الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 565/القرآن الكريم

مجلة الرسالة/العدد 565/القرآن الكريم

بتاريخ: 01 - 05 - 1944

4 - القرآن الكريم

في كتاب النثر الفني

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

وكتاب النثر الفني - أو النثر الفني في القرن الرابع إذا لم يختصر اسمه - بحث قدمه الدكتور زكي مبارك لينال به الدكتوراه من جامعة باريس، ولم يجد سبيلاً إلى جديد يقدمه في بحثه إلا أن يبدي ويعيد وينقص ويزيد في تاريخ اللغة العربية وآدابها، وتاريخ الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها، ليثبت أن نشأة النثر الفني جاهلية لا إسلامية. والنثر الفني الذي يريد ليس هو نثر الخطب والأمثال والمحادثة، ولكن نثر الرسائل والكتب. فهو يزعم أن العرب في جاهليتهم كانوا يكتبون الرسائل ويؤلفون الكتب، ودليله في هذا (أن القرآن يشير إلى أنه كانت هناك كتب دينية وأدبية لم يطلع عليها النبي عليه السلام حتى يتهم بأنه لفق القرآن مما نقل إليه من علوم الأولين) ذاكراً آية سورة العنكبوت (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذن لارتاب المبطلون) التي جعلها من سورة القصص. واحتج عليه المسيو مرسيه، فيما حكى في كتابه عنه وعن نفسه، بأنه لو كانت هناك مؤلفات نثرية لدونت وحفظت ونقلت إلينا كلها أو بعضها كما هو الشأن في آثار الهند والفرس والروم، فأجابه (بأن فقدان تلك الآثار لا يكفي لإنكار أنه كان لها نصيب من الوجود، ثم زاد زكي مبارك بعد ذلك (على أن في القرآن الكفاية وهو أثر جاهلي كما سنبينه بعد قليل)

وقد أنفق هذا القليل في إنكار أن تكون النصوص النثرية المروية عن العصر الجاهلي صحيحة زاعماً أنها (مما وضع في العصر الأموي وصدر العصر العباسي لأغراض دينية وسياسية) فأنكر مثلاً خطبة قس بن ساعدة الأيادي في قوله: (وهي الخطبة التي زعم الرواة أنه تنبأ فيها بظهور الرسول، وهي بلا شك خطبة وضعت لإيهام الجمهور أن نبوة محمد كانت مما يجري على ألسنة الخطباء الموفقين من أصحاب الحكمة في عهد الجاهلية) وبعد أن مضى ينكر وينفي ويتهم بغير دليل قال (فكيف يستقيم مع ذلك ما نراه من أنه كان للعرب نثر فني قبل الإسلام؟ فليعلم القارئ أن لدينا شاهداً من شواهد النثر الجاهلي يصح الاعتماد عليه وهو القرآن) ص 38، ثم عقب على ذلك بقوله: (ولا ينبغي الاندهاش عد القرآن أثراً جاهلياً، فإنه من صور العصر الجاهلي، إذ جاء بلغته وتصوراته وتقاليده وتعابيره وهو - بالرغم مما أجمع عليه المسلمون من تفرده بصفات أدبية لم تكن معروفة في ظنهم عند العرب - يعطينا صورة للنثر الجاهلي، وإن لم يمكن الحكم بأن هذه الصورة كانت مماثلة تمام المماثلة للصور النثرية عند غير النبي من الكتاب والخطباء). تأمل كلامه هذا جيداً وافهمه في ضوء ما قدمنا لك في المقالين السابقين وفي التمهيد قبلهما، ثم تأمل قوله (وإن لم يمكن الحكم بأن هذه الصورة كانت مماثلة تمام المماثلة للصور النثرية عند غير النبي من الكتاب والخطباء) فإن لازم هذا الكلام أنها كانت مماثلة تمام المماثلة للصور النثرية عند النبي. وهذا تلميح كتصريح في الوضوح. ثم مضى يتمم حكايته عن نفسه فقال:

(وقد قدمت هذا الشاهد للمسيو مرسيه الذي يرى أن النثر الفني يبتدئ بابن المقفع، فأخذ يبحث عن مخرج ولكنه لم يهتد إلى الآن. أما الدكتور طه حسين فقد اهتدى إلى مخرج لطيف وذلك إعلانه أخيراً في دروسه بالجامعة المصرية أن القرآن لا هو شعر ولا هو نثر، وإنما هو قرآن)، وأنت ترى في كلامه هذا مثلاً من شروده وعوج تفكيره، لأنه كان يتكلم عن القرآن كنثر جاهلي في زعمه، فانتقل إلى الكلام عن القرآن هل هو نثر أو غير نثر، كأنه لا يرى الفرق الهائل بين الأمرين. ثم استمر يتحدث عن رأي الدكتور طه حسين فقال: (وقد بلغتني عنه هذه الكلمة وأنا في باريس فحسبته يمزح. . . فلما عدت راجعته فوجدته يصر على أن الكلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شعر ونثر وقرآن. وقد حسب الدكتور طه أنه ينجو بهذا التأويل! وكان الظن به أن يؤيدنا فيما رأيناه من قدم النثر الفني عند العرب، وأن لا يستكثر علينا أن ننقض بعض ما يرى المستشرقون، وهم يرون بلا حق أن العرب لم تكن لهم ذاتية أدبية، وإنما أخذوا طرائق النثر الفني عن الفرس واليونان)!

فهل رأيت أو سمعت بحمق كهذا الحمق الذي يريد أن ينفي عن العرب تهمة أخذ النثر الفني عن الفرس واليونان فلا يرى سبيلاً إلى هذا إلا أن يسلبهم القرآن كتاباً من عند الله ليرده أثراً جاهلياً يثبت لهم به ذاتية أدبية؟! افترى هذا الرجل يرى القرآن من عند الله أم من عند العرب؟ إذا كان من عند الله فكيف يمكن أن يثبت به للعرب؟ ذاتية أدبية كالتي أراد وليس فيه لعربي منهم حرف؟ وإن كان أثراً جاهلياً يثبت قدم النثر الفني أي نثر الرسائل والكتب، عند العرب، فكيف يمكن أن يكون من عند الله؟ إن هذا الرجل بين أن ينكر القرآن أو أن ينكر (نظريته) في نشأة النثر الفني، كما يسمي فرضه الذي افترض، ليس له عن أحدهما محيص

وإن أردت مثلاً آخر فاقرأ له قوله بعد ذلك: (القرآن شاهد من شواهد النثر الفني ولو كره المكابرون. فأين نضعه من عهود النثر في اللغة العربية؟ أنضعه في العهد الإسلامي؟ وكيف والإسلام لم يكن موجوداً قبل القرآن حتى يغير أوضاع التعابير والأساليب!) ارأيت استدلال الدكتور البحاثة على وجوب وضع القرآن في العهد الجاهلي؟ الإسلام لم يكن موجوداً قبل القرآن حتى يمكن أن ينسب القرآن إلى العهد الإسلامي، وإذن فالقرآن كان موجوداً قبل الإسلام ما دامت نسبة القرآن إلى العهد الإسلامي غير ممكنة! هذه هي نتيجة منطق الدكتور. وهذا طبعاً يستلزم أنه يفرق بين القرآن وبين الإسلام، إذ لو كان القرآن والإسلام شيئاً واحداً عند الدكتور لكان القياس الذي بنى عليه حجته السابقة هو أن القرآن لم يكن موجوداً قبل القرآن، وإذن فلا يمكن أن ينسب إلى العهد القرآني! وهو قياس كما ترى لا يليق أن ينسب إلى دكتور

وللدكتور دليل آخر على أنه (لا مفر إذن من الاعتراف بأن القرآن يعطي صورة صحيحة من النثر الفني لعهد الجاهلية) ذكره في قوله عقب ذلك (وفي القرآن نص صريح على أن الرسول لا يرسل (إلا بلسان قومه ليبين لهم) وتلك إشارة نلوح بها لمن لا يكفيهم المنطق، وإلا فكيف يعقل أن يحدث النبي قومه بما ينبو عن أذواقهم وإفهامهم، وهو رجل مسئول لا يستطيع أن يقصد إلى الأغراب في الألفاظ والتعابير، أو قهر اللغة على الالتواء عما ألف العرب من طرائق البيان) ص 39

وملخص هذا الدليل أن القرآن صورة صحيحة لنثر الجاهلية الفني لأن المشركين كانوا يفهمونه ويستسيغونه. ولازم هذا إن صح، أن الجاهليين لم يكونوا ليفهموا ولا ليستسيغوا نثر ابن سلام والجاحظ، ولا نثر سهل بن هارون وعبد الحميد وابن المقفع، ولا نثر الخوارزمي وابن عباد وابن العميد؛ بل ولا شعر جرير والفرزدق والأخطل وبشار وابن الرومي والبحتري، لأن شعر هؤلاء ونثر أولئك إسلامي لا جاهلي، فإذا هم فهموه واستساغوه كان في منطق الدكتور جاهلياً لا إسلامياً، كأن تعريف الأدب الإسلامي عند الدكتور هو ما لا يمكن أن يفهمه أو يستسيغه الجاهليون!

