مجلة الرسالة/العدد 544/في التيه!
→ الضريبة الأدبية على الأدباء النابهين | مجلة الرسالة - العدد 544 في التيه! [[مؤلف:|]] |
مصر والشام ← |
بتاريخ: 06 - 12 - 1943 |
للأستاذ سيد قطب
شيطان الحقيقية
لا تقرب. لا تقرب. إنها هكذا جميلة!
ماذا تريد! أبتغي أن تحقق فيها، وأن تمتحن صدق النظرة البعيدة؟
كلا. كلا! إنني لأشفق أن تبديها النظرة القريبة شوهاء، أو أن تظهر بها بعض الندوب والخدوش!
هي جميلة هكذا ونحن من بعيد؛ فماذا نبغي غير أن نراها جميلة؟
الحقيقة؟! ويحك! ومن أدراك أنها تبدو دائماً على مقربة؟ ولم تكون الحقيقة هي التي نراها على هذا البعد البعيد؟ وهبها ليست كذلك، فماذا يضيرنا؟ ولماذا نصر على رؤيتها عن كثب إذا كانت من بعيد تبدو لنا جميلة؟
إن قصارى ما تستطيع الحياة أن تهبنا إياه أن تبدي لنا الأشياء جميلة. فلماذا نصر نحن على نبذ هذه النعمة بحجة البحث عن الحقيقة؟
ألا ويح هؤلاء الفانين في العالم الأرضي المحدود! إن الشيطان قد نفس عليهم نعمة الوهم التي منحتنها إياهم السماء، فجعل يوسوس لهم باسم الحقيقة، ليخرجهم من هذا النعيم، وهم يحسبون أنفسهم الرابحين!
جمال الظلال
هذا المخلوق الشائه القبيح. هأنذا أرى ظله جد جميل! إنه يقفز في رشاقة ويتراءى في رواء. إنه يتثنى ذات اليمين وذات الشمال كتمثال حي من تماثيل الجمال. إن هذا الظل ليبدو طليقاً من قيود التقاسيم والألوان
ألهذه الطلاقة يا ترى هو جميل؟
وهذه الشجرة الباسقة النامية، إنها جميلة ولا شك، ولكن ظلها أجمل! إن حركاته أرشق، وخطراته أشف، إنه يتمايل هكذا وهكذا في شبه حرية لا تتمنع بها الشجرة
ألهذه الحرية يا ترى هو جميل؟ ما الجمال؟ إنه الحرية، إنه الطلاقة. إنه الانطلاق من الأوضاع والأشكال والتقاسيم والحدود
ألهذا يبدو الخلود جميلاً لأنه غير محدود. لأنه الظل الطليق لهذه الحياة المقيدة؟ ألهذا يخلق الناس الآلهة؛ ألهذا يركنون إلى الإيمان؟
من يدري؛ فربما كان خلق الناس للآلهة وركونهم للإيمان فما نفسهما الصلة الحقيقية بين الإنسان الفاني المحدود، والإله الباقي غير المحدود
الإله الطليق
أيها النور، أأنت طليق؟ أأنت تفيض حيثما تشاء، وتنطلق كيف ما تريد؟ أأنت تغمر الكون في سعة وفيض لا يخشى عليهما النفاذ، ولا تحد من طاقتهما الحدود؟
لقد كنت أحسبك كذلك، وكنت سعيداً بأن أحسبك كذلك، إلى أن قرأت وعرفت! عرفت أنك خاضع - ككل مظاهر الطبيعة - للقانون، عرفت أنك مقيد بالناموس
وا أسفاه! إنك أيها النور كائن محدود!
وا أسفاه! لقد تقصيت مظاهر هذا الكون، وحصرت أملي فيك - أيها النور، لأنك أنت الوحيد من بينهما الذي كنت تخيل إلي أنك طليق!
ثم ماذا؟ ثم هاأنت ذا غير طليق!
وا لهفتاه! أليس هنالك غير المحدود؟ ما أحوج القلب البشري إلى هذا اللانهائي. إنه يفقد أعز عقائده وأجمل أمانيه حين يفقده
ماذا؟ أليس هنالك عزاء؟
بلى، هنالك عزاء وحيد. هنالك الإله. الإله الذي لا أول لوجوده، ولا آخر لامتداده. الإله الطليق من جميع القيود
أبهذا الإله العظيم
إنني أحبك! أحبك لأنك (غير المحدود) الوحيد في هذا الوجود. أحبك لأنك لأمل الوحيد للقلب الإنساني حين يضيق بالحدود!
