مجلة الرسالة/العدد 566/دفاع عن البلاغة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 566 دفاع عن البلاغة [[مؤلف:|]] |
السلك السياسي ← |
بتاريخ: 08 - 05 - 1944 |
17 - دفاع عن البلاغة 9 - التلاؤم في الأسلوب
بقى الكلام في الصفة الأخيرة من صفات الأسلوب الجامعة وهي: التلاؤم أو الموسيقية أو (الهرمونية). وإذا بلغنا هذه الصفحة من قضية البلاغة، فقد بلغنا موضع التهمة التي تريب المتهِم، وتعتسف الدليل، وتنكر الذوق، وتنزل القيم الفنية منزلة العبث. تلك هي تهمة اللفظ بالأناقة، والتركيب بالموسيقى، والأسلوب بالرفعة. ولو كانت هذه التهمة الجريئة تقصد المجال المزيف والحسن المجتلب لما حكَّ في الصدور من ناحيتها شئ؛ ولكنها تقصد التعبير الجميل الذي يتميز به كلام الأديب عن كلام الناس، وصوت المغني عن صوت الحمار، ورسم المصور عن تناشير الطفل. والزراية على الجمال اللفظي بهذا التعميم وهذا الإطلاق بدعة من بدع هذا العصر الذي اعتلت به الأذواق واختلت فيه المقاييس. وليس لأكثر البدع مسوغ من الفطر السليمة والفكر الصالحة. إنما هي نزوات في بعض الرءوس، أو نزعات في بعض النفوس، تصدر عن شذوذ في الفكر أو حَثَر في الذوق أو عجز عن الكمال. وإلا فكيف تعلل إنكارهم تجميل الأسلوب وهم لا يفتأون كسائر الناس يطلبون الجمال في شتى ضروبه ومختلف صوره؛ لماذا يثورون على تنميق الكلام بدعوى أن الغرض منه الفهم والعلم، ولا يثورون على تزيين الطعام وتحلية الهندام وتزويق المسكن، والغرض الأصيل منها الغذاء والوقاء؟ لم لا يقفون موقف الحيوان عند حدود الضرورة من مآرب العيش ومطالب الجسد، فلا يتفننوا في تلاؤم الأجزاء في اللباس المهندم، ولا يتأنقوا في تنضيد الألوان على الخوان الموشى، ولا يتنافسوا في تنجيد الأثاث للبيت المزخرف؟ وإذا كان أحدهم لا يحب أن يلبس الثوب المرقع، ولا أن يسكن الكوخ النابي، ولا أن يتزوج المرأة المسيخة، ولا أن يسلك الطريق الوعر، ولا أن يركب المركب الخشن، فلماذا يكره أن يسمع الكلمات العذبة والفِقر المتسقة والجمل الموزونة والأصوات المؤتلفة، والنظر والسمع في هذا المقام سواء (فإن هذا حاسة وهذا حاسة، وقياس حاسة على حاسة مناسب) (وجميع جوارح البدن وحواسه تسكن إلى ما يوافقه، وتنفر عما يضاده ويخالفه. والعين تألف الحسن وتقذى بالقبيح؛ والأنف يرتاح للطيب وينفر للمنتن؛ والفم يتلذذ بالحلو ويمج المر؛ والسمع يتشوف للصوت الرائع وينزوي عن الجهير الهائل؛ واليد تنعم باللي وتتأذى بالخشن، والفهم يأنس من الكلام بالمعروف، ويسكن للمألوف، ويصغي إلى الصواب، ويهرب من المحال، وينقبض عن الوخم، ويتأخر عن الجافي الغليظ. ولا يقبل الكلام المضطرب إلا الفهم المضطرب والروية الفاسدة)