لكن عد عن هذا وارجع إلى تلك القطعة من كلام صاحب النثر الفني ففيها ما هو أهم من هذا كله في ما نحن بصدده. اقرأ قوله: (وإلا فيكف يعقل أن يحدث النبي قومه بما ينبو عن أذواقهم وإفهامهم)، وامض إلى آخر القطعة، ولاحظ استبعاده أن يقصد النبي إلى الأغراب أو قهر اللغة على الالتواء عما ألف العرب، واذكر أن هذا كله قاله صاحب النثر الفني في مقام الكلام عن القرآن وموافقته لغة العرب. ألا ترى أن ذلك القول منه أقرب ما يكون إلى التصريح بأن القرآن من كلام النبي، حدث قومه به وتجنب فيه الأغراب عليهم في الألفاظ والتعابير ولم يقهرها عما يألفون؟ إن الرجل صاحب رأي في القرآن، ويأبى هذا الرأي إلا أن يظهر فيما يكتب وما يسوق من استدلال

ويمضي الرجل إلى آخر الشوط في استنتاجه من فرضه الذي افترض من أن القرآن (أثر جاهلي) فيزعم للعرب في الجاهلية (نهضة علمية وأدبية وسياسية وأخلاقية واجتماعية وفلسفية) كان الإسلام تاجاً لها، أي أن الإسلام كان نتيجة وتماماً لتلك النهضة لا سبباً لها. اقرأ تعليله بعد إن شئت: (لأنه لا يمكن رجلاً فرداً مثل النبي محمد عليه السلام أن ينقل أمة كاملة من العدم إلى الوجود ومن الظلمات إلى النور ومن العبودية إلى السيادة القاهرة، كل هذا لا يمكن أن يقع من دون أن تكون تلك الأمة قد استعدت في أعماقها وفي ضمائرها وفي عقولها بحيث استطاع رجل واحد أن يكون منها أمة متحدة وكانت قبائل متفرقة، وأن ينظم علومها وآدابها بحيث تستطيع أن تفرض سيادتها وتجاربها وعلومها على أجزاء مهمة من آسيا وأفريقيا وأوربا في زمن وجيز. ولو كان يكفي أن يكون الإنسان نبياً ليفعل ما فعله النبي محمد لما رأينا أنبياء أخفقوا ولم يصلوا، لأن أممهم لم تكن صالحة للبعث والنهوض)! فانظر إلى صاحب هذا الكلام كيف يسوي بين الأنبياء في كل شيء وبين الأديان، وكيف يرد نهضة العرب بعد الإسلام لا إلى النبوة والرسالة وما أنزل الله على الرسول من دين، ولكن إلى علوم وآداب وتجارب كانت عند العرب كل ما فعله النبي هو أن نظمها حتى استطاع أهلها أن يسودوا في القارات الثلاث في زمن وجيز! وتاريخ نشأة العلوم والآداب في الأمة العربية بعد الإسلام معروف، كما أن مقاومة العرب للنبي ودعوته ومحاربتهم له ولها معروفة، لكن الرجل ينكر التاريخ، ويفتري تاريخاً آخر، ويزعم زعماً لا يجوز ولا يستقيم في منطق أو تفكير إلا إذا كان القرآن كلام النبي، كلام محمد العربي لا كلام الله. عندئذ فقط يعقل أن يكون العرب على ما وصف الدكتور زكي مبارك من نهضة وعلم وأدب، لأن القرآن أكثر من نهضة وعلم وأدب، ولا يعقل إن كان كلام بشر أن يأتي به صاحبه في أمة جاهلة كالتي أجمع على وجودها قبل الإسلام مؤرخو اللغة العربية من شرقيين ومستشرقين، ومؤرخو الإسلام.

(يتبع)

محمد أحمد الغمراوي