مجلة الرسالة/العدد 565/القضايا الكبرى في الإسلام
→ رسائل الأصدقاء | مجلة الرسالة - العدد 565 القضايا الكبرى في الإسلام [[مؤلف:|]] |
القرآن الكريم ← |
بتاريخ: 01 - 05 - 1944 |
نسب زياد
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كان من أنكحة الجاهلية أن الجماعة يباشرون البغي، فإذا ولدت ألحقت الولد بمن شاءت منهم فيلحقه، وكانت سمية أم زياد لدهقان فارسي، فمرض فدعا الحارث بن كلدة الطبيب التقفي فعالجه فبرئ فوهبه سمية، وقد ولدت عند الحارث أبا بكرة واسمه نفيع، فلم يقربه، ثم ولدت نافعاً فلم يقربه أيضاً، فلما نزل أبو بكرة إلى النبي ﷺ حين حاصر الطائف قال الحارث لنافع أنت ولدي، وكان قد زوج سمية من غلامه عبيد الرومي، فولدت زياداً بعد زواجه بها، فكان يدعى له إلى أن استلحقه معاوية في ملكه بنسب أبيه
وذلك أن أبا سفيان بن حرب كان قد صار في الجاهلية إلى الطائف، فنزل على خمار يقال له أبو مريم السلولي، وقد أسلم بعد هذا وصحب النبي ﷺ، فقال له أبو سفيان: التمس لي بغيا. فدله على سمية فجاءت بزياد في السنة الأولى من الهجرة
فلما كبر زياد ونشأ كان امرءاً حازماً خطيباً فصيحاً، فاتخذه أبو موسى الأشعري كاتباً له في ولايته على البصرة، ثم إن عمر بن الخطاب استكفى زياداً أمراً، فقام به على أحسن وجه فلما عاد إليه حضرو عنده وجوه المهاجرين والأنصار، فخطب خطبة لم يسمعوا بمثلها، فقال عمرو بن العاص: لله هذا الغلام، لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه. فقال أبو سفيان: والله إني لأعرف أباه. فقال علي: يا أبا سفيان اسكت، فإنك لتعلم أن عمر لو سمع هذا القول منك لكان إليك سريعاً
وقد كان هذا من أبي سفيان أول خطوة في استلحاق زياد به وإنما تأخر بها إلى هذا العهد لأنهم كانوا يكرهون استلحاق أولاد الإماء بأنسابهم، ولا سيما إذا كان على ذلك النوع من الأنكحة فإذا أنجب ولد الأمة لم يروا بأساً في استلحاقه بأنسابهم، ولكن أبا سفيان حين فكر في ذلك وجد أن أمره قد نسخ بالإسلام، لأنه حرم ذلك النوع من النكاح، وقضى بأن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولكنه أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرق بين شيء منها، لأن كل تشريع لا يجري إلا على الحاضر. ولا يجري على الماضي إلا في رفع ظلم قائم، أو نحو ذلك مما يجوز الأخذ به فيه، فسكت أبو سفيان على مضض، لأنه لم يكن له من الشأن في الإسلام ما يمكنه من التصرف في ذلك الأمر، وكان شأنه في ذلك شأن كل من تأخر في الإسلام من أشراف الجاهلية
وقد نبه شأن زياد في خلافة علي، وتولى له فارس فضبطها وحمى قلاعها؛ فلما اتصل خبره بمعاوية ساءه وكتب إليه يتهدده ويعرض له بولادة أبي سفيان، فجمع الناس وقام فيهم خطيباً فقال: العجب كل العجب من ابن آكلة الأكباد، ورأس النفاق، يخوفني بقصده إياي وبيني وبينه ابن عم رسول الله ﷺ في المهاجرين والأنصار، أما والله لو أذن لي في لقائه لوجدني أحمر. مخشياً ضراباً بالسيف
