مجلة الرسالة/العدد 560/محاورات الموتى
→ الأدب والأخلاق | مجلة الرسالة - العدد 560 محاورات الموتى [[مؤلف:|]] |
منشأ عقيدة اليزيدية وتطورها ← |
بتاريخ: 27 - 03 - 1944 |
المحاورة الثالثة
للكاتب الفرنسي برنار توفيه دفونتنيل
بقلم الأديب يوسف روشا
هوميروس وإيزوب
هوميروس: صاحب الملحمتين الخالدتين الالياذة والأوديسة، عاش حوالي 850 قبل المسيح، ومن أغرب ما تحكى أن الرسام أغاتون قد دفعه تعصبه لهوميروس إلى أن يصوره وهو يقيء وسائر الشعراء يزدردون قيئه
إيزوب: مؤلف وفيلسوف إغريقي، صاحب القصص الخرافية المشهورة، عاش في القرن السادس قبل المسيح، وكان عبداً ثم أعتق لنبوغه.
للمحاورة
هوميروس: ليس من الممكن حقاً أن تظفر كل هذه القصص الخرافية التي قرأتها على بإعجاب الناس كثيراً. على أنك لو لم تكن على جانب عظيم من الفن ما استطعت أن تضمن قصصك القصيرة هذه العظات البالغات، وأن تذيع أفكارك القيمة على ألسنة البهائم.
إيزوب: ما أجمل المديح لهذا الفن يصدر عنك أنت الذي تجيده كل الإجادة!
هوميروس: أنا؟ أنا لم أحاوله قط.
إيزوب: ماذا؟ ألم تزعم أنك ضمنت مؤلفاتك عظات بالغات؟
هوميروس: مع الأسف لم يخطر ذلك على بالي
إيزوب: ولكن العلماء في زماني قالوا كلهم ذلك، وقد أقبلوا على الإلياذة والأوديسة فاستعاروا صورهما، وصاغوا منها أجمل المعاني الرمزية، مؤكدين أن جميع أسرار اللاهوت والطبيعيات والأدب، حتى الرياضيات مبثوثة في ما كتبت، على أن نشرهم لتلك الروائع لم يكن سهلاً هينا؛ فبينما كان أحدهم يجد معنى أخلاقياً إذا يراه طبيعياً. ولكن ما عدا ذلك لم يكن هناك اختلاف في أنك كنت محيطاً بكل شئ، ولقد قلت كل شئ للذين يفهمون ما كنت تق هوميروس: أقول لك الحق، لقد وقع في نفسي أن بعض الناس لا يعجزون عن استنباط أروع المعاني وأبلغ العبر مما كتبت، مع أني لم أقصد إلى شئ من ذلك. ما أسهل على المرء أن يتنبأ عن حوادث بعيدة ثم ينتظر وقوعها، أو أن يقص حكايات خرافية ثم ينتظر من يطبق عليها المجازات!
إيزوب: لاشك أنك كنت جريئاً بعض الشيء في إلقائك عبء إدخال المجازات في شعرك على كواهل قرائك. أين كنت تكون لو أنهم فهموها على معناها الحرفي؟
هوميروس: هدئ من روعك، فإن ذلك لو حدث لما نشأ عنه نكبة عظمى كما تتصور
إيزوب: كيف! وهؤلاء الآلهة الذين بعضهم بعضاً! أما ترى إلى كبير الآلهة (جوبيتر) كيف يتوعد زوجه البارعة (جونو) في أحد اجتماعات الآلهة بضربها؛ وإلى مارس إله الحرب وقد جرحه (ديوميدس) جرحا بليغاً كيف يصرخ كما تقول بقوة تسعة آلاف أو عشرة آلاف رجل، ومع ذلك لا يعمل ما يعمله رجل واحد! فبدلاً من أن يمزق اليونانيين شر ممزق لا يرى غضاضة في أن يذهب إلى كبير الآلهة يشكو له جراحه! كان في الإمكان أن تبلغ هذا الغرض من غير حاجة إلى استعمال المجازات
هوميروس: وماذا على من ذلك؟ أتتصور أن الطبيعة البشرية لا تتوخى غير الحقيقة؟ إذن ما أضلك! إن هناك عطفاً متبادلاً واتصالاً وثيقاً بين الذكاء البشري والكذب. فإذا أردت أن يستسيغ الناس الحقيقة فلابد أن تكسوها بالأساطير، على حين أن الأساطير لا تحتاج إلى الحقيقة ليستسيغها الناس! فالحقيقة إذن مضطرة إلى أن تستعير وجه الكذب ليتقبلها ضمير الإنسان قبولا حسناً، ولكن الكذب ينفذ إلى قلب الإنسان بغير استئذان ولا شفيع، ذلك لأن هناك مولده وفيه مقامه. أما الحقيقة فهي وحدها الغريبة. والحق الذي لا شك فيه ولا يحسن بك أن تجهله هو أن آلهتي على علاتهم لم يستسخفهم الناس.
إيزوب: إن الذي تقوله يفزعني، فأنا شديد الخوف من أن يعتقد الناس أن الحيوانات تتكلم جعلتها تتكلم في أساطيري
هوميروس: ذلك خوف لا حقيقة له
إيزوب: كيف؟ إذا كان الناس يعتقدون أن في إمكان الآلهة أن يتحدثوا فيما بينهم على الصورة التي قصصت، فماذا يمنعهم من أن يعتقدوا أن الحيوانات تتكلم كما أردت لها أن تتكلم؟
هوميروس: تلك مسألة أخرى. إن الرجال يسرهم أن تنخفض الآلهة إلى دنياهم، ولكنهم لا يرغبون أن ترتفع الحيوانات إلى مستواهم!
يوسف روشا