الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 571/إلى الأستاذ توفيق الحكيم

مجلة الرسالة/العدد 571/إلى الأستاذ توفيق الحكيم

بتاريخ: 12 - 06 - 1944

2 - الفن والإصلاح

للأستاذ عبد المنعم خلاف

لا يجوز لنا ونحن في أول عهد النهضة الذي مر بمثله الغربيون قبلنا بما يقرب من خمسمائة سنة تقريباً أن نرجو من أدبنا الحالي أن يرمي إلى القيمة الفنية والمزايا الأدبية وحدها كما يرمي إليها الأدب الأوروبي الحاضر. لأن الأدب الأوروبي ثمرة عوامل اجتماعية وأدبية وسياسية عدة هي التي عملت فيه وكونته وأنضجته وجعلته أقرب إلى الكمال

وإن الغلطة التي نرتكبها ونكررها في مجالات السياسة والأدب والاقتصاد هي أننا دائماً ننسى الفارق التاريخي العظيم بيننا وبين الأوروبيين، ونحاول أن نطبق على بيئتنا القاصرة المتخلفة مقاييس الحياة الأوروبية الحاضرة غروراً منا بالمدينة الصناعية الآلية التي أمكننا نقل كثير من مظاهرها إلى حياتنا في السنوات الخمسين الماضية وغفلةً منا عن أن نقل المكان دائماً من حضارة لأخرى أسهل وأسرع من نقل السكان؛ لأن نقل السكان يستلزم المرور بدرجات من النضج العصبي والثقافي والسياسي والأدبي لا يمكن أن يتحقق إلا في أطوار وأدوار تاريخية، وبخاصة إذا كان الانتقال لم يتخذ طريق الطفرة والثورة وإنما اتخذ طريق النضج البطيء على نار هادئة كثيراً ما يطفئها أعداء الإصلاح فترة، ويعوق عملها الاستعمار والوصايات السياسية الجائرة

فيحسن بنا أن نطرح جانباً الآن قصة الموازنة بين أدبنا الحالي وأدب الغربيين الحالي فإنها موازنة مثبطة

فما كان الأدب الأوروبي الحاضر ليبلغ مبلغه من الازدهار والقيمة الفنية والمزايا الأدبية لو لم تسبقه تلك الحركات الإصلاحية والثورات. وهي ثورات وحركات ساهم فيها أدباء النهضة بجهود عظيمة. وما كان يمكن أن يصل الأدب الأوروبي بمعناه الموسوعي ولا بمعناه الفني الضيق إلى ما وصل إليه الآن لو لم تقم حركات تحطيم قيود الجهالة والجمود فتحطم الأغلال عن العقل الأوروبي

فإذا نادى الأستاذ أحمد أمين بك أن يكون بجوار أدبنا الفردي والفني الخالص أدب اجتماعي يعرض مشكلات حياتنا ويصور أمانينا ورغباتنا في الإصلاح، ويوقظ أفكارنا الراقدة ويثيرها إلى مطالب المجد والشرف والصلاح والحرية، فلن يكون في طلبه هذا اعتداء من النقد على الفن ولا تقييد له ولا حمل له على السير في طريق آداب الأمم الديكتاتورية الحالية، وإنما هو طلب معتدل لا يرضي الغلاة من محبي الإصلاح السريع الذين قد يرون من الواجب في حياة أمة مثل أمتنا لم تحقق جميع ضروريات حياتها الاجتماعية والسياسية ولم تتحرر تحرراً كلياً من وصايات جائرة أن يكون معظم أدبها وفنها موجهاً وموحياً بالكفاح في سبيل حريتها، وتصحيح أوضاعها الأساسية في السياسة والاقتصاد والأخلاق، وأن يرسم لذلك المنهج الذي يصح أن يكون في هذا الدور، فإن الجهاد للأحياء الأشقياء العبيد الذين لم يدركوا بعد حقوق الحياة ومبادئها الأولية أولى من الجهاد للفن الخالص على ما فيه من لذة وانطلاق وفلسفة وشعر وترف

إننا نكون أناساً غير طبيعيين حين نفرط في الاستمساك بحقوق الحياة والحرية ونتهاون فيها، ثم نأبى إلا الاستمساك بحقوق الفن في حريته وانطلاقه.

