هذا فقال: إن وجود الذهب بمثل هذه الكثرة في مصر يعلّم أهلها الجشع والكسل. . ثم هنالك الأجانب الذين يرهقون البلاد وهي فقيرة، فما بالك إذا عرفوا وجود مثل هذا الكنز؟ إن هؤلاء القوم لا حدّ لطمعهم، تصوّر انهم أنشئوا بوارج في السموات ليستولوا بها على عالمنا العلوي بعد ما انتهوا من الاستيلاء على الأرض؟

ثم رأى إله ثالث غرس غابات في مصر حتى تخف حرارة الجو في الصيف، ولكن (ست) وكان إلها أنانياً صاح: هل جننت حتى ترى مثل هذا الرأي؟ إلا تدري أن الجو إذا رطب صارت هياكلنا رماداً في سنين قليلة.؟

ثم نهض (آمون) الإله الأكبر الذي لازم السكوت طول الحديث وقال: أبنائي الأعزاء لا تتبعوا أنفسكم، ولا تجهدوا قرائكحم، لقد وجدت ما تنشدون وعرفت أحسن هدية تقدم لمصر ولشعبها الوفي، سأعطيها حياة هنيئة سعيدة، سأعطيها نهراً عظيما ينتفع به الحاكم والمحكوم، الإنسان والحيوان على السواء. سأعطيها وادياً خصباً. . سأعطيها النيل. .

فوافق الآلهة بإجماع الآراء على هذا الرأي المفيد، ثم استمر (آمون) قائلاً: وسندعو الآله الأجانب إلى الاحتفال بهذا الحادث الجليل، ثم جلس (هوروس) الإله الشاب الذي كان يقوم بأعمال السكرتارية في المجلس، بناء على إشارة من الرئيس، إلى آلته الكاتبة فكتب الدعوات على وجه السرعة، ثم ناولها إلى (آمون) فمهرها بخاتمه، ثم أعطيت إلى (أبس) الإله الطائر فحملها في منقاره وطار بها إلى الأقطار الأجنبية. . بعد ذلك أخذوا يبحثون عن المكان الذي يبدأ منه النهر فرأى أحدهم أن تكون بدايته أسوان، ولكن الحكيم (حوتيب) اعترض مرة أخرى قائلاً: إن مصر سوف يزيد عدد سكانها مع الزمن، فيحسن لذلك أن نعطي لها فسحة. . وبعد البحث اختيرت إحدى بحيرات بلاد (البونت) المقدسة لارتفاعها، ولتكون تحت إشراف الآلهة ورعايتها. . ثم جاء يوم الاحتفال وكان يومًا فريداً في التاريخ، شرب فيه الآلهةكثيراً من نبيذ قبرص اللذيذ الذي جاء به (دينوزيس) إلهِ الخمر الإغريقي هدية (لآمون)، كما أن (إيزيس) الآلهة الساحرة قامت بألعات سحرية مدهشة سرّ لها الناظرون، منها أنها قطعت بالسكين رأس دجاجة، ثم أشارت بعصاها إلى ذلك الرأس فعاد فالتحم بالجسد. وقد أعجب بهذا المنظر، بصفة خاصة، (بعل) إله آشور الكبير فأخذ يضحك ملء شدقيه. . ثم قصد الجميع إلى جبل قائم بجوار البحيرة، فأشار (آمون) إليه بيده وأخذ ينادي أرواح الماء بصوت عظيم يشبه الرعد، فتفجرت المياه نقية عذبة من الصخور. . في جلال وروعة. . وكان (بنتاؤر) الشاعر، البشري الوحيد الذي دعا إلى الحفلة، ليخلد على قيثارته ذلك اليوم المهيب، ولكنه أرتج عليه من هيبة المنظر وظل صامتها لحظة، وقد أخضلت عيناه بالدمع، ولم تحل عقدة لسانه إلا بعد أن شرب جرعة من ماء النيل، فأنشد: (سلامٌ عليك أيها النيل! يا من يتفجر من الصخر حياة ويسراً! إنك حينما تهبط تخضّر الأرض، كما أن عيدان القمح تنحني لك إجلالاً، وتقدم لك بذورها قرباناً. . إنك تخلق للصانع العمل، وللأرض الغبطة. كما أن كل معدة تسر لمقدمك، كذلك يهتز كل منكب من شدة الفرح. . دم أيها النيل حياة لمصر ويسراً للمصريين!)

فصاح الحاضرون: آمين! آمين!

حسين شوقي