مجلة الرسالة/العدد 579/على هامش العرائس والشياطين
→ على هامش ذكرى المعري | مجلة الرسالة - العدد 579 على هامش العرائس والشياطين [[مؤلف:|]] |
من أدب الزراعة ← |
بتاريخ: 07 - 08 - 1944 |
الطبيعة
في الشعر العربي والشعر العالمي
للأستاذ سيد قطب
أثارت مجموعة (عرائس وشياطين) التي اختارها الأستاذ العقاد من الشعر العالمي - وما زالت تثير - في نفسي موازنات شتى بين الشعر العربي والشعر العالمي في الاتجاهات العامة والخصائص الذاتية، وهذه الموازنات - كما قلت - ضرورية للجيل الجديد من الشعراء، يرى على ضوئها كيف يحسن أن يكون اتجاهه في الالتفات وطرائق التعبير، لا على سبيل التقليد والمحاكاة، ولكن على سبيل الاستفادة والتوجيه. ولهذا سأخرج في مقال اليوم قليلاً عن (العرائس والشياطين) فيما اختاره من النماذج العربية والعالمية
يخيل إليّ من مجموعة الشعر العربي أن (الطبيعة) لم تكن إلا قليلاً - متصلة بإحساس الشعراء العرب اتصال الصداقة والألفة - بله اتصال المجموعة الحية - فهي في الغالب صلة عداء يمثلها قول الشاعر:
وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها (تِرَةً) من جذبها بالعصائب
وإن كانت هذه الظاهرة العامة لا تنفي الأحاسيس المفردة لبعض الشعراء حينما تختلف البيئة كقول حمدونة الشاعرة الأندلسية:
وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة والنديم
وكأبيات المتنبي المعجمة في وصف شِعب بوان وفيها ذلك البيت الجميل
يقول بشعب بَوانٍ حصاني ... أمن هذا يسار إلى الطعان؟!
وظاهرة أخرى تغلب في الشعر العربي، وهي الإحساس بالطبيعة عند ألفتها كأنها منظر يوصف أو يلتذ، لا شخوص تحيا، وحياة تدب. والمواضع التي أحس فيها الشعراء العرب بالطبيعة هذا الإحساس الأخير تكاد تعد. فنحن إذا استثنينا - ابن الرومي - وكان بدعاً ف الشعر العربي كله، ولا نكاد نعثر إلا على أبيات ومقطعات يحس الشعراء فيها هذا الإحساس على تفاوت في قيمتها الفنية. نذكر منها على سبيل المثال قول مسلم ابن الوليد:
تمشي الرياح به حسرى مولهة ... حيرى تلوذ بأكناف الجلاميد
وأبيات البحتري في وصف الربيع التي مطلعها:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقول ابن خفاجة الأندلسي في وصف جبل:
وأرعن طماح الذؤابة شامخ ... يطاول أعنان السماء بغارب
وقور على ظهر الفلاة كأنه ... طوال الليالي ناظر في العواقب
أصخت إليه وهو أخرس صامت ... فحدثني ليل السري بالعجائب
وفيما عدا ابن الرومي وتلك الأبيات والمقطعات التي ضربنا لها هذه الأمثلة تكاد الطبيعة في الشعر العربي (تستعمل من الظاهر!)؛ فهي منظر جامدة للوصف الحسي والتشبيه بالمحسوسات، تعلو سلم الفن، حتى تكون كأبيات المتنبي في شعب بوان، وتسفل حتى تصل إلى تشبيهات ابن المعتز جميعاً!
