مجلة الرسالة/العدد 579/وحدة الوجود
→ أحمد رامي | مجلة الرسالة - العدد 579 وحدة الوجود [[مؤلف:|]] |
على هامش ذكرى المعري ← |
بتاريخ: 07 - 08 - 1944 |
والأستاذ دريني خشبة في مقاله الثالث
للأستاذ معروف الرصافي
كتب الأستاذ دريني خشبة في مجلة (الرسالة) المصرية، أربع مقالات متتالية، تعقب بها (رسائل التعليقات) للرصافي، وفند بعض ما جاء فيها من أقوال. ونحن هنا لا نريد أن نعرض إلا لمقاله الثالث فقط المنشور في العدد 572 من الرسالة أما مقاله الأول والثاني والرابع فنضرب عنها صفحاً، لأنها خارجة عن حدود آداب البحث والنقد. والظاهر أنها مكتوبة لغرض آخر غير النقد لا نشك في أن الأستاذ خشبة يعرف حدوده فلا يتعداها، كما يعرف حقوقه فيرعاها، وواجباته فيؤديها؛ إذ وجه فيها إلى الرصافي تهمة هو بريء منها، ونسب إليه أقوالاً لم يقلها، وكل ذلك يدل على أنه لم يقرأ رسائل التعليقات، وإنما تصفحها سريعاً بلا إمعان ولا تثبيت، ولم ينقل عبارات الرصافي بنصوصها، بل ذكرها ناقصة مقتضبة ومشوهة واكتفى بالإشارة إلى عدد صفحاتها، ولا شك أن الناقد النزيه لا ينظر إلى المساوئ فقط، بل في المحاسن أيضاً، وقد تعمد في تعابيره القدح والشتم، مما لا يليق بأقلام النقاد العارفين، إلى غير ذلك مما يدل على أنه لم يقف فيما كتبه موقف الناقد، بل موقف الطاعن الحاقد، لسبب لا نعلمه نحن بل هو
وأما مقاله الثالث المنشور في العدد (572) من الرسالة؛ فإنه قد ترجم فيه للقراء أقوال القدماء من فلاسفة اليونان حول وحدة الوجود كما يزعم هو، ليثبت بها أن نظرية وحدة الوجود قديمة، وأنها ليست بإسلامية محضة كما يقول الرصافي
فعلى ذلك نقول: كان يجب على الأستاذ أن يذكر أولاً نظرية وحدة الوجود التي يقول بها أهل التصوف كما ذكرها وصورها الرصافي في رسائل التعليقات، ثم يأتي بعد ذلك بأقوال فلاسفة اليونان، لكي يعلم القراء أين تقع هذه الأقوال من وحدة الوجود التي ذكرها الرصافي، ولكنه لم يفعل ذلك، بل أهمل ذكرها، فكان، بسبب ذلك، قراء الرسالة في حكمهم كالقاضي الذي سمع رد المدعي عليه من دون أن يسمع دعوى المدعي ولا ريب أن ذلك مخالف لآداب البحث والنقد
ولنذكر وحدة الوجود التي ذكرها الرصافي في تعليقاته، ثم نذكر تلك الأقوال ونقارن بينه لكي نرى أين هذه من تلك
وحدة الوجود عند الصوفية
يعبر الصوفية عن ذات الله (بالوجود الكلي المطلق اللانهائي) ويقولون بأنه لا موجود غيره، وأن هذه الكائنات ما هي إلا مظاهر وصور للوجود الكلي قائمة به، فليس لها وجود غير الوجود الكلي، ويشبهون ذلك بأمواج البحر؛ فكما أن الأمواج ليست سوى مظاهر وصور قائمة بالماء، وكما أنها لا وجود لها غير وجود الماء، كذلك هذه الكائنات بالنسبة إلي الوجود الكلي
هذا مجمل ما يقال في تصوير وحدة الوجود التي يقول بها أهل التصوف ويمثلونها بقولهم لا موجود إلا الله وهم فيها مستمدون من الآيات القرآنية، كما هو مذكور بالتفصيل في رسائل التعليقات
ما يقوله فلاسفة اليونان
