الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 542/مسابقة الأدب العربي

مجلة الرسالة/العدد 542/مسابقة الأدب العربي

بتاريخ: 22 - 11 - 1943


القيادة الفكرية بين الفلاسفة والأنبياء

للدكتور زكي مبارك

تاريخ لطيف!

في السبت الأول من نوفمبر سنة 1919 وقف ثروت باشا رحمه الله بقاعة المحاضرات في الجامعة المصرية وألقى كلمة طيبة قدم بها الدكتور طه حسين إلى الجمهور، وقد قال في تلك الكلمة إنه يود لو كان سعد باشا حاضراً ليقدم الدكتور طه على نحو ما صنع في العام الماضي وهو يقدم الدكتور أحمد ضيف (وكان سعد باشا يوم ذاك منفيا بأمر السلطة العسكرية)

ثم وقف الدكتور طه ليلقي محاضرته الأولى فشكر أعضاء مجلس الجامعة، ومن كان منهم في مصر ومن كان منهم خلف البحر (وهو بهذا يشير إلى سعد باشا زغلول ومحمد باشا محمود) واندفع بعد ذلك في محاضرته فحدثنا أنه عزم على إحياء التراث اليوناني، لأنه يؤمن إيماناً جازماً بأن مرجع الفكر في الشرق والغرب إلى القدماء من مفكري اليونان

وما كاد الدكتور طه يفرغ من محاضرته حتى نهض أحد طلبة الجامعة واسمه زكي مبارك فرد على الدكتور طه ردا خطابيا أثار إعجاب الجمهور، فوقف الدكتور طه ورد على الطالب ردا ظفر بشيء من القبول

وبدا للأستاذ محمود عزمي أن يؤرخ وقع المحاضرة الأولى للدكتور طه بكلمة ضافية في جريدة الاستقلال، ولم يفته أن يوجه عبارة نابية إلى الطالب الذي ثار حين رأى من يقول بأن مرجع الفكر كله إلى مفكري اليونان

وفي المحاضرة التالية رأى الدكتور طه أن يبدأ بكلمة في التعقيب على مقال الأستاذ محمود عزمي، ليبين خطأ الطالب الذي ثار عليه، فنهض زكي مبارك وقال: لا تتعالوا علينا، ففي مقدورنا أن نساجلكم بالحجج والبراهين

وفي تلك اللحظة مال إسماعيل بك رأفت على أذن الدكتور طه فأسر إليه كلمات، فأنصرف الدكتور طه عن التعقيب، ومضى في المحاضرة الأساسية و (ليس) في نفسه أشياء بين تاريخ وتاريخ

هل تغير الرأي عندي في هذه القضية بين نوفمبر سنة 1919 ونوفمبر سنة 1943؟

وهل تغير الرأي عند الدكتور طه فيما بين هذا التاريخ وذاك التاريخ؟

لم يتغير رأيي ولا رأيه، وأنا موقن بأني على هدى وإن لم يكن الدكتور طه في ضلال

ولكن ما الموجب لإثارة هذه المشكلة وقد تقادم عليها العهد؟

والموجب هو إصرار الدكتور طه على القول بأن مرجع الفكر في الشرق والغرب إلى القدماء من مفكري اليونان، وحرصه على إثبات هذا القول في الكتاب المقرر لمسابقة الأدب العربي، وكان قبل ذلك مقرراً للمطالعة في المدارس الثانوية، ونحن لا ندع أبنائنا يقرءون كلاماً يساق بلا بينة ولا يقين

يضاف إلى هذا أن الدكتور طه عقد فصلاً خاصاً بهذه القضية عنوانه (بين الشرق والغرب)، وقد أراد بهذا الفصل أن يجعل القيمة العقلية من حظ الغرب، وأن يجعل البوارق الخيالية من حظ الشرق، وانتهى إلى النص على أن الغرب وطن الفلاسفة وأن الشرق وطن الأنبياء

فماذا يريد الدكتور طه بهذا القول؟ وما حظه في أن يقرر أن العقل الشرقي انهزم أمام العقل اليوناني مرات في التاريخ القديم وأنه ألقى السلاح في التاريخ الحديث؟ وما الغرض من الإصرار على أن العقل الشرقي يذهب في فهم الطبيعة وتفسيرها مذهباً دينياً قانعاً، بدليل أنه خضع للكهان في عصوره الأولى وخضع للديانات السماوية في عصوره الراقية؟

لابد من نقض هذه الآراء قبل أن يفتن بها التلاميذ، لأنها صادرة من رجل ممتاز من الوجهة الأدبية، أو لأنها مسجلة في كتاب رقم عليه اسم وزارة المعارف العمومية

