الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 578/القضايا الكبرى في الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 578/القضايا الكبرى في الإسلام

مجلة الرسالة - العدد 578
القضايا الكبرى في الإسلام
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 31 - 07 - 1944


قضية الشاعرين هدبة وزيادة

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 7 -

هذه قضية الشاعرين العذْريين: هُدْبة بن خشْرَمٍ وزيادة بن زيد، بل مأساة الشعر الذي أراد الإسلام أن يجعل منه رسالة إصلاح، وصلة تراحم، فأبى إلا أن يمضي على ما كان عليه قبله، يثير العصبية بين العرب، ويقطع صلة التراحم بينهم وقد شغلت هذه القضية الناس ثلاث سنين، بوقائعها المثيرة، وأخبارها المؤثرة، وأشعارها البليغة، وكان أهل المدينة أكثر الناس افتناناً بأخبارها وأشعارها، لأن وقائعها جرت فيما بينهم، وكان هدبة أول من أُقيد منه في الإسلام، فأحدث ذلك في أهل المدينة الوادعة أثراً عظيماً، حتى قال مصعب الزبيري: كنا بالمدينة أهل البيوتات إذا لم يكن عند أحدنا خبر هدبة وزيادة ازدريناه، وكنا نرفع من قدر أخبارهما وأشعارهما ونعجب بها.

وكان من أمر هذه القضية أن هدبة وزيادة اصطحبا في ركب من قومهما إلى الحج؛ فكانا يتعاقبان السوق بالإبل، وكان مع هدبة أخته فاطمة، فنزل فارتجز فقال:

عوجي علينا واربعي يا فاطما ... مادون أن يرى البعير قائما

ألا ترين الدمع مني ساجما ... حذار دار منك لن تلائما

فعرَّجت مُطرداً عُراهما ... فعماً يَبُذُّ القطف الرواسما

كأن في المثْناة منه عائما ... إنك والله لأن تباغما

خَوْداً كأن البوص والمآكما ... منها نقاً مخالطٌ صرائما

خير من استقبالك السمائما ... ومن مناد يبتغي معاكما

فغضب هدبة حين سمع زيادة يرتجز بأخته، فنزل فرجز بأخت زيادة، وكانت تدعى أم خازم أو أم القاسم، فقال:

لقد أراني والغلام الحازما ... نزجي المطى ضُمَّرا سواهما

متى تظن القلص الرواسما ... والجلة الناجية العياه يبلغنِّ أم خازم وخازما ... إذا هبطن مستحيراً قاتما

ورجع الحادي لها الهماهما ... ألا ترين الحزن مني دائماً

حذار دار منك لن تلائما ... والله لا يشفى الفؤاد الهائما

تماحك اللبات والمآكما ... ولا اللمام دون أن تلازما

ولا اللزام دون أن تفاقما ... ولا الفقام دون أن تفاغما

وتركب القوائم القوائما

فشتمه زيادة وشتمه هدبة، وتسابا طويلاً، ثم صاح بهما القوم: اركبا لا حملكما الله، فإنا قوم حجاج

وقد خشوا أن يقع بينهما شر فوعظوهما حتى أمسك كل واحد منهما على ما في نفسه، وهدبة أشدهما حنقاً، لأنه رأى أن زيادة قد ضامه إذ رجز بأخته وهي تسمع قوله، ورجز هو بأخته وهي غائبة لا تسمع قوله؛ فمضيا ولم يتحاورا بكلمة حتى قضيا حجهما، ورجعا إلى عشائرهما

وكان هدبة من بني عامر وزيادة من بني رقاش، فتفاقم الشر بين الرهطين، والتقى نفر من بني عامر فيهم أبو جبر وهو رئيسهم الذي لا يعصونه، وخشرم أبو هدبة، وزفر عم هدبة، ونفر من بني رقاش فيهم زيادة واخوته عبد الرحمن ونفاع وأدرع، وكان ذلك بواد من أودية حرتهم؛ فكان بينهم كلام؛ فغضب أدرع وأبو جبر، وكان زفر عم هدبة يعزى إلى رجل من بني رقاش؛ فقام أدرع فرجز به فقال:

أدُّوا إلينا زُفَرا ... نعرف منه النظرا

وعينه والأثرا

فغضب رهط هدبة وادعوا حداً على بني رقاش، فتداعوا إلى السلطان. ثم اصطلحوا على أن يدفع إليهم أدرع فيخلو به نفر منهم؛ فما رأوه عليه أمضوه. فلما خلوا به ضربوه الحد ضرباً مبرحاً؛ فراح بنو رقاش وقد أضمروا الحرب وغضبوا، وكان على السلطان أن يتولى إقامة الحد على أدرع، حتى يهدئ تلك النفوس التي لا تزال تنزع إلى جاهليتها، وتحاول الرجوع إلى عاداتها التي قضى الإسلام عليها

ثم جعل زيادة وهدبة يتهاديان الأشعار ويتفاخران، ويطلب كل واحد منهما العلو على صاحبه في شعره، وجرت بينهما في ذلك أشعار كثيرة روى صاحب الأغاني بعضها، ولم يزل هدبة يطلب غرة زيادة حتى أصابها فبيته فقتله، ثم تنحى مخافة السلطان. وكان على المدينة يومئذ سعيد بن العاص؛ فأرسل إلى عم هدبة وأهله فحبسهم بالمدينة. فلما بلغ هدبة ذلك أقبل حتى أمكن من نفسه، وتخلص عمه وأهله؛ فلم يزل محبوساً حتى شخص عبد الرحمن أخو زيادة إلى معاوية بدمشق؛ فأورد كتابه إلى سعيد بأن يقيد من هدبة إذا قامت البينة فأقامها؛ فمشى رهط هدبة إلى عبد الرحمن وسألوه قبول الدية فامتنع. وقال:

أنختم علينا كلكل الحرب مرة ... فنحن منيخوها عليكم بكلكل

فلا تدعني قومي لزيد بن مالك ... لئن لم أُعجل ضربة أو أُعجل

أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل

أُذكر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أني جاهد غير مؤتل

وقيل إن سعيد بن العاص كره الحكم بين هدبة وعبد الرحمن. فحملهما إلى معاوية بدمشق؛ فلما صارا بين يدي معاوية قال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين أشكو إليك مظلمتي، وقتل أخي، وترويع نسوتي. فقال معاوية لهدبة: قل. فقال هدبة: إن هذا رجل سَجَّاعةٌ، فإن شئت أن أقص عليك قصتنا كلاماً أو شعراً فعلت. فقال له معاوية: لا بل شعراً. فقال هدبة:

ألاَ يا لقومي للنوائب والدَّهر ... وللمرء يُردى نفسه وهو لا يدري

وللأرض كم من صالح قد تأكمتْ ... عليه فوارته بِلَمَّاعةٍ قَفْرِ

فلا تتقي ذا هيبة لجلاله ... ولا ذا ضياع هن يتركن للقفر

إلى أن قال:

رمينا فرامينا فصادف رمينا ... منايا رجال في كتاب وفي قَدْر

وأنت أمير المؤمنين فمالنا ... وراءك من مَعْدىً ولا عنك قَصْر

فإن تك في أموالنا لم نضق بها ... ذراعاً وإن صبر فنصبر للصبر

فقال له معاوية: أراك قد أقررت بقتل صاحبهم. ثم قال لعبد الرحمن: هل لزيادة ولد؟ قال: نعم، المسور، وهو غلام صغير لم يبلغ، وأنا عمه وولي دم أبيه. فقال له معاوية: إنك لا تؤمن على أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حق، والمسور أحق بدم أبيه

