الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 555/محمد أحمد جاد المولى

مجلة الرسالة/العدد 555/محمد أحمد جاد المولى

بتاريخ: 21 - 02 - 1944


للدكتور زكي مبارك

في الساعة الثامنة من صباح اليوم حدثني الأستاذ عبد الله الصفتي تليفونياً بنبرات حزينة لم يتحدث بمثلها من قبل وهو يقول: عظم الله أجرك في جاد المولى بك!

فقلت: (لا حول ولا قوة إلا بالله) وكررتها نحو عشر مرات وأنا مأخوذ بصدمة لم تكن تخطر في البال، فقد كان جاد المولى بك في صحة وعافية، وكانت ملامح وجهه تنبئ بأنه لن يموت قبل التسعين أو الثمانين

وأحدق الحزن بقلبي من كل جانب، فقد تصورت ماضيه وماضي في رعاية صداقة غالية كانت مضرب الأمثال، بحيث اعتقد كثير من الناس أنه لم يصادق غيري وأني لم أصادق سواه، فما وقع بيننا ما يوجب الملام في محضر أو مغيب، ولا سمع عني أو سمعت عنه ما يستوجب العتاب

كذلك تصورت، وكذلك توهمت أنني فجعت فيه وحدي، ثم كانت النتيجة أن يتبدد ما تصورت وما توهمت، فقد رأيت جميع من في وزارة المعارف يترحمون عليه، ورأيت فيهم من بكاه بالدمع وهو الدكتور رياض

زلزلت وزارة المعارف لموت هذا الرجل، وعدت فجيعتها فيه من الفواجع الفوادح، وتمثل الجميع ما كان عليه من سجاحة النفس ودماثة الأخلاق

وأدى رجال المعارف واجبهم نحو فقيدهم الغالي فبلغوا نعيه إلى مدارس القاهرة ليشترك جميع المدرسين في تشييع جثمانه إلى المقر الأخير

وأردت أن أشترك في توديعه، ولكني لم أستطع فقد عز علي أن أرى جاد المولي بك محمولاً على نعش، وكان بالأمس ملء العيون والقلوب

لم يبق إلا أن أودع هذا الرجل بكلمة تقرب صورته إلى من جهلوه، وما أكثر من جهلوه، والحكيم يعيش في زمانه عيشة الغرباء

بداية جميلة

كان جاد المولى بك في طليعة إخوانه بدار العلوم، فأوفدته وزارة المعارف إلى إنجلترا في بعثة علمية، وحين عاد أعجب به المغفور له حسن باشا عبد الرزاق فاقترح على عظمة السلطان حسين كامل منحه رتبة البكوية، وكانت تلك الرتبة لا تمنح للشبان، فكان أول من نالها بفضل تفوقه وهو في عنفوان الشباب.

ثم رأى أن يتعرف إلى الجمهور فألقى محاضرتين علنيتين عن الغزالي وابن خلدون، فكان غاية في الفهم لابتكارات هذين الفيلسوفين العظيمين

وفي سنة 1924 أرسلت إدارة الجامعة المصرية خطاباً إلى وزارة المعارف تدعوها فيه إلى تكليف أحد رجالها الاشتراك في لجنة امتحان الدكتوراه في الفلسفة بجانب الأستاذ عبده بك خير الدين، وكان وكيل المعارف حينذاك عاطف باشا بركات، فاختار جاد المولى بك، ولهذا الاختيار قيمة نفيسة، فقد كان عاطف باشا من أعرف الناس بأقدار الرجال

كنت أنا الطالب الذي يؤدي امتحان الدكتوراه في الفلسفة وكنت أنا الذي جهل أن وزارة المعارف رمتني منه بداهية، فقد وجه إلى أسئلة أثارت الجمهور وحملت الشيخ عبد المجيد اللبان والشيخ محمد الأبياري على أن يغضبا غضبة إسلامية، ولولا تلطف الدكتور منصور بك فهمي لانقلب ميدان الامتحان إلى قتال

كان من رأي جاد المولى بك حين خلت اللجنة للمداولة أنها غير مسئولة عن آرائي في كتاب الأخلاق عند الغزالي، ولكن الدكتور منصور بك فهمي أقنعه بأن لجنة امتحان الدكتوراه لا تعرف غير شيء واحد هو قدرة الطالب على تأييد آرائه ولو انتهت إلى الضلال!

