مجلة الرسالة/العدد 560/الأدب والأخلاق
→ على هامش العيد الألفي | مجلة الرسالة - العدد 560 الأدب والأخلاق [[مؤلف:|]] |
محاورات الموتى ← |
بتاريخ: 27 - 03 - 1944 |
للأستاذ عمر الدسوقي
تقليد:
ربَّ! إلى أين نحن سائرون؟ وما هذه العواصف التي تعصف بنا من كل صوب؟ وما هذا الفيض المنهمر الذي ترمينا به المطابع في هذه الأيام؟ أبلغنا حد الترف العقلي والعمراني، وأخذنا نصيبنا كاملاً من ضروريات الحياة، والغذاء الصحيح للعقول، ومقومات الأخلاق والشخصية، ولم يبق أمامنا إلا أن نعكف على مخلفات الحضارة الأوربية نلتقط منها الغث والسمين، والنافع والضار، والجميل والدميم، وما يلائمنا وما لا نستسيغه، وما لا يوافق طباعنا وعاداتنا وجوهر شخصيتنا؟
أهو اتجار بعقلية الجماهير، واستغلال لرغبتها الملحة في القراءة، وحمى من حميات كسب المال التي ملكت على بعض الناس عقولهم وألبابهم في هذه الأيام العصيبة؟ أم هو افتتان بما أوقع أوربا في التهلكة، وفكك فيها الأسرة والشعب، وطوح بالأخلاق والفضيلة والإيمان، وجعلها تنبذ المثل العليا، ولا ترى إلا المادة المزرية هدفاً يذلف إليه ويتناحر الناس في سبيل الوصول إليه حتى أرداهم حرصهم عليه في ذلك الأتون المستعر الذي كاد بالطارف والتليد؟
وإلا فما هذا القصص الخليع الذي يثير الشهوة ويقتل الحياء، ويلطم وجه الفضيلة والشرف، ويوحي بالإجرام والفسق؟ وما هذا الأدب الموبوء الذي يزلزل العقيدة ويخدش العفاف؟ إنه ورد آسنٌ وغذاء عفنٌ وايم الحق، وأحرى به أن يصادر، ويؤاخذ المتجرون به أخذاً عنيفاً على ما أجرموا في سبيل أمتهم الشادية في العلم والحضارة! إنهم يريدون مسخها وتشويهها حتى تتناسى ماضيها، وتفقد ما كمن فيها من عزة وأنفة، وتنسى أن لها ديناً يعصمها من الزلل والعثار، وتاريخاً يزخر بالبطولة والمثل العليا، وأدباً هو وحي الفطر السليمة
ولقد أعدت الحمى كثيرين فأخذوا يقلدون هذه السلع الدخيلة من غير وعي، ويصورون أسوأ ما في مجتمعاتنا مرة باسم (الأدب الواقعي) وتارة باسم (الأدب الحر)، وأخرى باسم (الفن للفن). . . إلى غير ذلك من هذه العلامات التي رأوها ملصقة على الآداب الواردة من الخارج، دون أن يدركوا ما في انتحالهم هذا من عبث وهذر وتزييف وتقليد غث
إن تملق النزعات الوضيعة عند الجمهور، وبعث الغرائز الدنيا لدى الإنسان من معقلها - وقد حاولت الأديان والأخلاق والعلم الصحيح كبتها وتهذيبها - تحت هذه الأسماء المزيفة التي جنت على الغرب من غير أن نتعظ بمأساته جرم لا يغتفر
ليس للأدب الواقعي قيمة لا من جهة الفن ولا من جهة المغزى؛ لأنه محاكاة لما في الطبيعة أو لما في البيئة الإنسانية محاكاة لا تصرف فيها، فلا تظهر شخصية المؤلف أو إحساس الخاص، أو ما يضفيه خياله على الصورة المنقولة، وكل ما له من جهد أنه جرد الصورة مما يحيط بها وحاول إبرازها بأداء تعبيره، على قدر استطاعته، طبق ما في الخارج
ففن المؤلف هنا سلبي محض، وأما المغزى، فالأصل دائما أروع وأبلغ وأكبر أثراً في النفس من التقليد. ولم أجد على هذا المذهب أشفى من رد أرسطو حين يعرف الأدب في كتابه الشعر (بأنه تقليد الناس بصورة خير مما في الحياة أو شر مما في الحياة) مهملاً مطابقته لما في الحياة؛ (لأن الأصل أمامنا أبداً وهو أبلغ وأقوى) وبدهي أن أرسطو قصر الأدب بتعريفه هذا على المأساة والمهزلة، ولا يعنينا تبيان رأيه هذا إلا بالقدر الذي سقناه إليه؛ إذ يريد إثارة العواطف والمشاعر في الناس، ولذا فهو يبالغ في مثل الخير حتى يحمل الناس على احتذائها، ويبالغ في تصوير مثل الشر حتى ينفر الناس منها