ولما بلغ ذلك علياً كتب إليه: إني وليتك ما وليتك وأنا أراك له أهلاً، وقد كانت من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل وكذب النفس، لا توجب له ميراثاً، ولا تحل له نسباً، وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فأحذر، ثم أحذر، والسلام
وكان بعد هذا أن استتب الأمر لمعاوية بعد قتل علي وتنازل الحسن له، فأبقى زياداً في فارس وصالحه على ألفي ألف درهم، وسكت عن استلحاقه بنسب أبيه لأنه لم يبق له حاجة فيه فصار زياد هو الذي يسعى في أمر ذلك النسب، ويجتهد في استمالة معاوية إليه، حتى جعل لمصقلة بن هبيرة الشيباني عشرين ألف درهم على أن يذهب إلى معاوية ويقول له: إن زياداً قد أكل فارس براً، وبحراً، وصالحك على ألفي ألف درهم، والله ما أرى الذي يقال إلا حقاً. فإذا قال: وما يقال؟ قال له: يقال إنه ابن أبي سفيان: ففعل مصقلة ذلك، ورأى معاوية أن يستميل زياداً ويستصفي مودته باستلحاقه، فانفق معاوية وزياد على ذلك الاستلحاق، ثم أحضر معاوية الناس، وحضر من يشهد لزياد بذلك النسب، وكان فيمن حضر للشهادة أبو مريم السلولي، فقال له معاوية: بما تشهد يا أبا مريم؟ فقال أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغياً، فقلت له: ليس عندي إلا سمية. فقال: ائتي بها على قذرها ووضرها، فأتيته بها فخلا معها، ثم خرجت من عنده وإن أسكتيها ليقطران منياً. فقال له زياد: مهلاً أبا مريم، إنما بعثت شاهداً، ولم تبعث شاتماً
فاستلحقه معاوية بعد هذا بنسب أبيه، وصار يدعى زياد بن أبي سفيان، وكان يدعى زياد بن عبيد. وقد اختلف الناس في هذا الحكم اختلافاً كبيراً، فرأى كثير منهم أنه أول ما ردت به أحكام الشريعة علانية، لأن رسول الله ﷺ قضى للولد للفراش وللعاهر بالحجر، وقد عظم ذلك على المسلمين عامة وعلى بني أمية خاصة، وكانت عائشة ممن لم يرض عن هذا الحكم، فكتب زياد إليها: من زياد بن أبي سفيان. وهو يريد أن تكتب له: إلى زياد بن أبي سفيان. فيحتج بذلك، فكتبت إليه: من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد
وكان عبد الله بن عامر من بني أمية ممن أنكر أيضاً ذلك الحكم، وهو عامل لمعاوية على البصرة، فلما وفد زياد على معاوية كان معه رجل من عبد القيس، فقال لزياد: إن لابن عامر عندي يداً، فإن أذنت لي أتيته. فأذن له على أن يحدثه بما يجري بينهما، فلما أتى ابن عامر قال له: هيه هيه، وابن سمية يقبح آثاري، ويعترض لعمالي، لقد هممت أن آتي بقسامة من قريش يحلفون بالله أن أبا سفيان لم ير سمية. فلما رجع إلى زياد سأله فلم يخبره، فألح عليه حتى أخبره، فأخبر زياد معاوية بذلك فقال لحاجبه: إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب. ففعل ذلك به، فأتى ابن عامر يزيد فشكي ذلك إليه فركب معه حتى أدخله، فلما نظر إليه معاوية قام فدخل، فقال يزيد لابن عامر: أجلس، فكم عسى أن يقعد في البيت عن غير مجلسه. فلما أطالا خرج معاوية وهو يتمثل:
لنا سياقٌ ولكم سياقُ ... قد علمت ذلكم الرِّفاقُ
ثم قعد فقال: يا ابن عامر، أنت القائل في زياد ما قلت، أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية، وأن الإسلام لم يزدني إلا عزا، وأني لم أتكثر بزياد من قلة، ولم أتعزز به من ذلة، ولكن عرفت حقاً له فوضعته موضعه.