وما الذي يمنع من تبصير الدكتور طه بالصواب؟

هل نجا من شوق التعرف إلى الحق؟

وهل هان الشرق على أهله حتى نسكت عمن يرمون بالعقم والإمحال في الميادين العقلية؟

على الدكتور طه أن يسمع، وله أن يجيب إن كان يملك الجواب

نماذج من الأخطاء وقبل أن نواجه المشكلة الأساسية، نذكر نماذج من أخطاء الدكتور طه في تصوير الحياة العقلية

فمن أخطائه أن يتوهم أن أخذ اليونانيين عن الشرقيين نظام النقد ونظام المقاييس ليس إلا عملية مادية. ومن أخطائه أن يهون من فنون الحساب والهندسة فيجعلها فنوناً عملية لا عقلية. ومن أخطائه أن يقول بأن سيادة النظام الملكي في الحكومات الشرقية دليل على أنها لم تنضج من الوجهة السياسية

وهذه الأخطاء في الفكر لا تحتاج إلى شرح، فمن الواضح جداً أن نظام النقد كنظام المقاييس وثيق الصلة بالحياة العقلية. ومن الواضح جداً أن فنون الهندسة والحساب ليست فنوناً عملية إلا عند التطبيق، ولكنها في ذاتها فنون عقلية. ومن أوضح الواضحات أن نظام الحكومة وسيلة، لا غاية، فإن نجح النظام الملكي فلا بأس، وليس من الحتم أن تكون القلقلات الحكومية في التاريخ القديم دليلاً على أن اليونان كانوا أرقى الناس في الحياة السياسية

والخطأ الأعظم هو أن يقف الدكتور طه موقف المقرر المتحكم في قضية واهية الأساس، فما كان اليونان كما أراد لهم أن يكونوا، ولا كان هو نفسه بموقن أنه يملك توجيه مؤرخي الفلسفة من المحدثين، كما حاول أن يقول

فلاسفة وأنبياء

حجة الدكتور طه على قوة الغرب أنه وطن الفلاسفة، وحجته على ضعف الشرق أنه وطن الأنبياء، فما قيمة هذا الكلام إذا أقيمت له الموازين؟

لا يمكن فهم هذه المسالة فهماً علمياً إلا إذا غضضنا النظر عن الناحية الدينية، وجعلنا الأنبياء والفلاسفة رجالاً كسائر الرجال، وهم كذلك بالفعل، فقد صرح القرآن بأن الوحي هو الذي يميز الأنبياء عن الناس، فما كان الأنبياء ملائكة ولا آلهة، وإنما هم ناس

يجب أولاً أن نعرف من هو الفيلسوف؟

الفيلسوف هو محب الحكمة، هو رجل يريد أن يسمو بنفسه عن الجهل، ويهمه أن يتحرر من تقاليد الأغبياء، ولكنه في اكثر أحواله يؤثر السلامة، وقد يركن إلى الخمول، ومعنى هذا أن الفلاسفة لم تكن لهم فاعلية، بدليل أنهم عاشوا في عزلة عن المجتمع، ولم يفكروا في إقامة حكومة تحقق آمالهم في شرف الوجود

وسقراط أبو الفلاسفة لم يسلم عقله من الخضوع لمعبد أبو للون، وكان حاله عند الحكم عليه غاية في سوء المصير، فقد ظهر أنه لم يستطع خلق عصبية تحميه من القتل، ولم يكن تلاميذه وحواريوه إلا أنصاراً لا يجيدون غير البكاء

وكان هذا عيباً فظيعاً، لأن سقراط نشأ في عهود الفروسية، فلو كان فيلسوف متسقاً مع زمانه لجعل تلاميذه من الفرسان، في زمان لا ينتصر فيه غير الفرسان

أقول هذا وأنا أعرف أن استسلام سقراط للموت خلق صوراً شعرية قليلة الأمثال؛ فقد أوحى إلى أفلاطون ما أوحى، ثم كانت ترجمة فيكتور كوزان لأفلاطون موحية إلى الشاعر لامرتين بقصيد هو غاية في الروعة الجمال

الفلاسفة أصحاب فضل من جهة الفهم لا من جهة الفاعلية وبهذا ظلوا متخلفين عن قافلة الوجود

أنبياء ومرسلون

هنالك فرق بين النبي والرسول، والظاهر أن النبي رجل كامل من الوجهة الذاتية، بغض النظر عن المسئولية الاجتماعية، فبين وبين الفيلسوف الصادق تشابه في السلوك، مع فوارق سنفصلها بعد حين

أما الرسول فرجل مجاهد يرى من واجبه أن يستقتل في هداية المجتمع، وأن يرحب بالموت في سبيل الجهاد

وقد نجح الأنبياء المرسلون في هداية الشرق والغرب، فإليهم يرجع الفضل في إقامة الدعائم للحضارة الإنسانية

وهل من القليل أن يستطيع ثلاثة من الأنبياء المرسلين أن يسيطروا بالفكر والروح والعقل على الكثير من أقطار الشرق والغرب بأضعاف وأضعاف وأضعاف ما يسيطر الفلاسفة الثلاثة سقراط وأفلاطون وأرسططاليس؟

مثال نشأ النبي محمد في بيئة وثنية، فصعب عليه أن يهدي قومه بالمنطق إلى طريق الحق، وكان منافسوه من رهبان النصارى وأحبار اليهود يعيرونه بالعجز عن خلق آية تشهد بأنه رسول

وقد حار النبي محمد في إقناع خصومه بأن الآيات من عند الله، وأنه لا يملك تبديل الأنظمة الوجودية، لأنها من وضع واجب الوجود

وفي يوم من أيام الارتياب مات ابنه إبراهيم، وفي ذلك اليوم كسفت الشمس، فأقبل أعداؤه مبايعين، لأنهم وثقوا بأن الشمس لم تكسف إلا حزناً على موت ابن الرسول

عند ذلك تعرض محمد لمحنة أخلاقية، فهو بين أمرين: الأمر الأول أن يستغل جهل معاصريه فيوافق على أن الشمس كسفت لموت ابنه إبراهيم فيكون من أكابر الأنبياء، والأمر الثاني أن يصدع بكلمة الحق، ولو تعرضت نبوته للضياع

وقف محمد ينادي بأن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وأنهما لا يتأثران بمؤثر، ولو كان من الأنبياء

في تلك اللحظة تناظر أصدقاء محمد عاتبين، فقد ضاعت فرصة لا ينتظرون أن تعود

ولكن محمد لا يبالي غضب أصدقائه إذا خاصموا الصدق

ماذا أريد أن أقول؟

أنا أقول إن محمداً هو القائد الأول في الفكر الإنساني، بهذه اللمحة الواحدة، بغض النظر عما سبقها ولحقها من اللمحات

وإذن يكون القائد الأول للفكر هو محمد لا سقراط ولو غضب الدكتور طه حسين

وما غضب الدكتور طه وما خطره وهو يستوحي جماعة من المؤلفين في تاريخ الفكر عند اليونان؟!

صيال الآراء

أراد الدكتور طه أن يغض من العقلية الشرقية، بحجة أنها خضعت للكهان وللأنبياء. وأنا لا أتزيد عليه، فذاك كلامه، وهو كلام مدون في كتاب طبع مرتين، وتبنته وزارة المعارف بعد مجلة الهلال والظاهر أن الدكتور طه يتوهم أن الكهانة ظاهرة شرقية لا غربية، وذلك توهم طريف، لأن الدكتور طه نفسه يشهد بأن سقراط قد استلهم الكهان، مع أنه في زعم الدكتور طه أول محرر للعقل الإنساني من أغلال الأضاليل

وأقول بعبارة صريحة إن الكهانة لم تصر مهنة مقدسة إلا في عهود الوثنية اليونانية، فقد كانت لها معابد، وكان لمعابدها سدنة وأمناء، وكان المصير لكل معضلة فردية أو قومية رهيناً برأي (الصوت المتنكر) في زوايا الظلام المنشور فوق معابد اليونان

أما كهان الشرق فكان مركزهم في المجتمع أيسر وأخف، لأن الشرق سبق الغرب إلى استيحاء العقل، وهل يستطيع مكابر أن ينكر فضل الشرق في السبق إلى رفع القواعد من الحضارة الإنسانية؟

ثم ماذا؟ ثم يجيء الكلام عن تفرد الشرق بالأنبياء، وهنا تثور المعضلة من جديد، معضلة الموازنة بين الشرق والغرب

وأقول إن النبوات في الشرق دانت الإنسانية بديون يراها الحاضر ويذكرها التاريخ، فالأنبياء الثلاثة موسى وعيسى ومحمد من أرومة عربية، وهم قد شرقوا وغربوا، وملئوا الدنيا ضجيجاً فكرياً وروحياً في أزمان لم تعرف سوى الذي ثاروا من صيال الآراء.