نكون كالفرنسيين الذين جنت عبادتهم للفن وآثاره على كرامتهم السياسية والقومية حين أخذهم الذعر على مدينتهم باريس، فسلموا للألمان حين وصلوها إبقاء على ما فيها من مخلفات الفن وآثاره. وكلما وازنت بين صنيعهم هذا وصنيع الإنجليز بتعريض لندن لجماعات الطير الألمانية تفجؤها بالهدم صباح مساء في أسلوب جديد من الحرب المطلقة المجنونة التي لا عهد للناس بها، فلم يبالوا بما أصاب كنوزها الفنية وآثارها التليدة والطارفة من الهدم والحرق في سبيل إنقاذ حريتهم وكرامتهم وشرفهم القومي، وفي سبيل سلامة الروح من التعبد لغير الحرية والتغذية - أقول كلما وازنت بين صنيع هؤلاء وهؤلاء أدركت الفرق العظيم بين روح الأمتين. وبين العقلية الأنجلوسكسونية واللاتينية على العموم

فالعقلية الأول عقلية أحسنت التلقي عن الطبيعة في تقويم الحقائق والأشياء، فهي تحافظ على آلات الحياة الأصلية التي تكفل حق العيش وحق الحرية قبل المحافظة على أي شأن آخر. وقد نسيت في ساعة المحنة والشقاء والجد هوايات الترف والكماليات، وضحتها خوف أن تضحي ما هو أعظم منها. . . هدمت لندن لتنقذ ما هو أعظم من لندن، وهي الروح الإنجليزية! وهو درس عظيم أعطته إنجلترا للعالم جميعه في هذه الحرب. . . أعطته لأعدائها وأصدقائها على السواء فانتفعوا به ولن ينسوه!

أما العقلية اللاتينية في دورها الحاضر الذي ابتلى المصريون بجوارها فيه وذيوع ثقافتها فيهم. فهي عقلية لم تحسن التتلمذ على الطبيعة في تقدير لباب الأشياء، بل تستهويها حياة القشور المزوقة والثرثرة والجدليات والاستعراضات المسرحية والانطلاق وراء النوازع والشهوات، والتحلل من قيود الاجتماع بحجة الحرية الفكرية. وإنما هي في الواقع حرية طباع لا حرية أفكار. فهي عقلية يسهل استهواؤها واستفزازها وزعزعتها، لأنها لم تستند إلى طبع ركين يستمد من الطبيعة أسلوبها في تقويم الأشياء وتقديرها، وتقديم الأنفع على النافع، وتضحية الفروع محافظة على الأصول. . .

ذلك هو تقدير الطبيعة والحياة الصادقة الناجحة للفن وآثاره. وهو تقدير موزون ليس فيه تقتير ولا إسراف. هو تقدير في الواقع خاضع للمنفعة والجد في خدمة الأغراض الأصلية للحياة. لا للترف ولا للهزل، ولا لإرسال قوة الخلق على هوى طليق أو جموح.

وليس الفن البشري كله مع الأسف سائراً مع هذا الاتجاه. بل منه ما هو سائر معه، وهو أسمى درجاته. ومنه ما يفسد غايات الحياة ويشترك في تعطيلها وتقويض كيانها في النفوس، وهو أحط دركاته. . . ومنه ما لا فساد معه ولا ضرر منه، وهو ما يفيض لإرضاء عبقرية الخلق المودعة في الإنسان، أو لإظهار المهارة والذكاء، أو لتزجية الفراغ وتسلية المجتمع. وهذا فن لا بأس من كثرته في الأمم التي فرغت من إقامة حياتها على دعائم العدالة والقوة والحق

وإذ ثبت أن الحياة الجماعة من القيمة والاعتبار ما تستحق معهما حياطتها والمحافظة عليها من عوامل الهدم والبلبلة والانتكاس التي تسببها النزعات الفردية والاستبدادية في السياسة - وهي فن الحكيم - فلا جدال حينئذ في أن للجماعة الحق في فترة من فترات حياتها أن توجه الفن بلسان النقد إلى الوقوف عند حد ما فيما ينتجه، حتى يكون منسجماً مع منطق الطبيعة، أو أن تلزمه على الأقل الوقوف دون حدود الفساد، والضر الذي يبلبل الأفكار ويشوش على الإحساس الصادق بالحياة.

وإن قوة السخرية في نفس فنان أو تشاؤمه أو إباحيته أو شذوذه قد توحي إليه بصور فنية تثير دهش الناس وعجبهم، ولكنها قد تزلزلهم وتفسد عليهم ألفتهم بالحياة، وائتناسهم بمثلهم العليا، أو تأخذهم إلى حياة اللذة والجموح الذي لا تحتمله الحياة العملية، أو تبحث لهم عن الصور الشاذة في الحياة، أو تخلق لهم تلك الصور وتحملهم على تقليدها بطريق الإيحاء.