الذكي المتغابي

كان جاد المولى بك غاية في الذكاء، وكان غاية في التغابي

ما أذكر أن مشكلة غاب عنه فهمها على الوجه الصحيح، ولا أذكر أنه أخطأ الفهم لشأن من الشؤون

كان يثق بي فيحدثني عن آرائه في المجتمع، فأرى له مذاهب من الفكر تغيب عن أكثر الرجال

شهيد الواجب

بلغ جاد المولى بك سن التقاعد قبل شهور، ولكن معالي الهلالي باشا رأى أن يقترح على مجلس الوزراء مد خدمته سنتين، للانتفاع بخبرته التعليمية، فبالغ جاد المولى بك في نشاطه ليؤيد حقه في ثقة ذلك الوزير الجليل

وفي أحد أيام الأسبوع الأخير من شهر أغسطس الماضي كنت بحضرة الهلالي باشا في مكتبه بالإسكندرية، لأحدثه في شؤون تستوجب لقاءه هناك

وفي أثناء الحديث صلصل تليفون المعارف بالقاهرة ليقول الوزير للوكيل ما نصه بالحرف:

(يجب أن تنتهي حركة التنقلات قبل اليوم العاشر من سبتمبر، ليعرف المدرسون إلى أين يتوجهون. . . شغل جاد المولى بك)

وعند رجوعي إلى القاهرة رأيت من الأمانة أن أبلغ جاد المولى بك ما سمعت، فطلب جميع معاونيه من إجازاتهم بالبرقيات لينجز حركة التنقلات بأسرع ما يستطاع

والذي يعرف أن متاعب مدرسي اللغة العربية ليس لها حدود يعرف كيف يعاني من يحاول راحتهم من شديد العناء

ضغط الدم قتل جاد المولى بك، وهو مرض لا يصاول غير شهداء الواجب. . . فعلى روح هذا الشهيد ألف تحية وألف سلام

كانت لهذا الرجل مغاضبات في أعوامه الأخيرة، ولكنه لم يغاضبني في أي يوم. كانت عبارته حين يلقاني: أهلاً بدكتورنا فسلام عليك يا أكرم أستاذ وأشرف صديق

لو أنشأنا مليون مدرسة لما استطعنا أن ننشئ فتى في مثل أدبك وذوقك. ولو أنشأنا مليون قصيدة في الرثاء لعجزنا عن كلمة الصدق فيك، يا أصدق الأوفياء

أكرمك الله وأعزك، وجعلك من أهل الفردوس

رفق ولطف

كان جاد المولى بك رفيقاً جداً بمعاونيه من المفتشين فلا يصدر رأياً إلا بعد الاستئناس بما عندهم من آراء، وكانت صلاته بالمراقبين صلات أخوة صافية، وقد بلغ به التواضع أبعد مبلغ فاتهم بالضعف ظلماً وعدواناً، وجرت القالة بأنه يعجز عن درء الشر إن وجه إليه، وهذه القالة وتلك التهمة مهدومتان من الأساس، فجاد المولى بك لم يكن يحب الخصام ولا القتال، حتى نطالبه بالمقدرة على اللدد والعنف، وإنما كانت فطرته تهدية دائماً إلى إيثار الرفق والمسالمة مع جميع الناس

وما الموجب لأن تكون حياتنا كلها قتالاً في قتال، بحيث لا نتصور الشجاعة إلا بصورة واحدة هي المصاولة والفتك والإيذاء؟