الحق الصريح أن الذين يدعوننا أن نكتب كما نتكلم إنما يزورون حقيقة الفن فيهم بنقيصة العجز منهم، بدليل أنهم يجدون في أنفسهم حلاوة الرضا إن وقعت في كلامهم عفوا كلمة أنيقة أو جملة رشيقة أو سجعة محكمة. ذلك لأن الإنسان يتميز من سائر الحيوان بأن أحاسيسه التي تصل إليه عن طريق المشاعر، وعواطفه التي تنشأ فيه من فعل الغرائز، إنما تتوالد في ذهنه وتتكاثر في خياله حتى تزيد على ما تقتضيه طبيعة وجوده أضعافاً مضاعفة. هذا القدر الموفور المذخور من العواطف والأحاسيس لم يزل يطلب متنفساً ينبثق منه ومفيضاً ينسرب فيه حتى وجد الفنون الجميلة الأربعة فاستفاض مخزونه واستعلن مكنونه بتسجيع القلم وترجيع القيثار وتلوين الريشة وتمثيل المنحت. فالإنسان كما قال طاغور فنان في الكثير الغالب من أمور دنياه؛ فهو يجمِّل الهيئة ويحسِّن الشارة وينمق العبارة ويهندس الدار ويرّقش الغرف ويزخرف الأثاث وينمنم الحديقة إعلاناً لشعوره وإبرازاً لشخصه وإثباتاً لوجوده
وهو يشيد المعابد الفخمة، وينصب فيها التماثيل الرائعة، ويرسم عليها الصور البارعة، تعبيراً عن مكنون عواطفه لربه ودينه
وهو كذلك يخطط المدائن الجميلة، ويعبّد الشوارع الظليلة، وينسق الحدائق العامة، تنفيساً عن مكظوم عواطفه لأمته ووطنه
من ذلك نعلم أن جمال العبارة وجلال الأسلوب من الصفات المشتركة في جميع الناس، تتفق في الوجود والمظهر، وتختلف في الطاقة والدرجة. فالعامة يستعملون الوزن والسجع والجناس متى جاشت في صدورهم عاطفة أو جرت على ألسنهم حكمة، فمواويلهم وأناشيدهم وأغانيهم موزونة أو موقعة، وأمثالهم وحكمهم وضوابطهم مزدوجة أو مسجعة. وكلما سمت الطبقة واتسعت الثقافة وصدق الشعور وصفا الذوق وأرهفت الأذن سما الأسلوب من الجميل إلى الأجمل، ومن الجليل إلى الأجل، حتى يبلغ الأوج عند كلام الله. إن جمال اللفظ وطلاوة التعبير تابعان لقوة العاطفة وجلالة الموضوع، لا فرق في ذلك بين أدب العامة وأدب الخاصة؛ فلغة القضاء بين البدو لا تزال إلى اليوم في بوادي العروبة تجرى على سننها المتبع في الفصاحة وإن كانت عامية؛ فالمتهم يتهم بالسجع، والمدافع يدافع بالسجع، والقاضي يحكم بالسجع. والأصل في سجع الكهان الجاهليين ذلك السمو الذي كان يحسه الكاهن في نفسه وفي مقامه؛ فقد كان كهان العرب ككهان الإغريق يزعمون أنهم مهبط الإلهام وأنجياء الأرباب، فكانوا يسترحمونهم بالأناشيد، ويستلهمونهم بالأدعية، ويخبرون الناس بأسرار الغيب في جمل مختارة الألفاظ مسجوعة الفواصل لتكون أسمى من كلام الناس وأجدر بصدورها عن الآلهة
أريد أن أقول إن توخى الجمال المطبوع في الأسلوب أصل في طبائع الناس امتد منها إلى تكوين اللغة وإنشاء الأدب. فإذا سلمت في المنشئ الفطرة وواتته الملكة وساعده الاطلاع، وكان قد تضلع من علوم اللسان وأحاط بأسرار اللغة، صدر عنه الكلام رقيقاً من غير قصد، أنيقاً من غير كلفة
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات