الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 544/مصر والشام

مجلة الرسالة/العدد 544/مصر والشام

بتاريخ: 06 - 12 - 1943


للسيدة وداد سكاكيني

كنا إذا ولينا الوجوه شطر مصر كالعيس في البيداء، تتلهف ظمأ الماء وهو على ظهورها محمول. فيا عجبا لذاك الحنين الذي كان يطفو على جنبات نفوسنا كموج البحر وهو يمور ويفور، ثم لا يكاد موجه أن يندفع على الصخور حتى يحور يغور، فهو هباء منثور. كذلك كنا إذا هزنا الشوق إلى مصر هفونا إليها من ربوع غسان ودارات أمية، فكانت رياح الحنين غادية غير رائحة، ومقيمة غير مبارحة. ولقد مرت بالشام عهود وأحداث كانت من خلالها بمعزل عن غيرها، لا يبلغ مصر من هذه الديار إلا التجار ونزر من الأخبار ويتلقاها النسيب من النسيب، حتى تصرمت تلك القطائع وتواصلت بعدها أواصر ووشائج، كان وثاقها يشتد على ترادف الأيام؛ ولكن لم تبلغ مداها ولا أدركت مناها، فحنين العرب إلى مصر عريق في الدهر، ظهرت بوادره منذ تطامنت لوادي النيل مقاليد الحكم والسيادة من عهد الخصيب أميرها، وكافور الأخشيدي مليكها، فقد أتاها النواسي زائراً ومدح أميرها بقصيدته التي مطلعها:

أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر

ثم ورد عليها أبو الطيب المتنبي منتجعاً وشاعراً فكان لها في نفسه أثر ما زال أروع طوابع شعره. كأنما أراد الله لمصر بعد أن هوى تاج العز عن رؤوس العباسيين أن يتألق على رأسها فكان لها من المجد والعلم ما كان لعواصم الغرب التي أفادت من علماء الروم بعد طغيان الحرب على بلادهم فكانوا حيثما توجهوا وأينما حلوا ينابيع معرفة وثقافة، فما أديلت العباسية وطوائف الملوك حتى كانت مصر مورداً عذباً لجماعة من العلماء والكبراء، ومثابة لطائفة من المؤرخين والفقهاء، وكأنها قبلة علمية توجهت إليها الأنظار والأفكار، وذلك قبل عهد الانحطاط الشامل الأخير. ولما امتدت يد الظلمة والخمول إلى أرجاء الشرق كانت مصر في البلاد الهاجعة فانطفأت تلك الشعلة الباقية من مصابيح العرب الأوائل، حتى كان البعث الحديث زمن الغزوة النابوليونية ثم أيام النهضة المباركة التي خلق فيها مصر من جديد محمد علي باشا الكبير

وفتح العالم العربي في عينيه بعد سبات عميق، وتلفت المستيقظون صوب البلاد الآمنة الخيرة، فلم يجدوا غير مصر مراحاً لأرواحهم وعبقرياتهم، وصورة لأمجادهم وذكرياتهم، فتوافدوا عليها شقين طامحين، وأكرمت هي وفادتهم ومودتهم، وقد عقدت بينهما وبينهم وشائج القربى والتاريخ وروابط اللغة والدين. وسبق اللبنانيون إليها مهاجرين فسكنوا وادي النيل وكأنهم بين أهل وعشيرة، فاستهوتهم بحفاوتها وخيراتها، وساهموا في نهضتها المعاصرة مساهمة لمعت آثارها في المرافق التجارية والحياة الأدبية، ومازالت مجاني ثقافتهم وصحافتهم دانية القطوف في المقتطف والهلال والمقطم والأهرام. على أن هؤلاء المستوطنين ما لبثوا أن تركوا طوابعهم السورية واللبنانية ما وراء العقبة واتسموا بمياسم مصر فتكلموا لهجتها العذبة واقتبسوا من عاداتها وتقاليدها، واكتسبوا من (جنسيتها) فشاركوا أهلها في التبعات والواجبات وصار لهم حق مراتب الدولة، وفي مجلسي الشيوخ والنواب

