الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 566/السلك السياسي

مجلة الرسالة/العدد 566/السلك السياسي

مجلة الرسالة - العدد 566
السلك السياسي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 08 - 05 - 1944


للأستاذ راشد رستم

(أنشر هذا الحوار تسجيلا لصورة عن جانب من جوانب

التفكير في المجتمع الحديث)

الكاتب

أ - ما هذا الحذاء؟

ب - ماذا. . . ألا يعجبك؟ إنه من الصنف الغالي، دفعت ثمناً له خمسة جنيهات. . .

- لا. لا أقصد ذلك

- ماذا تقصد؟

- أقصد لماذا اخترته من هذا الشكل ذي الرقبة؟

- ولم لا!

- إنها (مودة) قديمة

- ولماذا إذن يعرضونها الآن للبيع؟

- ليشتريها أهل (المودة) القديمة. . . ثم. . .

- ثم ماذا؟

- ثم ليشتريها أولئك الذين يلبسون الجوارب التي من الصنف الرخيص. . .

- وما دخل هذا في ذاك؟

- كيف! ألا تدري؟ أتقول حقاً؟

- نعم. لا أدري. لأني ألبس أجود أنواع الجوارب

- ولكن ألا تدري أن رقبة الحذاء تحجب الجوارب عن الأنظار. . .

- وماذا في ذلك!

- لا يا أستاذ. لابد أن تكون جواربك ظاهرة يراها كل من يجالسك. ولا يتم ذلك إلا بلبس حذاء لا رقبة له. . .

- أو ترك الحذاء بالمرة. . .

- لا تهزأ. . . فهذه ملاحظة في محلها. . .

- حينئذ إذا كانت هذه القاعدة لها خطورتها فأرجو أن تدلني على طريقة لإظهار جميع ملابسي الداخلية، فإنها في الواقع من أجود الأصناف. . .

أ - هذا له ظرفه الخاص، ويلوح لي أنك تقتنيها من أجود الأصناف لهذا الظرف الخاص. . . ومع ذلك فإن ظروف الإظهار تختلف باختلاف المواقف. ولا أظن أنك تجهل ذلك يا سيد العارفين. . .

ب - إن هذه الملاحظات جديدة في نظري، برغم أني نشأت على أن أعرف مواضع الأشياء، ولكن أنت أعلم منى في ذلك لأن سلككم يقضى عليكم بمعرفة أشياء كثيرة لا يعرفها الكثيرون الآخرون كما ظهر لي الآن. . .

- هذا حقيقي، ولكنه لا يمنع أن يعرف غير رجال السلك كيف يلبسون وكيف يظهرون وكيف يتظاهرون. . .، وها أنت ذا واحد من هؤلاء الراسخين في اللبس. . .

- أشكرك. ولكن رجال السلك بدون شك هم النموذج الذي يحتذى في كل المناسبات وكل البلاد

- بهذه المناسبة أتعرف ما هي أحسن طريقة لإظهار القميص الأفرنكي إذا كان من أجود الأصناف؟

- لا. . .

- هي أن تلعب البلياردو. . .

- البلياردو. . .! وما هي الصلة بين القميص والبلياردو. . .؟

-. . . تدخل صالة اللعب، وهي عادة كبيرة وفيها ناس كثيرون، وتأخذ في الاستعداد للعب مع زملائك، وتتظاهر بعدم تحملك حرارة الصالة وحرارة الحركة، فتخلع الجاكتة فيظهر القميص فيراه الجميع. . .

- عظيم. والجهل باللعب؟!

- أمر ثانوي. غير مهم. وكذلك المكسب أو الخسارة. وكذلك (الغشومية) غير مهمة لأن الأغلبية لا تعطى بالا لهذه الاعتبارات. . . حتى أنك إذا أتلفت جوخ الخوان، وهو كما تعلم ثمين جداً،. . . كل ذلك يهون في سبيل إظهار القميص. . .

- أمازج أنت أم جاد، أم أنك تهزأ بمن ليس من سلككم؟!

- حاشا لي أن أقول غير ما أقصد

- أو تقصد غير ما تقول. . .

- وما الفرق؟

ب - فرق بسيط. غير مهم. هذه كلمة خاطفة، لا تعطها بالا كمّل. كمّل. . .

أ - نعم خذ أنت بالك ودعك من التلاعب بالمعاني وبالألفاظ. فهذا زمانه مضى. وأما الوقت الحاضر فيدعو إلى الكشف والوضوح. والذي أريد أن أقرره من كل الذي جرنا إليه الحديث الآن هو أن المظهرية، نعم المظهرية، مسألة هامة جداً

ب - هذا واضح جداً جداً. ولكن هل معنى ذلك أنك تفضل المظهرية على الحقيقة؟

- اسمع يا صديقي. إن الحقيقة تعرف شأنها، وهي موجودة. ولكن المظهرية لابد لها ممن يخدمها ويعمل لها وفي سبيلها، وإلا ضعت يا أستاذ بين الحقيقة والناس. . .

- ولكن ألا ترى أنه خير للعاقل أن يفنى في سبيل الحقيقة من أنه يعيش في رداء المظهرية!

- اسمع كلامي واعمل بفلسفتي، مع العلم بأنها فلسفة شاملة للجميع. دع أفلاطون الذي كان يبحث عن الحقيقة. ثم دع الحقيقة كذلك آمنة في خدرها. إنها إن أرادت الظهور فهي ظاهرة ظاهرة. . .

- وأما المظهرية فهي لا شك في حاجة إلى من يعمل لها أمثالكم. . . أليس كذلك؟

- هو كذلك لا شك. . .

- ولكن خبرني. أليست الحقيقة أولى بهذا المجهود!

- قلت لك إن الحقيقة قوية بذاتها وهي ليست في حاجة إلى أمثالنا

- أو أن أمثالكم ليسوا في حاجة إليها!

- هذا وهذا. . .

- وخبرني كذلك، هل يوجد كثير من أمثالك على هذا الرأي؟

- الدنيا كلها. . .

- أقصد في سلككم الخاص. . .

- الجميع يا أخي. هذا أمر مفروغ منه

- ولكن هل يتعلم الشخص فلسفة المظهرية بعد أن يلتحق بالسلك، أم هو لا يقبل ضمن السلك إلا إذا كان يعلمها من قبل؟

- هذا سؤال طيب. نعم الأوفق أن يكون الشخص عالماً بفلسفة المظهرية مستعداً لها قبل أن يدخل السلك، على أن السلك يعلمه بعد ذلك الدقة فيها وحسن التسرف وحسن السبك. . .

- أفادك الله. . . إذن سأفكر فيما يصلح لي. . .

- أتريد أن تلتحق بالسلك؟

- لا. لا. أبداً أبداً. إنما أريد أن أفكر في شأني وشأن أمثالي وشأن هذه الأفكار. . .

أ - وإلى أن تفكر وتهتدي إلى حل أنظر إلى حذائي وخبرني عن نوع جلده

- هو جلد ثعبان

- برافو! وجلد هذه الحقيبة؟

- جلد ثعبان كذلك

- برافو!

- ولكني لا أدري إن كان جلد الحقيبة وجلد الحذاء هو من الثعبان ذاته

- هذا لا يهم

- ولكن بالله اشهد. أليست هذه ملاحظة تدل على الدقة وحسن السبك؟

- أتريد أن تقول إنك تصلح للسلك؟ وهل في هذا شك يا صديقي؟

- ولكن اسمح لي. . .

- ماذا؟

- ملاحظة أخرى وإن كانت، على ما أظن، لا تجعلني صالحاً للسلك. وعلى الأقل في نظرك أنت

- قل. قل. ما هي؟

- هل تظن أن من العقل أو من الذوق أو من كليهما معاً ومعهما غيرهما. . . أن يلبس الرجل حذاء من جلد ثعبان، في حين أن أحق الناس بذلك هو الجنس اللطيف؟ وما المانع يا أخي!

- والله إذا كانت المسألة مسألة مانع، فإن الموانع كثيرة. هذا إن أردت الحقيقة. ولكن لا. لا. لا تؤاخذني فإن الحقيقة في خدرها. . .

- أنا لا أرى مانعاً مادمت تملك المال الذي تشتري به جلد ثعبان وتصنع منه الحذاء وحقيبة السفر وحقيبة الورق وحقيبة الجيب الخ. . .

- وهل المسألة مسألة فلوس؟ وليس للاعتبارات الأخرى أي تقدير؟!

- أي اعتبارات أخرى! مع العلم بأن جلد الثعبان ثمين جداً وهو (مودة) حديثة جداً

- لا أقصد كل هذا

- إذن أنت تقول ما لا تقصد. . . أو تقصد ما لا تقول.

- دعنا من هذا المزاح السياسي. . . ولنترك مسألة الجلد وخبرني عن نوع الجورب الذي تلبسه. . . .

- من الحرير. ثم انظر إليه وإلى رباط الرقبة وإلى المنديل والقميص

- شئ جميل جداً. كلها من نوع واحد. وهكذا تكون ملابسك مكونة من مجموعات

- حقاً. إنني أميل إلى هذا الشكل من الملابس

- ولكن هذا يتطلب تعباً وتفكيراً ومجهوداً ووقتاً ونقوداً. فهل عملك يسمح بذلك!

- من غير شك. مع العلم بأن كل هذا هين في سبيل. . .

- المظهرية. . .

- برافوا!. . وهذه هي الحقيقة. . .

- نعم. لقد ظهرت من خدرها. . .

- ألم أقل لك إنها قوية لا تحتاج إلى أحد

- نعم نعم. ولكن قل لي، لماذا أنت تلبس كل هذا اللبس العالي الفخم مع أنك على سفر؟

كان هذا الحديث في القطار بين بور سعيد والقاهرة. وكان أن الصديقين التقيا في محطة بور سعيد. وكانت مصادفة أخوية نادرة إذ يلتقيان على هذه الحال بعد غياب أحدهما في الخارج غياباً طويلاً. لذلك أسرعا فاتخذا مكانهما في القطار معاً، ثم كان ذلك الحديث الطريف. . . على أن الصديق (ب) لحظ على صديقه (أ) شيئاً من القلق وعدم الاستقرار، فسأله الخبر فكان (يتظاهر) أيضاً بأن ذلك من متاعب السفر. . . ومع ذلك قام يمشي في دهليز العربة يفحص الجالسين كمن يبحث عن شخص بالذات. ولما عاد إلى مجلسه من طوافه سأله صديقه عمن يبحث؟

أ - عن صديق كان معي بالباخرة وسمعته يقول إنه سيسافر في هذا القطار

ب - وهل وجدته؟

- للأسف لا. . .

- ربما تخلف

- ولكن كان يهمني جداً أن يكون موجوداً في هذا القطار

- هل لي أن أسأل عن سبب اهتمامك به!

- نعم بكل سرور. اسأل. . .

- لقد سألت. . .

- آه. . . نعم. . . بالطبع يكون حسناً لو كان معنا. . .

- وإذا لم يكن معنا فهل في هذا ضرر عليك؟

- لا. ولكن كنت أود أن يكون معنا

- هل أعرفه؟

- لا. . .

ثم جعلا ينتقلان من حديث إلى حديث إلى أن بلغ القطار محطة الإسماعيلية. ولما تحرك لمواصلة السفر قام الصديق (أ) من مكانه مذعوراً

أ - ها هي. . . ها هي. . . يا للخسارة!. .

- ما بالك يا أخي؟ من هي؟ وما هذه الحركات؟ اجلس اجلس

أ - يا للخسارة! ولكن لا تزال الفرصة موجودة. بل لقد سنحت الفرصة

- ما هي الحكاية؟ خير! خير إن شاء الله

- الحكاية طويلة. وهناك في الإسماعيلية إن شاء الله ستكون نقطة التحول في الموقعة. . .

- خير إن شاء الله. . . هل وجدت صديقك؟

- نعم. نعم. وجدتها. . .

- من هي؟ أصديقك هذا سيدة؟

- سيدة بالطبع. . .

- ما أكثر سيداتكم يا (رجال) السلك!

- وهل ظننته رجلاً؟

- بالطبع. لأنك قلت صديقي ولم تقل صديقتي. . .

- لا. لم أكن أعرف. . .

جلس الصديق (أ) حائراً سارحاً بعد الذي رأى على أفريز محطة الإسماعلية، وتولاه شئ من التفكير والوجوم، ثم أخرج سيجارة من علبة مصنوعة كذلك من جلد ثعبان. ثم أشعلها بولاعة ذهبية بديعة كان ينقصها أن تكون مغطاة بجلد ثعبان. . .

ثم تذكر أنه لم يعرض على صديقه سيجارة، فأخرج العلبة مرة أخرى وقدم منها سيجارة لصديقه (ب)

ب - (وقد أراد تغيير مجرى الحديث) إنها سيجارة مصرية فاخرة. لا شك أنك بمجرد وصولك أرض الوطن أسرعت فاشتريتها

- لا. لا. إنها معي من أوربا

- من أوربا؟ كيف؟

- لأني أدخن السجاير المصرية هناك

- شئ جميل! ذلك لأنها مصرية

- نعم. ولأن لها ميزة الأفضلية

- (مداعباً) قل الحق. لها ميزة المظهرية. . .

- (مبتسما) ها هي ذي الحقيقة يا سيدي برزت من تلقاء نفسها. أمسرور أنت إذن؟

ب - بل إن للسلك السياسي لسحراً

راشد رستم