قيود الملك متى تستطيع الكائنات أن تكون شيئاً آخر غير (المالك) و (المملوك)؟
إن (الملك) قيد من قيود الفناء يتنزه عنه الخلود. إن المالك ليس أقل تقيداً بما يملك من المملوك المقيد بمن يملك، وإن نسبة الترابط بينهما لهي واحدة أو تكاد
إن الطبيعة حين ولدت أبنائها جميعاً، تسربت فيهم جميعاً فهم أجزاء متكاملة، كل جزء منهم يحمل جزءاً من الفكرة التي خلقوا ليعبروا عنها. إنهم متكاملون أو متداخلون، ولكنهم ليسوا مالكين ومملوكين!
كم بت أكره الملك المتحيز حتى في الحب. لا أريد أن تكون هذه (لي) أو تلك. أريد أن أكون عابداً. أن أنظر من بعيد إلى الهالات الإلهية المرتسمة حولها دون أن أمد يدي إلى شيء منها. أريد أن تغمرني غبطة شاملة. أريد أن أحس بالكمال الذي لا يحتاج، وبالرضى الذي لا يطلب، وبالإشراق الذي لا شعائر فيه!
تطهير الصنم
قال لي صاحبي - وقد رآني أدافع عنها بحرارة ضد نفسي وأدفع عنها كل ما قد رميتها به من قبل -: ويحك! أهي نكسة إليها بعد كل ما كان، وهل نويت الرجوع؟
قلت: كلا! لم أنو شيئاً، والرجوع - بعد - مستحيل. إنما أريد تطهير الصنم، كيما أتوجه إليه بالعبادة؟ فما أنا بمستطيع أن أعبده - وهو ملوث - وما أنا بقادر على البقاء بلا عبادة!
أنها يا صاحبي لم تخسر شيئاً بهذه الشكوك التي أحطتها بها، والتي حسرت عنها هالاتها المقدسة في نفسي؛ إنما أنا الذي خسرت: خسرت الإيمان وخسرت المعبود، وخسرت القبلة التي أتوجه إليها
أو تحسب يا صاحبي أن الآلهة يفيدون شيئاً من عبادة المؤمنين، أو يخسرون شيئاً من تولي الكافرين؟ كلا يا صاحبي إنما يكسب ويخسر أولئك الفانون الذين فطروا وفي قرارة نفوسهم ميل إلى الإيمان، وهو غذاء أرواحهم المعذبة، ومستقر قلوبهم الحائرة.
والرسل والأنبياء يا صاحبي! أتحسب أنهم ينشئون الإيمان في هذه القلوب إنشاء؟ كلا! إنما يحاولون فقط أن يردوا إليها الثقة والحرارة حين تخبو حرارتها ويتطرق الشك إليها، فيما كانت تعبد من قوة في السماء.
آه يا صاحبي! لو أستطيع أن أغمض عيني مرة أخرى فلا ترى! ولكنها جناية المعرفة. جناية الوعي المتيقظ، جناية هذا العقل الإنساني الذي يسلبنا سعادة الإيمان، ثم لا يعوضنا إلى شقوة الشكوك.
لست ابغي الرجوع أيها الصديق؛ إنما أبغي قداسة الصنم المعبود. فهل فهمتني الآن؟ استغفر الإيمان. أعني هل أحسست ما يختلج في نفسي من أحاسيس؟
الانسياب
أتدري فيم أكتب إليك؟ إنه أمر غريب حقاً! إنني في حاجة إلى من يرد على إيماني بشعر (الحالات النفسية). إنني لفي شك مؤلم في هذا النوع من الشعر الذي أصبحت أراه محدود الآفاق.
أنني لا ألجأ إلى هذا الشك راضياً ولا مختارا. لقد أحببت (شعر الحالات النفسية) وآمنت به فترة طويلة؛ ولقد كان عندي لونا من ألوان المثل الأعلى للشعر الجديد.
فما عساي يا صاحبي أريد؟
أريد الانطلاق. أريد الانسياب في الطبيعة كأنني ذرة منها لا تحس لها كيانا مستقلا. أريد ألا أحس بالقصد والغاية، ولا بالحالات الواقعية المحدودة. إنني أكره (الوعي) لأنه نوع من الحدود!
أريد الهالات التي لا حد فيها بين الأضواء والظلال. أنكر شعري وشعر الكثيرين، لأنني لا أجد فيه ما أريد. وأخشى ألا يكون بين شعراء العالم من يلبي هذه الرغبة العميقة. من ينساب في إحساسه وفي تعبيره بلا حدود. أخشى أن تكون الموجة التي تغمرني ليست سوى شعور غامض غير قابل للتعبير عنه في لغة البشر المحدودة. إنها إذن تكون كارثة. ألا يوهب البشر نعمة التعبير عن هذا الشعور؟
(حلوان)
سيد قطب