فقال ابن عامر: يا أمير المؤمنين، نرجع إلى ما يحب زياد
فقال: إذن ترجع إلى ما تحب. فخرج ابن عامر إلى زياد فترضاه
وقد دخل الشعر والسياسة في هذا الحكم فغلوا فيه غلواً فاحشاً، وكانت هناك خصومة بين بني زياد ويزيد بن مفرغ الشاعر الحميري، فقال في ذلك شعراً كثيراً مقذعاً، هجا به زياداً وبنيه، من ذلك قوله:
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عفٌ ... وترضى أن يقال أبوك زاني
فأشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان وأشهد أنها ولدت زياداً ... وصخر من سُمَيَّة غير دان
ومنه أيضاً:
إذ أودى معاوية بن حرب ... فبشر شعب قلبك بانصداع
فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سفيان واضعة القناع
ولكن كان أمر فيه لَبْسٌ ... على وجل شديد وارتياع
وذكر ابن الأثير أن من اعتذر لمعاوية قال: إنما استلحق معاوية زياداً لأن أنكحة الجاهلية كانت أواعاً لا حاجة إلى ذكر جميعها، وكان منها أن الجماعة يباشرون البغي، فإذا حملت وولدت ألحقت الولد بمن شاءت منهم فيلحقه، فلما جاء الإسلام حرم هذا النكاح، إلا أنه أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرق بين شيء منها، فرأى معاوية أن ذلك جائز له، ولم يفرق بين استلحاق في الجاهلية والإسلام
ثم ذكر أن هذا مردود لإنفاق المسلمين على إنكاره، ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة
وإني أرى أن هذا الحكم كان أهون مما ظن أولئك القوم، وأن معاوية كان أكبر من أن يكون استلحاقه لزياد أول ما ردت به الشريعة علانية، فهو من أكبر أصحاب رسول الله ﷺ، وكان ممن اختاره لكتابة الوحي فأتمنه على أمر السماء، فبعيد على مثله أن يقصد إلى أمر يخالف الشريعة علانية كما زعم أولئك القوم، وقد كان له في ذلك اجتهاد مقبول سنبينه، ولا يهمنا بعد ذلك أن يكون أخطأ فيه أو أصاب، لأن مثله إذا اجتهد فأخطأ عذر في خطئه، ولم يكن لذلك مطعن في حكمه، لأن مسائل الاجتهاد يرجع أمرها إلى الظن، ولا يعلم الخطأ فيها بيقين
ولو رجعنا إلى ما ذكره أولئك القوم لوجدنا أن منهم من ينكر ذلك الحكم لأنه يرى أن أبا سفيان لم يجتمع بسمية، وهذا تعنت ظاهر، لأنه لم يكن ما يدعو أبا سفيان إلى أن يكذب في دعوى اجتماعه بسمية، وفي دعوى أنها علقت بزياد من اجتماعه بها، وقد كان زياد في عهد عمر فتى ناشئاً لا خطر له، وكان لأبي سفيان من الأولاد من هو أجل منه خطراً، ولو لم يكن له منهم غير معاوية لكفى، وقد صدقه علي في اجتماعه بسمية وأن زيادا من نطفته، ولكنه رأى أن ذلك كان فلتة لا توجب ميراثاً ولا تحل نسباً. والحق أن رأيه في ذلك صحيح فيما كان منه في الإسلام، لا فيما كان منه في الجاهلية
ومنهم من ينكر ذلك الحكم لأنه يخالف قضاء رسول الله ﷺ بالولد للفراش وللعاهر بالحجر. وهذا خطأ ظاهر، لأن رسول الله صلى عليه وسلم قضى بذلك في زنا الإسلام لا في زنا الجاهلية، ولهذا أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرق بين شيء منها. وقد ولد عمرو بن العاص بمثل ما ولد به زياد، فألحقته أمه بالعاص، ثم جاء الإسلام فأقر ذلك الإلحاق. ومنهم من ينكره لاتفاق المسلمين على إنكاره، ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة. ودعوى الاتفاق في ذلك ظاهرة البطلان، وعمل معاوية مما يحتج به ولو لم يسبق إلى مثله، ولا يبقى بعد هذا إلا أن يقال إن حق زياد في ذلك قد سقط بطول المدة، وبنسخ الإسلام لذلك النكاح الذي قام الاستلحاق على أساسه. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن طول المدة قد اختلفت الشرائع في تحديده وبأن الإسلام حين نسخ ذلك النكاح لم ينسخ آثاره
عبد المتعال الصعيدي