ومن هنا يجب التيقظ للأعمال الفنية، لأنها أخطر أنواع الثقافة وأشدها تأثيراً، وأوسعها حيلة في استهواء الناس، وأعظمها انتشاراً بين الجماهير

والفنان الكامل لا بد أن يكون في فنه نوعان من الإنتاج: نوع فردي يجري فيه على طبعه المتفرد الخاص المعتدل وذاتيته الممتازة، ونوع اجتماعي يجاوب فيه الأصداء الاجتماعية التي تتداول سمعه وسمع الناس في عصره. وبخاصة إذا كان مجتمعه مشوشاً ناقصاً يحتاج إلى تكميل وتنظيم، وما يد أن يكون هذان النوعان من الإنتاج في آثاره. وليس في هذا إعنات من المجتمع له وإنما هو تنبيه له وتوجيه إلى الآفاق التي يستمد منها عوامل كمال فنه يؤدي منها ضريبته الأدبية

وليس بصحيح أن الأثر الفني الذي أنتج في مناسبة اجتماعية بعينها وكان مستوفياً شروطه الفنية في الصياغة والحبكة والإخراج يفقد تقديره ووقعه بزوال مناسباته وانقضاء عصر أشخاصه، كما توهم الأستاذ توفيق الحكيم حين قال عن إبسن إنه كاد يهزأ النقد به وبآرائه في السياسة والمجتمع لولا فنه، وأنه قد مات فيه المصلح وبقى الفنان

ليس هذا بصحيح لأن (التاريخ) له خطه في التقدير، ولأنه يظل تاريخاً حياً كل العصور ما دام الفن قد استطاع أن يضفي عليه من الحركة والحياة ما يضمن لشخصياته الوجود الخالد في ذهن القارئ وخياله. وليس لصحة الآراء أو خطئها باختلاف العصور أثر كبير في التقدير ما دام الشرط الأساسي وهو بلاغة الفن قد تحقق

فلن يغمط حق الفنان المصلح الذي جرد نفسه لخدمة مجتمعه وأراد قيادته نحو الكمال ولو تغير عهد الناس ورأيهم في آرائه الإصلاحية إلا إذا ذهب التقدير الفني للتاريخ الخالص، وإلا إذا أهدرت قيمة جهاد الطفولة البشرية وخطواتها المتعثرة الأولى نحو الرشد ونشدان الكمال

وإذا كان الفنان يملك قوة الإنتاج الذي يهدي أمته ويسددها نحو الكمال ويأخذ بيدها في عهد الانتقال. ويملك أيضاً قوة الإنتاج في الأدب الإنساني الخالص، ثم يعرض عن النوع الأول سعياً وراء الخلود الواسع والشهرة العريضة بالإنتاج في النوع الثاني؛ فإنه لا شك ذو عقوق بأمته وبخل عن أداء (الضريبة الأدبية) الواجبة لها في فنه

وسيحسب هذا لدى النقد الصحيح نقصاً في طبيعته الفنية التي لم تستجب لنداء بيئتها، وبلادة في طبيعته الاجتماعية التي لم تحركها عوامل البؤس أو الجهل أو الاستبداد، لم تعطفها عواطف الرحم التي يجب أن تكون بينه وبين مجتمعه

على أننا لا نسلم أيضاً بأن الأدب الخاص بمجتمع ما، والذي يعالج مشكلة من مشكلاته أو يعرض مشهداً من مشاهد حياته لا يروق أذواق غيره من المجتمعات ما دام ذا ذخيرة موفورة من العواطف والأفكار والغرائز والمواقف والمفاجآت البشرية المشتركة. وتلك ذخيرة لا يخلو منها عمل فني يستحق الخلود، حتى لدى المجتمع الذي أنتج فيه. فالطبع البشري واحد الجوهر في كل مكان وزمان وإن اختلفت أعراضه اختلافاً ما، وهانحن أولاء نرى فيما نقرؤه ونشاهده في السينما من آداب الأمم وفنونها الخاصة مصداقاً لما نقول، فهي كثيراً ما تعالج مشكلات خاصة بالوسط الذي أنتجت فيه. ومع ذلك تجد فينا نحن الشرقيين الأسيويين أو الأفريقيين تذوقاً وفهماً لمراميها وأشخاصها

والتاريخ البشري متشابه الموجات، وأمراض المجتمعات البشرية في دور تكوينها واحدة تقريباً، ووسائل كفاح الاستبداد والجهالة والبؤس واحدة أو متشابهة