لقد ذكر لهم الأستاذ خشبة أقوالاً كثيرة، وكلها بعيدة عن وحدة الوجود؛ فلا نعرض إلا لأقربها حوماً حول الوحدة التي يقول بها أهل التصوف، وإذا ثبت بطلان هذه ثبت بطلان غيرها بطريق الأولى فنقول:
ذكر الأستاذ في رقم (5) أقوال (أجرنوفانس) الذي دعا الناس إلى عبادة الله الواحد الذي ليس كمثله شيء، والذي تنزه عن الأعضاء فهو سميع كله سمع، وبصير كله بصر، وعاقل كله عقل. . . موجود في كل الوجود، إلا أنه كان يؤمن بأن الله (حال) في العالم، وأنه ليس شيئاً غيره. قال الأستاذ وهو في ذلك أول قائل بوحدة الوجود
فنقول إن القول بالحلول ينافي وحدة الوجود كل المنافاة، لأنه بحكم الضرورة يقتضي حالاً ومحلولاً فيه. فيكون الوجود وجودين، لا وجوداً واحداً. فكيف يكون الله حالاً في العالم، ويكون ليس شيئاً غيره
والصوفية ينكرون الحلول أشد الإنكار، ويرون القول به كفراً بوحدة الوجود، فالعالم عندهم ليس له وجود حقيقي غير الوجود الكلي فهو قائم به ومظهر من مظاهره ليس إلا، وكذلك الموجة في البحر، فإن الماء لا يكون حالاً في الموجة، لأن الموجة لا وجود لها غير وجود الماء. فالوجود واحد، وهو وجود الماء، والموجة لا وجود لها وإنما هي صورة قائمة بالماء
فإن كان الأستاذ خشبة يرى قول هذا الفيلسوف اليوناني منطبقاً على وحدة الوجود، فهذه ليست بوحدة الوجود التي قال بها الصوفية في الإسلام
ثم نقل الأستاذ في رقم (10) بعض أقوال الذريين في فلاسفة اليونان، فذكر عن (أناجزاجوراس) أنه كان يقول بتعدد العناصر، وبوجود قوة عاقلة مدبرة حكيمة هي (العقل) تتولى تحريك تلك العناصر، وتوجيهها وجهة عالية صالحة تضمن جمال الكون ونظامه، إلا أنه يعتقد قدم العقل والعناصر على السواء، وأن أحدهما لم يخلق الآخر، وإن حرك العقل العناصر وألف معها وحدة الوجود
فنقول حق لنا أن نتمثل هنا بالمثل القائل: (صرحت بجدان)، فإن قول هذا الفيلسوف مصرح عن وجودين قديمين. فأي معنى يبقى لقوله في الجملة الأخيرة: (وإن حرك العقل العناصر وألف معها وحدة الوجود). وكيف يصح تأليف الوحدة من وجودين قديمين، وكيف يصح من الأستاذ أن يعتبر هذا الفيلسوف قائلا بوحدة الوجود. نعود هنا فنقول إن الصوفية يقولون بالوجود الكلي المطلق اللانهائي، وإنه لا موجود في الحقيقة سواه، وإن جميع الكائنات ليس لها وجود حقيقي مستقل عن الوجود الكلي، وإنما هي مظاهر للوجود الكلي، وصور قائمة به قيام صور الأمواج بماء البحر
نكتفي من تلك الأقوال التي ذكرها الأستاذ بهذين القولين تاركين التعرض لغيرهما، لأنهما يحومان بعض الحوم حول نظرية وحدة الوجود، وإن كان بينهما بون بعيد جداً
هذا ما نريد أن نقوله الآن للأستاذ خشبة، وقد بقى أمران لا بد من التعرض لهما، الأول أننا نرى الأستاذ خشبة في مقالاته يتهم الرصافي بأنه (يدعونا إلى دين جديد). فعلى هذا نقول:
إن الرصافي في رسائل التعليقات لم يجيء مقرراً لمبدأ، ولا واضعاً لمذهب، وإنما تكلم عن وحدة الوجود التي قال بها كبار الصوفية من قديم الزمان، فأوضحها وشرح غوامضها، وكشف النقاب عن وجهها، وهو في كل ما قال عنها منتهج مناهج الصوفية الذين يعبر هو عنهم (بفلاسفة الإسلام)،