وظاهرة ثالثة: هي أن الطبيعة في الشعر العربي قد تحيا وتدب ويحس الشاعر بما يضطرب فيها من حياة، ويلحظ خلجاتها ويحصي نبضاتها، كما يصنع ابن الرومي في بدائعه. ولكنه هو لا يندمج في هذه الطبيعة، ولا يحس أنه شخص من شخوصها وفرد من أبنائها، وأن حركته من حركاتها، ونبضه من نبضاتها، وأنه منها وإليها، وأحاسيسه موصولة بأحاسيسها
فأبن الرومي حين يقول:
لم يبق للأرض من سر تكاتمه ... إلا وقد أظهرته بعد إخفاء
أبدت طرائف وشى من أزاهرها ... حمراً وصفراً وكل نبت غبراء
أو حين يقول:
برياض تخايل الأرض فيها ... خيلاء الفتاة بالأبراد
منظر معجب تحية أنف ... ريحه ريح طيب الأولاد
إنما يبلغ في هذين المثالين وفي غيرهما أبدع ما يبلغه الشعر العربي من الإحساس بحياة الطبيعة، ولكنه يبقى في منتصف الطريق بين هذا المدى، والمدى الذي يبلغه الشعر العالمي عند بعض الأمم في الاتصال بالطبيعة اتصال الفرد بالأسرة والخلية بالجسم الحي، والذرة الصغيرة بالكيان الكبير
فها هي ذي الشاعرة الإنجليزية المعاصرة (روث بتر)، تقول في مجموعة العرائس والشياطين، للموت:
لا تناديني والصيف مشرق أيها الموت!
إنني في الصيف لن أجيب النداء
حين يوسوس العشب ويتمايل بأعطافه
لا ترفع إلى صوتك بالنداء من تلك الظلال السفلى
(حين يحن الصفصاف ويترقرق الماء
حين يتوانى الجدول وينعس الهواء
حين يتموج اللبلاب على الأسوار
لا تنادني. قلت لك لا تنادني أيها الموت في ذلك الأوان
إنك عبثاً تنادي وترفع الصوت بالنداء
ففي إبان الأزاهير النامية لن أصغي إليك)
(لكنني سأصغي إليك حين يتجرد كل حال وحالية
ومرحباً بدعائك حين ينتثر الورق من الشجر على ثراه
حين يسمع للسفوح فحيح في العاصف المهتاج
حين يشم الرعاة من الشرق رائحة الثلوج
حين يهجر الحقل للريح تتولى حصاده
حين يصبح الإعصار حطاب الوادي الذي يطيح بأعواده
حين يصبح البَرَد بذرة الأرض التي تنثرها السماء
حين ننفر من كل شيء ولا نتوق إلى شيء
ناد يومئذ يا موت ولك الإصغاء والترحاب
فيومئذ أسمع وأنهض وأمضي!) وليس لدينا من الفراغ ما نقف على مواضع الجمال الجزئية في تصوير الطبيعة في الصيف إبان الحياة، وفي والشتاء إبان الموت، ولا في تصوير وسوسات الحياة ووساوس الموت هنا وهناك: (حين يوسوس العشب ويتمايل بأعطافه. وحين يحن الصفصاف ويترقرق الماء. وحين يتوانى الجدول وينعس الهواء)، أو: (حين يسمع للسفوح فحيح في العاصف المهتاج. وحين يصبح الإعصار حطاب الوادي الذي يطيح بأعواده. وحين يهجر الحقل الريح تتولى حصاده). . . الخ. فهذه جزئيات قد تخطر للشعر العربي، ولا سيما لابن الرومي
ولكننا نتجاوز هذا إلى الظاهرة الكبيرة الجامعة في هذه المقطوعة. تلك هي شعور الفتاة بأنها لا تستطيع أن تموت والطبيعة في فصل الحياة، ولن تلبي الموت إذا دعاها، لأن الطبيعة حولها حتى وهي خلية حية في هذه الطبيعة النامية. أما حين يدب الموت في الأم الكبيرة. فهنا يحس أبناؤها أن لا مانع من إجابة دعاء الموت، وذلك (حين ننفر من كل شيء ولا نتوق لشيء)، وحين يدب الموت من الداخل تسهل إجابة النداء من الخارج
وفي القطعة مجال لتصوير (المرأة) التي تحسب الموت طوع رغباتها ورغبات الحياة النابضة في قلبها كأمها الطبيعة، فهي تناديه أن ينصرف عنها الآن، كما تنادي الخطيب والحبيب في تمنع وإدلال! ولكننا معجلون عن الإفاضة في هذا إلى إيضاح الظاهرة الكبيرة الجامعة في قطعة أخرى لفتاة جديدة! (للورنس هوب) الاسم الرمزي لشاعرة إنجليزية معاصرة أيضاً!
