مجلة الرسالة/العدد 579/من أدب الزراعة
→ على هامش العرائس والشياطين | مجلة الرسالة - العدد 579 من أدب الزراعة [[مؤلف:|]] |
نقل الأديب ← |
بتاريخ: 07 - 08 - 1944 |
الخط الأول. . .
لصاحب العزة محمد محمود جلال بك
لثمانية أعوام خلت كنت إذا مررت بناحية معينة من زراعتي أشعر فجأة بشبه صدمة يعقبها شيء من الاشمئزاز، إذ تقع عيني بين نضرة النبات على بقعة جرداء. وحتى في الأوقات التي لا تكتسي الأرض بحلة من زرع كنت أرى في لون التربة معنى من الجدب ولوناً من الإهمال. كنت أراها كالمن يفسد معروف الرجال، وتجاور هذه البقعة مقابر (الشيخ عطا)؛ فكأنما تفصل بين الدنيا والآخرة. وكم آلمني منظرها، والفلاح كالفنان يجد أذى في النشاز؛ فهذا يسره اتساق المزروعات مرأى، وذاك يكره تنافر الألوان، أو إهمال التنسيق في ناحية من تمثاله
وقلت مرة إن إصلاحها يأخذ بيد أهل الدنيا، ويرفه الجوار لسكان هذه المقبرة!. . . كان ذلك سنة 1936
ومنذ يومين مررت بها كأي مرور مما يحدث مرتين في الشهر على الأقل. ولكن ما أدري كيف سبح الخيال إلى عام 1936، ولمَ رجعت الذاكرة سراعا إلى ما كان؟!
نظرت فإذا الحقل ضمن زراعة القطن هذا العام، وإذا الحقل يمتد في نظام ونضرة واتساق إلى آخر حدود المقبرة!
تلفت إلى ناظر الزراعة عن يميني، وتلفت القلب إلى صفحات تنشر من عمر مضى، وكادت تشغل الصحف كل البال، وتغمر في طياتها الحاضر. ثم تيقظ العزم وتيقظ الحاضر؛ فتساءلت: أين القطعة التي عملنا على إصلاحها؟ قال: هي تلك! مشيراً بيده: انظر، لقد أصبحت أخصب ناحية في زمام القطن. . . المجاور!
وهل زرعت لحسابنا؟ قال: كيف! لقد تقاطر الراغبون حين فراغنا من عملية الإصلاح، وإني لأذكر كيف كانت مطمح النظر لأول (خط) رسمه المحراث فيها
وفي الشهر الماضي زرت صديقي وأستاذي صاحب الرسالة، وفي حديثنا أشار بلفظه العذب وأسلوبه الصافي عاتباً عليَّ انقطاع كتابتي قائلاً: أهكذا لا شيء من نظمك ولا شيء من نثرك؟ إني غاضب حقاً. لم يكن ردي اعتذار ووعد بإعادة ما كان بيني وبين الرس ولست أخفي على قراء (الرسالة) أني تهيبت العودة إلى ساحتها، وكل ما فيها رشيق دقيق. تهيبت تهيب من يخشى لأمانته حسن قدره للأمور مع الرغبة في الوفاء
وقمت في بكور اليوم إلى مكتبي أسجل هذه السطور القليلة؛ ويقوي من عزمي ما أعلم من أن الأدب أوسع صدراً وأبر بمن ينسب إليه، أو يحاول قربه من أن يرده خائباً، أو أن يطوى عنه ستره
ومنذ سنة 1936 لم أكتب شيئاً، ومن العجب اتفاق التاريخين.
وما كدت أكتب السطر الأول في تعليقي على ما رأيت حتى ذكرت (الخط الأول) الذي أشار إليه ناظر الزراعة. فالخط الأول في كل سعي هو أشقه! أو لم يقبل الزارعون إثر الخط الأول في الحرث؟ وإذن فلتقبل معاني الأدب وعظاته ما تم الخط الأول في المحاولة
ومن أروع ما قرأت حكمة لأبي شرف الأندلسي عنيت بها قديماً، حتى نقشتها في رحبة داري وجعلتها خلف الباب، لتكون أمامي وأمام أولادي شحذاً للعزم، متى همّ أحدنا بالخروج. قال أبو شرف: (إذا خرجت من دارك، فقد قطعت ثلثي الطريق).
وإذن فالخط الأول. . . هو الخط الأول. . .
الشيخ عطا) في
5 شعبان 1363
25 يولية 1944
محمد محمود جلال