إن الصراع بين الإسلام والنصرانية هو أول وثبة جريئة لإيقاظ العقلية الإنسانية، ولا نستطيع أن نتصور مدنية حقيقية تقوم على الفكر والرأي قبل الصراع الذي ثار بين المسلمين في الشرق والنصارى في الغرب

ومع أن الديانة الموسوية قد هزمت منذ أجيال، فنحن نشهد كيف قاتلت قتال المستميت، وكيف استبقت أنصارها على وجوه التواريخ

الفكر الشرقي هو الذي زود الديانة الموسوية بزاد النضال، وهي لم تهزم إلا بقوة شرفية، فما جلا اليهود عن بلد بعد جلائهم عن الجزيرة العربية

وطغيان هتلر وأعوانه في طرد اليهود من ألمانيا لم يكن إلا نزعة عنصرية، وثورة هتلر وأعوانه على الديانة المسيحية صورة من ثورته على اليهود، لأن المسيح يهودي العرق، وله في بلاد العرب أخوال

ومن المضحك أن نرى النازيين في أوقات كروبهم يفزعون إلى الكنائس، مع أنها معابد شرقية لا غربية

الإسلام يحرر ألمانيا وإنجلترا

كانت دعوة (لوثر) دعوة جريئة في تحرير المسيحية من العبودية الرهبانية، فما مصدر تلك الدعوة التي حررت عقول الإنجليز وعقول الألمان؟

مصدر تلك الدعوة مصدر إسلامي، وأنا أتذكر أن الإسلام ظهر في الشرق!

(لوثر) قوة فكرية عظيمة، ولكنه لم يخطر على بال الدكتور طه وهو يتحدث عن قادة الفكر، لأنه لم يأخذ الفكر عن اليونان، مع أن (لوثر) أثر في الأخلاق الأوربية تأثيراً لا يقاس إليه تأثير سقراط وأفلاطون

وأعجب العجب أن اليونانيين لم يستجيبوا لدعوة (لوثر)، ولم يتركوا المذهب الأورثودكسي

قال هتلر في كتابه إنه لا يعترف بغير قوتين اثنتين: قوة ألمانيا وقوة إنجلترا، ولم يفته غير النص على أن ألمانيا وإنجلترا يتبعان الروح الإسلامي، وهو الروح الذي ينكر أن يكون بيننا وبين الله وسيط، ولو كان من أعاظم الرهبان

الشرق يؤثر في الغرب، ولا يزال يؤثر فيه من الوجهة الروحية والعقلية، فما هذا الذي يقول الدكتور طه حسين

هو ينقل كلاما، وناقل الكفر ليس بكافر، كما قال القدماء

بين الشرق والغرب

تجمع الغرب النصراني لمناضلة الشرق الإسلامي في أعوام الحروب الصليبية، فماذا وقع في تلك الحروب وقد طالت حتى جاوز مداها عشرات السنين؟

قهرنا خصومنا ودحرناهم، لأن أسلحة الحرب كانت واحدة، ولم يكن لخصم أن يتفوق على خصم بغير قوة العقيدة ورسوخ اليقين

وكان نصارى الغرب يهمهم أن يستولوا على مصدر النصرانية في الشرق، ومعنى هذا أنهم جاءوا مسلحين بعزائمنا الروحية، ولولا العقيدة التي نقلوها عن الشرق لعجزوا عن ملاقاتنا في أي ميدان

سيوف لله كان من المؤكد أن ينهزم الشرق الإسلامي في هذه الحرب، لأن أدوات القتال قد تغيرت وتبدلت، ولم يستعد الشرق لمنازلة الغرب، لأنه غير مزود بالأسلحة التي ابتدعها شياطين الغرب الجديد

لطف الله بالشرق الإسلامي ولطف. . . ألم تسمعوا أن الحرب في روسيا لم تمس الأقاليم المأهولة بالقبائل الإسلامية؟

عتاب!

هو عتابي على الدكتور طه، فهل يميل إلي بفكره لحظة واحدة لغير رأيه فيما بين الشرق والغرب؟ وماذا يقع إن لم يسمع؟ الشرق لن يتخلى عن السيطرة الروحية، وإن عجز عن السيطرة الحربية، ولن يوهن من قوة الشرق أن يقرأ أبناؤه كلاما منقولاً عن أحد الأجانب، ولو كان الناقل طه حسين

أما بعد فأنا أوصي طلبة السنة التوجيهية أن يثيروا هذه المشكلة أمام لجنة الامتحان، ليفوزوا بدرجات التفوق، على شرط يفهموا المرامي الدقيقة لهذه الرموز والتلاميح

لجنة الامتحان في مسابقة الأدب العربي ستؤلف من رجال يسرهم أن يجدوا فتياناً يجادلون ويناظرون، فالقوهم بما أدعوكم إليه، ليفرحوا بكم، وليطمئنوا إلى أنكم فاهمون لا ناقلون. . . أنا ضامن لكم النجاح إن لاقيتم الممتحنين وأنتم مزودون بالفكر والبيان. . . إنهبوا جوائز وزارة المعارف، لتفرح بكم فرح الآباء بنجباء الأبناء

زكي مبارك