مجلة الرسالة/العدد 579/أحمد رامي
→ طفيليون ومقترحون | مجلة الرسالة - العدد 579 أحمد رامي [[مؤلف:|]] |
وحدة الوجود ← |
بتاريخ: 07 - 08 - 1944 |
3 - أحمد رامي
للأستاذ دريني خشبة
لعلنا لم نفاجئ أحداً بتلك الصورة الشاحبة التي حاولنا أن نرسم بها خطوطاً سريعة لقلب رامي. . . ذلك القلب الذي كان الناس يحسبونه خلق للفرح والمرح والغناء، والليالي الساهرة الطروب. فإذا هم يرونه قلباً ينضج بالآلام، ويفيض بالمآسي، التي استحالت في فم الشاعر شدواً حزيناً باكياً، وغناءً رقيقاً رفيقاً موجعاً. وإذا هم يرونه قلباً عالمياً يخفق بآمال الإنسانية وآلامها. يكلم الناي ويناجي البدر، ويتوجع للقيط، ويخاطب الطير، ويرثي للجمال الراحل، ويرق للغريب، ويندب حظ الهزار السجين، وينتفض لليتيم، ويفي للحبيب، ويأسى للزهرة الذابلة، ويخفق بجناح الرحمة فوق قبر الجندي المجهول
ونحن لا نعتذر عن هذه الصورة الشاحبة ما دامت هي الصورة الحقيقية لقلب رامي، وما دامت هي النبع الصافي الذي شاعت موسيقا خريره في أغانيه. في تلك السنين العشرين التي ظل رامي طوالها أسطع شاعر من شعراء الغناء في مصر، بل في العالم العربي كله
لم يطبع رامي من شعره الكثير الزاخر غير هذه الدواوين الثلاثة التي يجمع أولها شعره بين سنتي 1916 و1917، وثانيها شعره بين سنتي 1918 و1920، وثالثها شعره بين سنتي 1921 و1925. كما نشرت له سنة 1942 مجموعة من شعره لأغانيه. ويختلف الجزء الثالث عن الجزء الأول والثاني اختلافاً شديداً بيناً؛ إذ نرى الشاعر في أول الديوان يشكو عزوفاً عن قول الشعر. ونراه يحن إلى جنته الأولى التي طالما خفق فيها بجناحيه. وحلق فوق أفنانها يغازل الحور ويعب من الخمرة الإلهية. . . ونراه لا ينظم في العام الطويل العريض غير قصيدة واحدة أو قصيدتين يتشوف فيهما إلى عروس غابه التي كانت تلهمه وتوحي إليه. ثم صدت فجأة. . . وولت لا يدري إلى أين. . .
أين وحي الخيال والوجدان ... يستقي منه خاطري ولساني
طال صمتي حتى خشيت على شعر ... ي يفنى وخفت وأد بياني
أسكوت والكون جم المعاني ... وسكون والنفس في ثوران
هذه نضرة الطبيعة تنثا ... ل جمالاً على مُحيَّا الزمان
وحرام في ليلة البدر ألا ... تسمع الأذن سجعة الكروان وحرام ألا يُحيي طلوع ال ... فجر طير الصباح بالألحان
وحرام ألا تميل غصون ال ... روض في هبة النسيم الواني
لست أدري أأستحم لخطب الد ... هر أم أنطوي على أحزاني
يا بنات الشعر انفحيني وغن ... يني وهاتي من شيقات المعاني
ودعيني إما أنوح على ح ... ظي وإما أبكي شبابي الفاني
لا أريد المضي عن هذه الدني ... اولم تمتلئ ببث جناني
إن صعبا على المزاهر تبلى ... لا تَناغَى على أكف القيان
وشديداً على النفوس مدارا ... ة أساها بالصبر والكتمان
فاجعلي أنّي روياً فبعض الن ... وح أشجى من مطربات المعاني
ودعي همسة الضمير تُدوّى ... من عميق الآباد في الآذان
ربما شاق لحنها قلب محزو ... ن وراقت ألفاظها سمع عان
كنت رطب اللسان ينطف منه ... ريّق الشعر بين آن وآن
وإذا بي حرمت نفسي سلوا ... ها وحرّمتها على إخواني
هذه أبيات من قصيدة جميلة لم يقل رامي غيرها في مدى ستة أشهر. وإليك أبياتاً من قصيدة أخرى لم يقل غيرها في مدى ستة أشهر كذلك:
إني لأخشى أن تموت عواطفي ... ويجف ذاك النبع من أشعاري
وتقر نفسي بعد ثورتها فلا ... يهتاجها شيء سوى التذكار
وترى مجال الكون عيني خالياً ... من بهجة الآصال والأسحار
إني ليحزنني بقائي صامتاً ... ولدي هذا الكنز من أفكاري
وأكاد أندب خاطري ومشاعري ... وهما إلى نفائس الأذخار
في الشعر تأسائي وفيه رفاهتي ... وإليه أشكو صولة الأقدار
فإذا سكت فقد حرمت شكايتي ... ولرب شكوى نفست أكداري
ترى، لماذا صمت رامي هذا الصمت الذي أفزع خياله، وأرق شيطانه، وجعل عرائس الشعر تجأر بالشكوى من طول ما سكت البلبل؟! إن رامي يجيب على ذلك بقوله:
هل زال من دنياي حُسْنٌ هزّني ... أم قرّ في قلبي لهيب نار؟ حب تضرم في حنايا أضلعي ... فأصابه يأس بطول قرار (؟؟)
وبكيته حتى مللت بكاءه ... فسكت منطوياً وحزني وار
وأردت أسدل فوق ماضي صبوتي ... من طول أيامي فضول ستار
فإذا الحياة خلت من الحسن الذي ... قد كان فيها متعة الأبصار
وإذا بها أقوت من المعنى الذي ... قد راقني في سالف الأدهار
وإذا بقلبي في مناحي أضلعي ... مثل الغريب غدار رهين سفار
مستوحشاً في مهمه متطاول ... بعدت مطارحه على الأنظار
ويزيدنا علماً بمأساة قلبه، فيقول هذه الأبيات الخوالد:
لمن الغناء أقوله فأصوغه ... من ادمعي ودمي وطيب سراري
ومن الذي يوحي إلى من الهوى ... قبس الخيال، وصدحة الأوتار
ما أطلق الطير الصدوح بشدوه ... مثل ابتسام الزهر والنوّار
أو نضر الزرع البهيج زهوره ... كالشمس والماء النمير الجاري
أو أرقص البحر الخضم عبابه ... كالبدر يشرق باهر الأنوار
الحب نبع الشعر منه تفجرت ... عين المعاني والخيال الساري
الحب لحن النفس وقعه على ... وتر القريض بنان موسيقار
الحب يفسح في الحياة مراحها ... ويحفها ببدائع الآثار
فلرب ساعة خلوة هفافة ... طالت عن الأجيال والأعمار
ولرب وجهٍ أبدعت قسماته ... أبهى من الجنات والأنهار
ولربما فاقت مناجاة الهوى ... معنى ومغزى ممتع الأسفار
ولرب ثغر باسم أحيا المنى ... وأطارها في النفس كل مطار
هذا هو الحب الذي أشتاقه ... فيهيج ساكن روحي الزخّار
ويمدّني بالشعر معنى سامياً ... ويبث فيه جلائل الأسرار
وبعد. . . فنخشى إذا أطلنا الاقتباس على هذا النحو أن يخرج المقال مكتوباً بقلم رامي نفسه. . . وبعد أيضاً، فلنسأل رامي عن هذا الحب العجيب الذي تضرم في حنايا أضلعه، وبكاه حتى مل بكاءه، ثم سكت منطوياً عليه وحزنه وار، وأراد أن يسدل ستاراً على ماضي صبوته، فلما فعل، وجد الحياة قد أقفرت من معناها الجميل الذي كان يروقه في الزمان الغابر. وإذا. . .
وإذا بقلبي في مناحي أضلعي ... مثل الغريب غدا رهين سفار
مستوحشاً في مهمه متطاول ... بعدت مطارحه على الأنظار؟!
ولله هذه الصورة الرائعة للقلب الذي أقفر من الحب، يصورها خيال رامي الشاعر المبدع الفنان! إنها لصورة تذكرنا بصورة صديقنا العبقري الدكتور إبراهيم ناجي، صاحب القلب:
الشهيد المتواري في الضلوع!
