الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 578/صفحة من كتاب

مجلة الرسالة/العدد 578/صفحة من كتاب

بتاريخ: 31 - 07 - 1944


نيتشه والزواج

(صفحة مهداة إلى الآنسة المهذبة (أ. م.))

للأستاذ زكريا إبراهيم

في ظلال الوحدة القاسية، ومن خلال الحياة العقلية الباردة، أرسل نيتشه صيحته العالية: (إن ما تسمونه الحب، ليس إلا سلسلة من الحماقات القصيرة المتتالية. أما الزواج فهو الحماقة المستقرة الكبرى التي تجيء خاتمة لتلك الحماقات)! وليس من عجب أن يعلن نيتشه مثل هذا الحكم على لسان نبيَّه زرادشت؛ فإن فيلسوفنا قد جهل المرأة، ففاتته بذلك معرفة جانب كبير من جوانب الحياة الإنسانية. وقد شهدت بذلك أخته فقالت: (إنني لم أشهد لديه أدنى أثر من آثار عاطفة المحبة. فكل اهتمامه كان منصرفاً إلى المسائل العقلية، وأما ما عدا ذلك فلم يكن يلقى منه غير اهتمام سطحي. ويظهر أنه هو نفسه قد عانى كثيراً فيما بعد، بسبب انعدام كل عاطفة من عواطف الحب لديه). وإذا كان نيتشه قد جهل ذلك العلم الكبير الذي سماه سقراط باسم (الحب)؛ فليس بدعاً أن تجيء أحكامه التي أطلقها على المرأة، أحكاماً قاسية لا تثبُّت فيها ولا هوادة. وهو نفسه قد فطن إلى أن جهله بالمرأة لابد أن ينحرف به عن جادة الصواب؛ فذكر على لسان تلك المرأة العجوز التي التقى بها حكيمه زرادشت: (إن من الغريب أن ينطق زرادشت بالحق في حديثه عن النساء، مع أنه لا يعرف عنهن إلا الشيء القليل!)

ولكن ما هو هذا الحق الذي نطق به زرادشت في حديثه عن المرأة؟ أَلا فلنستمع إليه وهو يفضي إلى تلك المرأة العجوز بسر (المرأة) الذي كشفت له عنه الحياة!: (كل ما في المرأة لغز، وليس لهذا اللغز من حل إلا الولادة. . . ليس الرجل للمرأة إلا وسيلة، أما الغاية فهي دائماً: الولد. . . يجب أن يُنشأ الرجل للحرب والقتال، أما المرأة فيجب تُعّد للترويح عن المحاربين، وكل ما عدا ذلك فهو حمق وضلال). أما المساواة بين الرجل والمرأة فهي حديث خرافة، لأن الجنسين مختلفان، ووظيفة كل منهما مختلفة كذلك عن وظيفة الآخر. ويصف نيتشه هذه المساواة بأنها مساواة مضادّة للطبيعة لأن من المحال أن تنقلب المرأ رجلاً، مهما أجهد أنفسهم في توطيد أسباب ذلك الانقلاب. ومهمة الرجل في نظر نيتشه هي أن يقوم بجلائل الأعمال، ومختلف ضروب الحرب والقتال؛ أما المرأة فإنه ليس ثمة لديها شيء سوى الحب والطفل. وتبعاً لذلك فإن سعادة الرجل هي: (أنا أريد)، وأما سعادة المرأة فهي: (هو يريد)

وقد حَمَل نيتشه على (الزواج الحديث) - كدأبه في الحَمْل على كل ما هو مُحدث -، وأخذ عليه أنه زواج يقوم على العواطف الصاخبة التي لا تدوم، والأهواء الجامحة التي لا تستقر. فالزواج لا يمكن أن يقوم على الحب، لأن الحب يعصف برجاحة الحكم؛ وإنما الواجب أن يقوم على أساس من التدبر والحكمة. وإذا كان نظام الزواج، في المجتمع الأوربي الحديث، قد أخذ يزحف على ساقين؛ فما ذلك إلا لأن زواج الحب قد أصبح يُنظر إليه اليوم نظرة ملؤها التسامح والتساهل. أما الزواج الكامل الذي تتحقق فيه حكمة هذا النظام على أحسن وجه، فهو ذلك الذي تكون فيه الرابطة بين الزوجين، رابطة قوية لا تنفصم عُراها، بحيث لا يمكن أن تعصف بها الأهواء العابرة والنزوات العارضة. ومثل هذا الزواج لا يمكن أن يكون الأصل فيه هو الحب، بل (غريزة النوع) أو (غريزة الامتلاك) (باعتبار أن الزوجة والأبناء بمثابة ممتلكات للزوج)، أو (غريزة السيطرة). ويؤكد نيتشه قيمة غزيرة السيطرة في الزواج؛ فيقول إن الأسرة أشبه ما تكون بمملكة صغيرة تحتاج إلى أبناء وورثة لكي يدوم بقاؤها، ففي مجال الأسرة يستطيع الرجل أن (يباشر) إرادة القوة التي توجد لديه!

بيد أن نيتشه سرعان ما يعدل عن هذه النظرة، لكي يقدِّم لنا عن الزواج صورة أخرى محببة جميلة، يُدخل فيها فكرته عن الإنسان الأعلى؛ فيقول: (أنت شاب في مقتبل العمر، وتتمنى أن تكون لك زوجة وأولاد، ولكنني أسائلك: هل أنت رجل يحق له أن يطمع في البنين؟ هل أنت الرجل الظافر المنتصر على نفسه، المسيطر على حواسه، السائد على فضائله؟ أم أن الشهوة الحيوانية والحاجة الضرورية هما اللتان تتكلمان بلسان رغبتك؟ أم هي العزلة قد دعتك إلى ذلك؟ أم هو اضطرابك وتنازعك مع نفسك؟ إنني أريد أن يكون ظفرك وحريتك هما اللذان يتشوفان إلى الولد؛ وإن عليك أن تبتني الأنصاب الحية لظفرك وحريتك. أجل، إن عليك أن تبتني شيئاً يعلو عليك، ويسمو فوق مستواك. ولكن يجب قبل ذلك أن تكون أنت نفسك متين البنية، قوياً في الجسم والروح. فليس عليك أن تتناسل وتنتج فحسب، بل إن عليك أن تُنتج في صعود، فترتفع بنفسك إلى ما فوق. . . وإنما الزواج عندي هو اتحاد إرادتيْن أو شخصين، لكي ينشأ منهما واحد يكون خيراً منهما)

وعلى هذا النحو لا تعود المرأة مجرد أُلْهيَّة، ولا تقف مهمتها بعد عند الترويح عن المحاربين، وإنما تصبح مخلوقاً جديراً بالاحترام والتقدير، نظراً لأن قيمتها لا تقل عن قيمة الرجل في خَلْق الإنسان الأعلى، والتأدِّي بالإنسانية إلى تلك الغاية السامية التي تعلو عليها.

زكريا إبراهيم