إن رفيق الحياة يدعوها. . . وإنها لترغب في إجابة دعوة الحب والحياة، ولكن الطبيعة حولها حزينة والليلة شاتية، وإنها لتشعر أنها هي وهو وثمرة هذه الاستجابة إنما هم جميعاً خلايا في هذا الجسم الحي، وأن هذا الحزن الذي يدب في حنايا الطبيعة سيتسرب في (الروح الهائمة على أعتاب الدنيا تستجدُّ فيها جثمانها). فتنشأ الثمرة وفيها من هذا الحزن قطرات. فلتؤجل الدعوة إذن إلى حين تكون الطبيعة كلها في فرح صبوح:
(لا. . . غير هذه الليلة!
إن المطر يقطر حزينا وانياً. . .
عبراتِ أسى تحت سماء شجية وعلى البعد (ابن آوى) هزيل خافت العواء
يزيد الغسق وحشة وعزلة
(النهر الدافق يتقدم إلى البحر بهمهمة الشكوى
والظلال تؤوي إليها الوساوسَ الخفية
وعيناي ترنوان نحو عينيك ابتغاء عزاء
فتلقاهما الأهداب مبللة بالدموع
(إن الروح الهائمة على أعتاب الدنيا تستجدْ فيها جثمانها
إن دخلتْ من خلال قبلاتنا إلى حظيرة الحياة
ورثت كل ما في قلوبنا من أسى
وكلَّ ما في المطر المنحدر من شجن مكظوم
(لا. حين تشتهي استجابة الحب الكبرى
أقبل إليَّ والصباح يرتع في الأنوار
والبلابل من حولنا مشوقة تصدح بالغناء
بين الورود من حمر وبيض
(وكذلك حين يقضي الله لي تلك الفريضة الحلوة القدسية
مذعنة لمشيئته الإلهية
كي أمنح الدنيا صورة من جمالك
لأسلمنها إذن إلى الدنيا ومعها فرحي فيك)
فهذه شاعرة وامرأة. يبدو في مقطوعتها طريقة إحساسها بفرح الطبيعة وحزنها، وتتبين الوشائج الحية بينها وبين هذه الأم الكبيرة؛ وهذه هي الظاهرة التي نريد إبرازها. ولكن هذا لا ينسينا أن نقف مرتين أمام موضعين من مواضع الإبداع في القصيدة:
الأول: طريقة الإحساس بحزن الطبيعة وفرحها: فالمطر (الذي يقطر حزيناً وانياً عبرات أسى تحت سماء شجية) يجتمع إلى (ابن آوى هزيل خافت العواء على البعد) فيزيد الغسق وحشة وعزلة. و (النهر الدافق يتقدم إلى البحر بهمهمة الشكوى) يجتمع إلى (الظلال تؤوي إليها الوساوس الخفية) وكلاهما يجتمع إلى (عينيها ترنوان نحو عينيه ابتغاء عزاء فتلقاهما الأهداب مبللة بالدموع). ثم في الوجه الآخر: (الصباح يرتع في الأنوار. والبلابل مشوقة تصدح بالغناء) وكلمة (مشوقة) خاصة في هذا المكان إنها لوحة متناسقة الألوان أو سيمفونية متوافقة الألحان بين الطبيعة وأبنائها الجميع
والثاني: تلك الكناية الدقيقة البارعة عن (الروح الهائمة على أعتاب الدنيا تستجدْ فيها جثمانها) وعن (استجابة الحب الكبرى) التي ترتفع بها وترتفع حتى تجعلها (الفريضة الحلوة القدسية التي يقضيها الله). إنها كناية امرأة. وامرأة تحب. وامرأة شاعرة تجتمع كلها في سياق!
وقد توجهنا حتى الآن في الموازنة بين الشعر العربي والشعر العالمي إلى شعراء الغرب في مجموعة (العرائس والشياطين) وبخاصة الشعراء الإنجليز، فلنتوجه نحو الشرق أيضاً في هذه الموازنة ففي الشرق البعيد، وفي مصر الفرعونية مثل نتقدم بها مطمئنين
يقول الشاعر الصيني (يوان مي) من شعراء القرن الثامن عشر الميلادي بعنوان (زهر الصفصاف):
(أزهار الصفصاف كنديف الثلوج. . . إلى أين؟
أين تمضي جموعك الضالة مع الريح؟
(قلما نبالي. وأقل من ذلك ما ندري!