وشاءت الأحداث منذ الحرب الغابرة أن تفرق بين الإخوان والجيران في التخوم والإقليم، أما وحدة الشعور واللغة وعلائق المودة والهموم، فكانت تزيدها الأيام والآلام حدة وقرباً، وما ألمت بمصر حادثة أو دهمت بلاد الشام كارثة حتى كانت صيحات المواساة والمؤتمرات تعلن تبادل الولاء والوفاء بين القطرين المجاورين. وللشام كما قلت هوى بمصر عريق، ولكنه كان كميناً دفيناً فلم يجد له بثاً وبعثاً غير الأدب والثقافة، فكانت المنابر والأقلام مظاهر ذلك الشعور والإخاء، وأكب العرب في جميع أقطارهم على أدب المصريين وصحافتهم. بيد أن الشاميين كانوا أشد تعلقاً بأدباء الكنانة وشعراء النيل. ولا بدع إن اتجهت أنظارهم صوب مصر الشقيقة الكبرى وأعجبوا بآثار أدبائها وشعرائها ومآثر العروبة والإسلام فيها، فقد كان هذا القطر العزيز سباقاً إلى نشر الثقافة والمعرفة بما توافر لديه من أعلام الفكر والصحافة، وبما تكاثر فيه من دور التربية والتعليم ومعاهد اللغة والدين، فما يكاد يصدر عن مصر كتاب لأحد أدبائها حتى يتهافت كل مثقف في هذه الديار على قراءة هذا الكتاب واقتنائه، بل ما أحسب أن دار علم عندنا أو معهد فن أو مكتبة أديب أو متعلم تخلو من مؤلفات المصريين في ألوان الثقافة والأدب، وما تظهر مجلة مصرية أو جريدة حتى نتلقاها بشوق وترحاب، وقد عجب لهذا طابعو الكتب وبائعوها فعلموا أن جل هذه الأسفار والصحف تقرأ وتروج في بلاد الشام وسائر الأقطار العربية أكثر مما تروج وتنتشر في بلاد المؤلفين المصريين والصحافيين، وإن جمهرة العرب في هذا الشرق الأدنى يحلون علماء مصر وأدباءها وأهل الفن فيها من أنفسهم محلاً رفيعاً ما يكون له من المصريين أنفسهم، بل إننا لا نمن على إخواننا وجيراننا إذا كنا لا نغادر صغيرة ولا كبيرة من شئونهم إلا نحيط بها علماً، لأننا نجد في شعورهم وتفكيرهم صدى لشعورنا وتفكيرنا، وكما أن الشاميين عبروا بحفاوتهم وأقلامهم عن إعجابهم بالأدب والطرب يطرفانهم من نحو مصر، فإن شعراء النيل ما زالوا يرسلون قصيدهم في تحية الشام وبعث ذخائرها وأمجادها. ولقد زار دمشق في ماضيها القريب أمير الشعراء أحمد شوقي فملأ عينيه وروحه بمفاتنها ومباهجها، ورأى بتحديقة واحدة دنيا أمية راقدة تحت الثرى منبثة في هذه الربوع فبعثها في شعره الملهم إلى دنيا الحياة، ونظم فيها قصيدته الفريدة التي ناجى بها جلق وتغنى بماضيها الأغر المحجل، وفيها خلع على الشام أوصافاً لا تمحوها يد الحدثان. فيا لأمية في هاماتها وربواتها، في نيربيها وغوطتها! ويا لعظمة بردى مسلولاً كسيف من فضة يوزع الخصب والبركة، ويبدع الحدائق والظلال!

لقد كانت الشام مطوية المحاسن والمفاتن، كامنة الحنين إلى الأمجاد وعز الأجداد، حتى هاجها شوقي من مكامنها ورصع بها شعره الخالد، فهب الشاميون على شعر شوقي وترنموا به ورجعوه في مغانيهم، وفي مجالسهم ومدارسهم، واهتاجت مشاعرهم شوقاً إلى ضفاف النيل وحمى الأزهر وحصن الإسلام. وما اكتفى شوقي بشعره في وصف دمشق ومجاليها، بل سكب من قريحته بلسماً لجراحاتها فرثى من أجلها وبكى، وخلد ميسلونها؛ وحين تهدم بنيانها ناح شوقي على منازل العز وهي بأيدي البلى من أحياء دمشق

وما كان حافظ إبراهيم ضناناً بقريضه في مناقب الشام ومحامد أهليها وأنهم خير من رعى الجوار والإخاء. وقد أنشدهم بلهجته الساحرة قصيدته التي حيا بها من بالشام، حياه وتمنى أن تجري المودة طلقاً في أعراق الشرق كجريه الماء في الأفنان؛ وحدث سامعيه عن وجد النيل ببردى، وأهدى إليه أشواق ولهان وتحنان