ثم لماذا لا يقلد هؤلاء باسم (الأدب الواقعي) إلا الصور الدميمة التي تدفع إلى الرذائل ذوي القلوب الخاوية والأخلاق الرقيقة، ومن ليس عندهم مبادئ تعصمهم أو إيمان يردعهم، ومن تسهل غوايتهم وإضلالهم؟
أما (الفن للفن) أو للفن المقصود لذاته فعبارة يريدون بها أن ليس للفن وظيفة يؤديها في الحياة، وأنه لا يحكم عليه بأمور خارجة عنه فلا يقال: إنه صادق أو صحيح أو نافع أو مهذب أو ضار أو كذب، وإنما هو التعبير لمجرد التعبير دون أن نتوقع منه أن يخبرنا بشيء أو يقنعنا برأي
أما أن يكون للكلام معنى أو خالياً من المعاني، فإن كان له معنى، فإما أن يكون المؤلف قد عناه وحاول التعبير عنه أو يكون قد جاء عفواً دون أن يدري به أو يقصده، فإن كان قد عناه ورمى إليه بعبارته فليس أدبه من الفن للفن؛ وإن كان رمية من غير رام وشيئاً صدر عنه من غير أن يشعر به أو يعمل فيه فكره - فلو سلمنا بهذا - لم يؤاخذ عليه صاحبه لأنه أشبه بهذيان المحموم وعبارات المعتوه لا يعنيها ولا يريدها ولا يسأل عنها أو يحاسب عليها. ومثل هذا حري بنا ألا نشغل به عقولنا أو نسميه أدباً. وأما إن كان الكلام خلواً من المعاني فحسبنا أنه كذلك، فهو لغو وهراء فهل هذا هو (الفن للفن)؟
إني أفهم (العبارة) على أنها وسيلة لنقل معني في نفس المؤلف يريد أن يفضي به للقارئ، لا غاية في ذاتها؛ وهذا المعنى سيؤدي وظيفته من تأثير في نفس القارئ بالخير أو الشر، وسيصدر عليه القارئ حكمه حتماً حسب استعداده وحسب قوة وصوله إليه أو ضعفها - تبعاً لمهارة المؤلف الفنية - سواء أراد المؤلف ذلك أم لم يرده. أما ألا نوجه للفن حكماً خارجاً عن طبيعته، فأغلب الظن هذه نظرية أرادوا بها التخلص من التبعات والتهرب من النقد، والتستر وراء الفن حتى لا يهاجموا أو يحاكموا إن ند فكرهم أو شردت أغراضهم عن المألوف، أو طعنوا الفضائل واستخفوا بالأخلاق
مهمة الأدب
الأدب صورة لما يتجاوب في النفس الإنسانية الملهمة الفنانة من فكر وإحساس ورغبة، فنفس الأديب تتأثر تارة بما في الحياة من تجارب ومناظر وحقائق واحساسات فتنفعل لتلك المؤثرات وتتحد معها وتضفي عليها من إلهامها وخيالها ومشاعرها ثم يبرزها بعد ذلك الانصهار ليتأثر بها غيرها، وتارة تتبع تلك الصورة من النفس ذاتها وما اختزنته من تجارب وما أدته من علم وخيال. وفي كلتا الحالتين هناك صورة تختمر من نفس الأديب تظهر في عبارة لتنقل إلى القارئ، وكلما كان تأثر الأديب بالصورة عظيما، وتعبيره عنها قوياُ، كان تأثيرها في القارئ لا يقل عن أثرها في نفس مبدعها.
وما دام الأدب لا بد أن يمر على النفس الإنسانية ويصدر عنها، فمظاهر هذه النفس تحدد لنا الغاية من الأدب والمهمة التي يضطلع بها في الحياة.
نعلم أن للنفس الإنسانية ثلاثة مظاهر: تفكير ووجدان وإرادة. فالتفكير يبحث عما في الحياة والكون من حقائق، ويتفهم ما في هذا العالم تفهماً صحيحاً عارياً عن اللبس والغموض، فغاية هذا المظهر الحق.