إنما سبيلنا من سبيل الهواء
حياتنا في دوّاماته العاصفة
وموتنا في الهاوية هناك)
فهذا إنسان يحس بنفسه وبالناس كزهرة أو أزهار للصفصاف. (سبيلهم جميعاً من سبيل الهواء. حياتهم في دوّاماته العاصفة وموتهم في الهاوية هناك). فيزيد على إحساس الغربيين بالاندماج في الطبيعة، تلك الصوفية الغيبية، طابع الشرق الجميل العميق البسيط الذي لا يكاد يبدو في الشعر العربي
وفي المجموعة قطعة أخرى للشاعر نفسه فيها هذه الصوفية الرقيقة وبجانبها إحساس المودة الصادقة بينه وبين الطبيعة التي تداعبه نسماتها وترسل عليه زحاماً من العطور وتبسم في وجهه وهو لا يدري من زحمة العطور عليه عطر الورد من عطر البشنين: (على ضفة الجدول الغربي
تطيف بي الأحلام في النسق المزنبق
وتداعبني نسمات الربيع
فترسل عليّ زحاماً من العطور
وتبسم في وجهي حين لا أدري
عطرَ الورد من عطرِ البشين)
ونتجاوز مجموعة (العرائس والشياطين) لنقع على أغنية مصرية قديمة حيث: (تدعو شجرة الجميز فتاة إلى موعد حب تحت ظلالها، واعدة أن تكون أمينة على أسرارها)!
وفي الموضوع كما ترى تلك الصداقة الحلوة بين شجرة الجميز وبين الحبيبين، حيث تشترك الطبيعة في مباركة الحب. فإذا أضفنا إلى ذلك أن شجرة الجميز كانت مقدسة عند المصريين لأن إلهة (الخصب) (حاتحور) كانت تسكنها وترسم مطلة بين فروعها، زاد الموضوع قوة. فليست الطبيعة وحدها هي التي تبارك الحب بل الآلهة أيضاً، وإلهة الخصب بنوع خاص!
وهذه المقطوعة مترجمة ترجمة حرفية ربما ذهبت بالكثير من جمالها ولكنها تفي بالغرض الموضوعي:
(غنت شجرة الجميز إلى فتاة جميلة
وكانت كلماتها تتساقط كقطرات الشهد
فأصبح الثمر الذي أحمله بلون الياقوت الأحمر
وكل ما في تعريشتي لأجلك
(إن أوراقي تزدان بلون خضرة البردي
وفروعي وجذعي لهما بريق عين الهر
تعالي تحت ظلي الرطب
ليستريح حلم قلبك الذي به تحملين
(سترسل سيدتي رسالة حب
إلى الشخص الذي سيكون سعيداً قائلة: احضر إلى حديقتي قليلاً
واجلس معي في ظلي
سأجني لك الفاكهة لسرورك
وسأقطع الخبز وأصب النبيذ
سأقطف لك الأزهار النضرة
(في يوم هذا العيد السعيد
ستكون سيدتي وحدها مع حبيبها
آه. سأصمت عما أرى
ولا أتفوه بما سمعت!)
إن إحياء الطبيعة والاندماج في حياتها، كلاهما مرحلة بعد أخرى. وكلتاهما في حاجة إلى رصيد ضخم مذخور من الحيوية الباطنية. وقد كانت حيوية العرب حيوية حس تنفق أولاً بأول في الانفعال القريب والحركة المباشرة، والعمل المنظور. فلم يبق في نفوسهم ذلك الرصيد المذخور في الباطن للتأملات والتصورات، التي هي أعلى وأعز ما في الفنون. ولعل في هذا تعليلاً لعدم نمو القصة الفنية في الأدب العربي إلا على نحو قريب من الحكاية والخبر
والكلام في هذا الموضوع يطول. وليس هذا المقال موضعه على كل حال.
سيد قطب