وما الذي يمنع من أن نرى في ضبط النفس شجاعة تفوق كل شجاعة؟

إن المظاهرة بالعداء أخف وأسهل من المجاهرة بالصفاء، لأن العداء العنيف هو البقية مما ورثناه عن عهود الوحشية، ولا كذلك التلطف والترفق، فهما من مظاهر الرقي في الشمائل الإنسانية

والحق أن أخلاق جاد المولى بك كانت فوق ما نطيق، ولهذا كان يحب ناس أن يزيفوها، ليستروا عجزهم عنها، فقد كانت من المعجزات

أين من يصدق أن كبير مفتشي اللغة العربية لم يكن يقدر على توجيه كلمة فيها صورة الأمر للساعي الذي يحفظ ودائع مكتب التفتيش؟

لو كان تلطفه مع الرؤساء ناشئاً عن ضعف لوجب أن يكو أسداً في معاملة الضعفاء

وهذا بحث إن أطلناه طال، والمقام يضيق عن الإطناب

مؤلفات جاد المولى بك

أشهر مؤلفاته كتاب (محمد المثل الكامل) وقد طبع غير مرة، وانتفع به كثير من المسلمين، ثم ترجمه أحد الأفاضل إلى اللغة الفارسية باسم (عظمت محمد)، وبهذا وصل نفعه إلى أبعد آفاق الشرق الإسلامي

ومن خير مؤلفاته (كتاب الأخلاق) وهو كتاب فصل به المذاهب الأخلاقية أجمل تفصيل

ثم ماذا؟

ثم يكون الرد المفحم على ما اتهم به جاد المولى بك، فقد قيل وقيل إنه وضع اسمه على مؤلفات كثيرة بوصف أنه اشترك في التأليف مع أنه لم ينشئ بقلمه فصلاً من فصول تلك المؤلفات

ولهذه التهمة أصل من الصحة، ولكن المتهمين تناسوا جوهر القضية؛ فقد كان الرجل أستاذاً كبيراً، والأستاذ يوجه أكثر مما يؤلف، وبالتوجيه السديد أنشأ جيلاً من المؤلفين النوابغ، وهم تلاميذه الأوفياء، وبإرشاده وبجهودهم زودت المدارس بأطايب المؤلفات الأدبية الدينية. وهذا فضل لا يجحده إلا أهل العقوق

تحية وسلام

أما بعد، فإني أسارع إلى رثاء هذا الرجل الكريم، لأني أخشى أن لا يجد من يرثيه، فما كانت له عصبية دنيوية، ولا كان يحب أن يكون له اسم طنان، ولا كان يعلن معروفه ليقال إنه طوق جيد فلان أو فلان

كانت أعماله لوجه الله ولوجه الوطن في صمت وسكون

لم أستطع المشي في جنازتك يا أستاذي وصديقي وزميلي؛ فقد هدني الحزن الذي رأيته على وجوه رجال المعارف يوم موتك، وهو حزن صادق من رجال صادقين

أفي الحق أني لن أراك بعد اليوم؟

أفي الحق أن إخوانك بوزارة المعارف لن يجدوك إن افتقدوك؟

عندي خبر أبلغه إليك، وهو أننا تلقينا اليوم خطاباً باسمك أرسلته الرابطة العربية تدعوك فيه إلى موافاتنا بعيادة الدكتور محجوب ثابت لتنظيم الاحتفال بتأبين الأستاذ محمود بك بسيوني، رحمه الله ورحمك

فما رأيك في أسبوع أفقد فيه صديقين كريمين؟

أتكون الدنيا غادرة إلى هذا الحد المزعج؟

ما أسعد الذين شيعوه وشيعوك إلى مثواه ومثواك

عند الله أحتسب فجيعتي في صديقين قد لا يجود بمثلهما الزمان، ومن الله أستمد العواء، فليس من العدل أن أشقى لفراق صديقين يشغلان عني بما أعد الله من النعيم لأهل الصدق والوفاء.

زكي مبارك