وهنا. . . يجب أن نقف قليلاً لنقذف في أسماع شعرائنا خاصة، وأدبائنا عامة، بذلك السؤال الذي طالما هممت أن أكتب في موضوعه كلاماً طويلاً لا ينتهي، أناقش فيه أولئك الشعراء والأدباء الحساب عن قصص قلوبهم، وأنباء حبهم؟
لماذا لا يصارحنا سادتنا الشعراء والأدباء بأنباء ذلك الحب الذي يخفونه عنا، وهم يعلمون أن:
الحب نبع الشعر منه تفجرت ... عين المعاني والخيال الساري
والحب لحن النفس وقّعه على ... وتر القريض بنانُ موسيقار
لماذا يتركنا سادتنا الشعراء والأدباء في ذلك الظلام الدامس من أنباء حبهم، ونحن لا نفتح كتاباً من كتب تاريخ الأدب في الشرق أو الغرب إلا ونطلع من أنباء غرام الشعراء والأدباء المفصلة تفصيلاً تاماً ظريفاً طريفاً ما نقف منه على أهم صفحة في كتاب حياة كل منهم؟ أي شاعر من شعراء العرب الجاهليين أو المخضرمين أو الإسلاميين أو الأمويين أو العباسيين لا نعرف قصة حبه رائعة مفصلة؟ وأي شاعر من شعراء الغرب لم تكتب عن أخباره الغرامية الكتب والمؤلفات؟ هل يعتبر شعراؤنا الخوض في أحاديث حبهم فضيحة؟ حبهم الذي أثمر لنا أشهى ثمار الشعر المصري الحديث، والقصص المصري الحديث، والأدب المصري الحديث؟
إن إمتاع رامي هذه الحقبة الطويلة عن قول الشعر بسبب نكبته في حبه الذي نجهل أخباره، يشبه إمتناع ناجي عن قول الشعر تلك الحقبة الطويلة التي تكلمنا عنها حينما كنا نكتب عنه، وذلك بسبب نكبته في حبه الذي نجهله كذلك، والذي أبى ناجي أن يحدثنا عنه (لأن أوان ذلك لم يؤن بعد) كما قال لنا مرة ونحن نحاوره في ذلك:
لماذا نجهل حديث حب ناجي، ونحن نعلم حديث حب شلي؟
ولماذا نجهل حديث حب رامي، ونحن نعلم حديث حب قيس؟
ولماذا نجهل حديث حب علي محمود طه، ونحن نعلم حديث حب بودلير؟
ولماذا نجهل حديث حب العقاد ونحن نلم بأحاديث حب بيرون؟
وهذا الغزل الرقيق الذي يطرفنا به الجارم، ولا يزال يطرفنا به، حتى في المؤتمرات الطبية، ما خطبه؟ حب من هذه التي لا تزال توحي إلى أستاذنا الجارم هذا الغزل الراقص الرقيق يا ترى؟!
لماذا تعدون الكلام في أحاديث القلوب عيباً لا ينبغي، وأنتم تطرفوننا بكل هذا الغزل الجميل العلوي الخالد؟
لقد حدثنا العقاد في ساره أحاديث ملفوفة عن وقائع قد تكون فصولاً من كتاب حبه
ولقد حدثنا الحكيم في عودة الروح أحاديث مبرقشة عن وقائع قد تكون فصولاً في كتاب حبه، الذي ربما كان عصفور من الشرق وراقصة المعبد وبعض قصصه الأخرى فصولاً منه كذلك
ولقد حدثنا المازني أحاديثه عن مغامراته بمثل ذلك الأسلوب غير الصريح
أما الأستاذ عزيز أباظة فقد كان أصرح أدباء مصر الحديثة وشعرائها جميعاً، حينما صارحنا بقصة قلبه في ديوانه الباكي (أنات حائرة)
هذا سؤال ألقيه في جو مصر الأبي، وأرجو ألا يثير زوبعة!
وهذا سؤال ألقيه وقد أحسست بالشوك يدمي قدمي وأنا أسير في جنة حب رامي. . . هذا الحب الذي خاض الناس فيه كثيراً، ولم يعرفوا حقيقته إلى الآن.
دريني خشبة