سلوا من شتم ممن عرفوا الرصافي من قريب أو بعيد، هل ادعى التصوف أو هل تظاهر به، فإنكم لا تجدون من يجيبكم بنعم. على أنكم لو كنتم قرأتم رسائل التعليقات بإحاطة واستقصاء، لعلمتم أن الرصافي يخالف الصوفية في بعض أقوالهم، وينكر عليهم بعضها، وإن وافقهم في كثير منها، لا سيما وحدة الوجود
فالرصافي لم يتكلم في رسائل التعليقات عن وحدة الوجود دعاية للتصوف، وإنما تكلم عنها بمناسبة مطالعته كتاب (التصوف الإسلامي) للدكتور زكي مبارك يقصد الاستفادة منه، لأنه منذ أيام الصبا مولع بمباحث التصوف، وإن لم يكن هو من الصوفية
وإذا كان هذا هكذا فماذا يريد الأستاذ بقوله إن الرصافي يدعونا إلى دين جديد، وأي دين يعني، وكل من قرأ الرسائل علم أن الرصافي غير داع إلى شيء، وإنما هو فيما كتبه هناك موضح وشارح ومفسر لا غير، ولكن الأستاذ أراد التهويل والتشنيع عند العامة فقال هذا القول المخالف للحقيقة من دون مبالاة، فالظلم غفرا
الثاني: يظهر من الكلمة الأخير التي كتبها الأستاذ خشبة في (الرسالة) رداً على رسائل التعليقات، أنه يتهم الصوفية أهل وحدة الوجود كلهم، لا الرصافي وحده، بأنهم زنادقة وأنهم إباحيون، وأنهم مثل القورينيين من تلامذة سقراط ينشدون اللذة، واللذة الجنسية الخسيسة على وجه الخصوص (وأنهم يقولون بأن الهداية والضلال واحد، وأن التقى والدعارة صنوان، وأن المصير واحد) إلى غير ذلك من الأقوال التي ذهبت مشرقة والصوفية مغربون، وهم منها بريئون، وعنها بعيدون
إن في هذه الأراجيف لدليلاً آخر على أن الأستاذ لم يقرأ رسائل التعليقات، بل مر بها الخطَفى، فثارت به حميته الدينية، لا ثقافته العلمية، فأخذ يقول هذه الأقوال جزافاً، ويرمي الكلام على عواهنه رمياً من دون تأن ولا تثبيت
ولننظر في الذي دعا الأستاذ إلى هذه التهم ما هو، فنقول: لما كان الصوفية يقولون، كل ما وقع في هذا الكون فهو حق، وأنه لا باطل إلا المحال كما هو مذكور في رسائل التعليقات، تساوت عندهم المتضادات، فالشر كالخير والضلال كالهدى كلاهما حق، لأنه واقع، ولو كان باطلاً لما وقع، لأن الباطل هو المحال الممتنع الوقوع. ولكن هذا التساوي في المتضادات، إنما هو بالنسبة إلى الوجود الكلي أي إلى ذات الله، لا بالنسبة إلينا، فذات الله في رأيهم لا يصدر عنها الباطل، بل كل ما صدر عنها فهو حق، وهم يستدلون على ذلك بآيات من القرآن كما هو مذكور في رسائل التعليقات
فإذا كان الأستاذ خشبة ينكر عليهم هذا الرأي فما عليه إلا أن يذكر دليلهم، ثم ينقضه بدليل مثله أو خير منه، وأن يفسر لنا الآيات التي استدلوا بها تفسيراً يبطل به رأيهم، وحينئذ نشكر له ذلك شكراً جزيلاً، ويكون هو أيضاً في غنى عن اتهامه إياهم هذه التهم المنكرة بغير حق
ولا بد أن الأستاذ خشبة قد قرأ كتاب التصوف الإسلامي للدكتور زكي مبارك، واطلع على ما نقله عن الجيلي من أن الله هو الهادي وهو المضل، وأن الضال متحقق بصفة الضلال كما أن المهتدي متحقق بصفة الهداية، وأنهما أمام الله سواء، كما هو مذكور في رسائل التعليقات أيضاً. وهذا صريح في أن تساويهما إنما يكون أمام الله، أي بالنسبة إلى الله، لا بالنسبة إلينا