فلا يتوهمن فنان أن دائرة شهرته وخلوده تضيق بضيق المجتمع الذي يعالجه أو يصوره، فإن النماذج البشرية التي تعرض في حذق وبراعة أبداً خالدة؛ تلتقي في فهمها وتقديرها عقليات الأمم. والبشرية المتفرقة الآن صائرة حتما إلى لقاء: لقاء في الفكر والقلب والعلم والفن. . . وطلائع هذا المستقبل المأمول مقبلة بل هي حاضرة في دراسة كل أمة لآثار عبقريات كل أمة، وفي اقتناء مخلفاتها وترجمة روائع آدابها والتعرف إلى خصوصيات روحها. والدليل على ذلك يا صديقي الأستاذ الحكيم أن أدبك القومي ترجم كله؛ فقد أخبرتنا أن (عودة الروح) (ويوميات نائب في الأرياف) ترجما. . . أما أدبك الذي يدور حول الرموز والأساطير العالمية، فالنسبة في ترجمته أقل من هذا

فابحث في قومك ومجتمعك القريب عن ينابيع لوحيك وصنعتك البارعة، فإن قومك أولى وأحوج إلى الإيقاظ والتحرير والإصلاح. ولا عليك من الخلود وذيوع الصيت، فانهمالك ما احتفظت بصنعتك

إنك شغلت نفسك بالأدب العالمي الذي يدور حول الأسرار والرموز والأساطير والقضايا الفلسفية التي تتصل بها النخبة الممتازة في كل أمة. وأنتجت في هذا إنتاجاً هو لا شك مفخرة للأدب العربي بين آداب العالم وللعقل المصري بين عقول الأمم. ولكن اسمح لي أن أقول لك بصراحة إن (الشعب) المصري لم ينتفع بما أنتجت إلا انتفاعاً يسيراً جداً بالنسبة إلى إنتاجك المبارك، فليس لك في السينما الشعبية إلا (رصاصة في القلب) وهي على ما فيها من بعض المواقف التهذيبية لم تعالج عقدة هامة من عقد الحياة المصرية الكثيرة، ولم تثر في أذهان الجماهير ثورة ما على الأوضاع السيئة التي تضيع حياتهم الراهنة. وإنما هي لون من ألوان أدب الفكاهة والمتعة في قوم لا ينقصهم من ألوان الفكاهة والتهريج وإزجاء الفراغ شيء. . . بل قد استحالت حياتهم إلى أضاحيك ومباذل. . . أما رواياتك الكبرى فلن تتسع لها الآن حوصلة المسرح المصري أو السينما، ولن يهضمها جمهوره إذ أنها تعالج قضايا فلسفية ورمزية فوق المستوى العام. وأحسبها وضعت للقراءة العميقة لا للتمثيل والتجسيم، فإن أحاديث شخصياتها تحتاج إلى سامعين مثقفين دارسين. وقد شهدت ذلك بنفسي في (أهل الكهف) حينما مثلت في أول عهدها

لقد تركت أنت وأمثالك لغيركم من المؤلفين التجاريين أن يمدوا بنتاجهم شركات السينما وهيآت المسرح التي كأن بينها سباق في قتل روح هذه الأمة وفي تشويه سمعتها في الأقطار العربية بما ينتجه أكثرها من فنٍ فجٍ رخيص مهرج داعر يسرق البقية الباقية من أخلاق الشرف والقوة في الأمة، ويفسد ذوقها ويحطم رجولتها ويديل عفاف نسائها، ولا يرتفع بها - إلا في النادر - إلى مستوى أعلى ولا يثيرها وينبهها إلى أوضاعها السيئة في السياسة والاقتصاد والدين والاجتماع

وإن تبعة المسئولين عن توجيه الثقافة الفنية العامة لهذا الشعب تبعة ثقيلة فادحة! فقد أطلقوا لتجار الغناء والمسرح والسينما أن يفعلوا ما يحلو لهم. وما يحلو لهم هو الربح والثروة بأي الطرق، وكثير منهم لا يفهمون روح هذا الشعب لأنهم ليسوا منه. . . ولا يبالون مصالحه ولا يقدرون ظروف الانتقال الخطيرة التي يمر بها. ولا يعلمون ما يحتاجه الآن لتدعيم بنائه الاجتماعي وتقوية روح النضال والكفاح فيه حتى لا ينسى ولا يفنى بين غمرات الحياة الجديدة العجيبة

لقد أصبحت أوقن أن قادة هذا الشعب الحقيقيين هم زمرة المسرح والسينما والغناء، ففتيان الشعب وفتياته ونساؤه وأطفاله على معرفة تامة بتفصيلات حياة الممثلين والمغنين والممثلات والمغنيات، وعلى إلمام تام بمواقفهم وأحاديثهم وأغانيهم ومراقصهم ومباذلهم. بينما هم على جهل تام بحياة الأبطال والمصلحين والخدام الحقيقيين لمصالحهم وسعادتهم، وما أظن حياة الأغلبية لهؤلاء الممثلين والممثلات تصح أن تكون قدوة تقود الفتيان والفتيات

عبد المنعم خلاف