ثم رد معاوية هدبة إلى المدينة، فحبس ثلاث سنين حتى بلغ المسور، فذهب عبد الرحمن به إلى والي المدينة وهو سعيد بن العاص، وقيل مروان بن الحكم، فسأل سعيد عبد الرحمن أن يقبل الدية عن أخيه، وقال له: أعطيك ما لم يعطه أحد من العرب، أعطيك مائة ناقة حمراء، ليس فيها جَدَّاء، ولا ذات داء. فقال له عبد الرحمن: والله لو نقبت لي قبتك هذه ثم ملأتها ذهباً ما رضيت بها من دم هذا الأجدع. فلم يزل سعيد يسأله ويعرض عليه فيأبى، ثم قال له: والله لو أردت قبول الدية لمنعني قوله:

لَنَجدْ عنَّ بأيدينا أنوفكم ... ويذهب القتل فيما بيننا هدرا

فدفعه سعيد إليه ليقتله، وكان الأولى أيضاً أن يتولى قتله بنفسه

فلما مضى من السجن إلى القتل التفت فرأى امرأته وكانت من أجمل النساء، فقال:

أَقِلِّي عليَّ اللومَ يا أَمَّ بوزعا ... ولا تجزعي مما أصاب فأوجعا

ولا تنكحي إن فَرَّق الدهر بيننا ... أغَمَّ القفا والوجه ليس بأنزعا

كلِيلاً سوى ما كان من حد ضرسه ... أُكَيْبدَ مِبْطانَ العشيات أروعا

ضروباً بلحييه على عظم زَوْرِهِ ... إذا الناس هشوا للفعال تَقنَّعا

وحُلِّي بذى أكرومة وحميَّة ... وصبر إذا ما الدهر عض فأسرعا

فمضت إلى السوق حتى انتهت إلى قصاب فقالت له: أعطني شفرتك وخذ هذين الدرهمين وأنا أردها عليك. ففعل فقربت من حائط وأرسلت ملحفتها على وجهها، ثم جدعت أنفها من أصله، ثم ردت الشفرة وأقبلت حتى دخلت بين الناس وقالت: يا هدبة، أتراني متزوجة بعد ما ترى؟ قال: لا الآن طاب الموت

ثم خرج يرسف في قيوده فإذا هو بأبويه يتوقعان الثُّكلَ وهما بسوء حال، فأقبل عليهما وقال:

أبلياني اليوم صبراً منكما ... إن حزناً إن بدا باديُّ شر

لا أراني اليوم ميتاً ... إن بعد الموت دار المستَقرْ

اصبرا اليوم فإني صابر ... كل حَيٍّ لقضاء وقَدَرْ

فلما دفع هدبة إلى عبد الرحمن ليقتله استأذن في أن يصلي ركعتين، فأذن له فصلاهما وخفَّفَ، ثم التفت إلى من حضر فقال: لولا أن يظن بي الجزع لأطلتهما، فقد كنت محتاجاً إلى إطالتهما. ثم قال قبل أن يقتل: إن تقتلوني في الحديد فإني ... قتلت أخاكم مطلقاً لم يُقَيَّدِ

فقال عبد الرحمن: والله لا قتلته إلا مطلقاً من وثاقه. فأطلق فقام إليه وهز السيف ثم قال:

قد علمتْ نفسي وأنت تعلمُهْ ... لأقتلنَّ اليوم من لا أرحمهْ

ثم قتله. وقد رثاه واسع بن خشرم فقال:

يا هدب يا خير فتيان العشيرة من ... يُفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا

الله يعلم أني لو خشيتهمُ ... أو أوجس القلب من خوف لهم فزعا

لم يقتلوه ولم أُسْلِمْ أُخَيَّ لهم ... حتى نعيش جميعاً أو نموت معا

وكان هدبة قد بعث إلى عائشة يقول لها: استغفري لي. فقالت: إن قتلت استغفرت لك. فلما قتل وفت بوعدها واستغفرت له.

عبد المتعال الصعيدي