إلا أن الدكتور زكي مبارك حفظه الله لم ينتبه إلى أن هذا التساوي إنما هو بالنسبة إلى الله فقد، فلذا أخذ في كتابه يتخوف منه على الشريعة والديانة، والدولة والقوانين والأنظمة، بما هو مذكور في كتاب التصوف الإسلامي ولا حاجة إلى ذكره هنا. ونحن في رسائل التعليقات قد أوضحنا للدكتور زكي مبارك أن هذه المخاوف واقعة في غير محلها، بما لا حاجة إلى تكراره هنا
ولو أن الأستاذ خشبة قرأ رسائل التعليقات واطلع على ما كتبناه في رد هذه المخاوف، لما وجه هذه التهم إلى الصوفية الأبرياء، ولعلم أن القول بتساوي المتضادات، لا يصادم أحكام الشرع، ولا يستلزم الفوضى، ولا يجعل الدعارة في الناس كالتقوى، ولا الرذيلة منهم كالفضيلة، ولكن اتباع الهوى، هوى النفس هو الذي حمله على هذا التهويل والتشنيع، حتى نثل ما في كنانته في تهم منكرة على صدور هؤلاء الأبرياء
ومن المعلوم أنه قد انتسب إلى الصوفية في الأزمنة الماضية أناس ليسوا منهم، فكانوا ولم يزالوا في التصوف أدعياء، وبالصوفية لصقاء، وكثروا في البلاد حتى كانت لهم الزوايا والرباطات والخانقاهات، وانتشرت بدعتهم حتى كتب في ذمهم وتوهينهم ما كتب بعض المتحمسين من علماء الدين كابن تيمية وابن القيم وغيرهما
ولا ريب أن هؤلاء ليسوا من الصوفية في العير ولا في النفير، وقد تكلم عنهم الرصافي في رسائله ونفاهم من التصوف، واستخرج نفاوتهم من الصوفية فرماها جانباً، وقال نحن إذا قلنا الصوفية فلا نعني بهم هؤلاء وإنما نعني بهم رجالاً من الأصفياء الأبرار، أولى النفوس الزكية والتفكير الحر، القائلين بوحدة الوجود
ولكن الأستاذ خشبة قد أبى ضميره المدفوع إلا أن يخلط هؤلاء بهؤلاء، ويجعلهم كلهم فئة واحدة، ويوسعهم ذماً وتعباً، لا سيما القائلين بوحدة الوجود، فإنه قد شدد عليهم النكير، وشنع عليهم قولهم بوحدة الوجود كل تشنيع، وعبر عنهم بالأنجاس، ولم يستثن منهم أحداً حتى الجنيد وأمثاله ممن تقدم عليه أو تأخر عنه. ولم يكتف بذلك حتى أخذ يذكر قراء الرسالة بما كتبه علماء الدين في الماضي من ذمهم وتوهينهم، كأن ذلك كأقوال القدماء من الفلاسفة اليونان، شيء لا يعلمه أحد إلا الأستاذ خشبة
ومما يدعوا إلى الحيرة والعجب، أننا لم نر في الأولين ولا في الآخرين من اتهم الصوفية بأنهم إباحيون يطلبون اللذة الجنسية الخسيسة في جميع أحوالهم، حتى جاء الأستاذ خشبة فافتأت عليهم هذا الباطل الذي ليس فوقه من باطل
إن الكلمة الأخيرة من الأستاذ خشبة قد هتكت لنا ستار ضميره، وكل ما قاله عن رسائل التعليقات يدل دلالة واضحة على أنه لم يكن ناقداً، بل كان مشوهاً ومشنعاً، فهل كان هذا منه بدافع من تحمسه الديني، أو كان بدافع آخر. وإلا فليس من آداب البحث والنقد، ولا من المعقول، أن يهرف (!) برسائل التعليقات كل هذا (الهرف!) من دون داع إليه
وآخر ما نقول، هو أن الرصافي إنما يكتب للحقيقة، لا لأغراض أخرى، فإن أصاب فلله المن والفضل، وإن أخطأ فأجره من الله مأمول، وعذره عند كرام الناس مقبول.
(الرصافي)