ومن قبل هذه التحية الطيبة قال حافظ:

لمصر أم لربوع الشام تنتسب ... هنا العلى وهناك المجد والحسب

وقال: إذا ألمت بوادي النيل نازلة ... باتت لها راسيات الشام تضطرب

ولكن الأدب في هذه البلاد ما زال عاتباً على غفلة المصريين عن أهله، ولطالما تواترت الملامة من أدبائنا لتفاضي مصر عن أدبهم وتصانيفهم حتى عدوا ذلك منها إغفالاً وإهمالاً. وقد اعترف بهذا التفريط أعلام الثقافة والأدب في وادي النيل، فكتب الدكتور عبد الوهاب عزام: (وليس الأمر بيننا تشابك أقوام واتصال أوطان فحسب، ولكنه الحب المؤكد والود الصريح ينطق عن السنة القوم ويتجلى في أساريرهم ويبين في أعمالهم ويشهد به اهتمام القوم بكل صغير وكبير في مصر وتحدثهم عن علمائها وأدبائها وأحزابها وقادتها حديث المحب العارف الخبير، وحرصهم على قراءة ما تخرجه مصر من كتب ومجلات وجرائد، وكثيراً ما نرى في الشام والعراق من يعلم عن مصر أكثر من أبنائها. (ثم على مصر ألا تتردد في الاستفادة بما في هذه البلاد من مزايا؛ فلا ريب أن فيها من الآداب والأخلاق والصناعات ما يجب علينا أن نتلقاه عنها ونحتذيها فيه)، وقال الدكتور طه حسين في حديث له عن الشرق العربي نشرته صحف كثيرة منذ بضعة أعوام وأشارت إليه (فنحن مثلاً نزعم لأنفسنا ويتفضل إخواننا الشرقيون فيزعمون لنا إننا قادة الرأي في الشرق العربي وزعماء النهضة الأدبية في العصر الحديث، ونحن نتأثر بهذا الغرور ونرى لأنفسنا حقوقاً ولا نكاد نشعر بما علينا من واجبات، نرى أن على الشرقيين أن يقرئونا وأن يتأثرونا ولا نكاد نشعر بأن علينا أن نقرأهم دائماً وأن نتأثرهم أحياناً)

على أن الحكومة المصرية الجليلة شعرت بهذا الغفول عن أدب الإخوان والجيران فأعدت العدة لتوحيد الثقافة في جميع البلاد العربية، وقررت تبادل المؤلفات والمعلمين والمعلمات بين الأقطار الشقيقة والمجاورة. أما أمنية الأدب الغالية في ربوع الشام فلم تحقق، وما يزال أدباء مصر يجهلون أدباءنا وآثارهم، ولا تكاد تجد في إحدى المكتبات المصرية كتاباً لأديب سوري أو لبناني في غير بلادهم وشاءت الأقدار في هذه الأيام أن تؤلف الهموم والخطوب بين الأقطار العربية فتسعى بالتعاون والتضامن إلى خير الإنسانية ونصرة الديمقراطية، وتطلعت مصر إلى أخواتها بمحبة وبهجة تستجلي الأماني والآمال، ومدت يدها تصافح الإخوان أو الجيران، فوجدت أن الأحداث لم تنل منالاً من أهل هذه البلاد وهم المؤمنون بعطف مصر ومساعيها النبيلة لنهضة العرب وبسط حضارتهم ونشر ثقافتهم؛ فهل يقيض لأدب الشام أن يرى مصر مراعية لأمره ساعية إلى تحقيق التبادل في المؤلفات وفي الآراء التي تؤول إلى ازدهار الحياة الأدبية عندهم وعندنا؛ وإن علماء الاجتماع ليعلموا أن كل نهضة لا تقوم على الأدب مكتوب لها الخيبة والإخفاق. أما وقد لمسنا في المصريين الكرام مظاهر التعاون الثقافي في المعاهد العلمية والدينية في بعض البلاد العربية؛ فإن الأمل وطيد بأن نرى في القريب بشائر التضامن الأدبي في هذه الأقطار التي ترتقب عهداً جديداً أغر يصل طريفها بتليدها، ويحيى في مرافقها وآفاقها تراث الأجداد والأمجاد.

(دمشق)

وداد سكاكيني