والوجدان يتأثر بالجمال والجلال والقوة، والألم والأمل، وينفعل بكل ما يثير العاطفة ويغذيها ويرهفها، فغايته الاهتداء لمواطن الروعة والجمال، سيان في ذلك ما يوجد في الكون والطبيعة، وما يرى في الحياة الإنسانية من تصرفات ومآسٍ وخلق، فما كان منه منسجما رائعاً شع في النفس الأديب الإعجاب والارتياح، وما كان منه متنافراً رديئاً أثار في نفسه الألم والاشمئزاز
والإرادة تصبو إلى تنفيذ ما يرجوه الإنسان وما يرغب فيه، وما يراه أنه خير له، وأن في تحقيقه سعادته، والإنسان دوماً حريص على أن يحقق عظائم الأمور، ويتوق إلى الكمال؛ ولهذا كان مظهر الإرادة في نفس الإنسان السليم هو الخير
فالنفس الإنسانية بمظاهرها الثلاثة تجرى وراء الحق والجمال والخير، وما دام الأدب صورة لنفس إنسانية ممتازة بالإلهام والقدرة على التعبير فلابد أن يحقق واحداً من هذه الثلاثة
وإذا كان هناك أدب لا هذه الأمور أو يفصح عنها فهو أدب نفس مريضة شاذ يهيم بالضلال والدمامة والشر، وهو أدب يترضى النزعات الحقيرة في الإنسان، وينادي الأجزاء الدنيا من النفس الإنسانية لتستجيب له، ويعمل على شل سيطرة العقل أو إضعاف سلطانه على بقية أجزاء النفس من قوى شهوانية وغضبية، وفي هذا ما فيه من شر مبين على نفس الفرد وانسجام المجتمع.
ثم إن نفس القارئ تهتز وتطرب وتأذن بيسر وسهولة لمن يحدثها عن الحق والجمال والخير إلا النفوس الوضيعة الملتاثة. ولا ريب أن الموضوعات النفسية تختلف أنواعها في نظر الإنسان بين الجميل والقبيح والجليل والحقير والشريف والوضيع، وهي تهتز وتعجب بمن يصور لها الجمال والمجد والشرف، وتصغي لهذه الحقائق في نهم وشوق لأنه يسمو بها ويحلق في أجواء المثل العليا التي تطمح في الوصول إليها، وبنيه فيها مشاعر الجمال والجلال. قد يجيد بعض من يتحدثون عن الأشياء التافهة الحقيرة؛ بيد أن جودة فهم قد تغبن في تفاهة الموضوع. والأدب لا ينظر فيه إلى الإجادة فحسب، ولكن يراد مع هذا الموضوع الذي ينفث في النفس الإنسانية من قوته وسحره وروعته. فيشد من عزيمتها وينمي مشاعر الخير والجمال منها، وبهذا يؤدي الأدب رسالته السامية، وفي هذا يتفاوت الأدباء في ميدان الخلود والشهرة، وكلما حققوا في كتبهم وجعلوا غايتهم تلك المثل الرفيعة، كان حظهم من المجد والعبقرية أوفى
أما هؤلاء الذين يتشدقون بأنه ليس من شأن الأديب أن يكون واعظاً أو مرشداً وإلا ثقل على النفس وسمج فأقول: إن هناك طرقاً شتى للتأثير في نفس القارئ وتحقيق الغاية من الأدب، فالإيحاء والتعريض، والصورة والرمز وضرب المثل، وإبراز المآسي، والتهكم والتندر بالأسلوب الطريف الشائق؛ كل هذه وسائل تعبد أمام الأديب سبيله. أما أن يكون أدبه مجرد عبارة تقال لا غاية لها ولا معنى تفصح عنه، فهو هراء تربأ بأنفسنا وبكم أن نشغل به
وبعد فنحن أمة لا يزال نصيبها من الرقي ضئيلاً، وفينا عيوب خلقية واجتماعية كثيرة، ونحن أحوج إلى من يرينا الحق ويهذب نفوسنا، ويكبح جماح شهواتنا، ويرشدنا إلى طريق السعادة والخير. إن بيتاً من الشعر قد يصلح نفساً ضالة أو يرد النكس الجبان إلى الثبات والشجاعة. ولقد قتل بيت من الشعر أبا الطيب المتنبي حين هاجمه أعداؤه وهو عائد من لدن عضد الدولة، فلما رآهم كثراً وأنه ليس لهم نداً، هم بالفرار فنادوه: ألست القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
ورحم الله معاوية حين قال: (اجعلوا الشعر أكبر همكم، وأكثر دأبكم، فلقد رأيتني ليلة الهدير بصفين، وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض، وأنا أريد الهرب لشدة البلوى فما حملتني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة:
أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمى، بعد، عن عرض صحيح
عمر الدسوقي