الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 542/في المسجد الأقصى

مجلة الرسالة/العدد 542/في المسجد الأقصى

مجلة الرسالة - العدد 542
في المسجد الأقصى
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 22 - 11 - 1943

3 - في المسجد الأقصى

للدكتور عبد الوهاب عزام

لبثت في المتحف الإسلامي حتى سمعنا النداء فخرجنا لنشهد صلاة العصر في المسجد. فلما قضيت الصلاة طوفنا في المسجد فرأيناه في جلاله ورونقه؛ وقد تمت عمارته هذا العام بعد أن لبث عليه الترميم والبناء سنين. دعم أحد المهندسين الترك القبة العظيمة التي أمام المحراب؛ ثم تولى المهندسون المصريون تجديد معظم الأروقة، وأقيمت عمد جميلة من الرخام مقام العمد القديمة المبنية. وقد حدثت أن المهندسين عجبوا كيف احتملت هذه العمد المبنية هذا السقف الثقيل وما عليه من طين وتراب قدر وزنهما تقديراً هائلاً

والمسجد اليوم سبعة أروقة تمتد مع طوله من الشمال إلى القبلة أوسطها الرواق الأعلى الذي ينتهي إلى قبة المحراب العالية الرائعة. وكان طول المسجد، فيما سمعت، من الشرق إلى الغرب، وكان امتداده من القبلة إلى الشمال اقل مما هو اليوم. وإذا أدخلنا في مساحة المسجد مصلى النساء ومسجد عمر كان طوله كما كان من قبل، ممتداً بين الشرق والغرب. والمسجد يشبه جامع بني أمية العظيم الذي في دمشق، ولكن جامع دمشق أضخم بناء وأعلى عمداً وأحكم صنعة، وعرض مصلاه قليل وطوله مفرط. ورحم الله بني أمية لقد بقى على الدهر بناؤهم، وثبتت على رجفات الزمان آثارهم فما تزال دمشق وبيت القدس وقرطبة تشهد لهم بما شادوا وما عمروا. وما يفخر المسلمون والعرب اليوم بعمارة هي أقدم وأضخم مما شاد بنو أمية. وقد قلت في جامع دمشق:

رأيت فيه خلال القوم ماثلة ... وللبناء من البانين أقدار

ورحم الله شوقي الذي يقول:

لولا دمشق لما كانت طليطلة ... ولا زهت ببني العباس بغدان

ويقول:

بنوا أمية للأبناء ما فتحوا ... وللأحاديث ما سادوا وما دانوا

ووقفت عند المنبر الجميل الذي دق صنعه، وجمل شكله، وأخرجه صانعان من حلب طرفة من الصناعة ليس فيها مسمار؛ ولكن دقائق من الخشب متماسكة ومتعاشقة. وقرأنا عليه اسم الملك الصالح نور الدين محمود وابنه وقد حدث التاريخ أن هذا المنبر صنع والمسجد في أيدي الصليبيين ليوضع فيه بعد الفتح. وما كان الفتح ليستعصي على هذه العزيمة وهذا الإيمان. ثم وضعه في موضعه الذي هو فيه اليوم الملك الناصر صلاح الدين

قال الإخوان: اصعد فتأمل أعلى المنبر فصعدت وكأنما احتشدت أمامي الجموع التي شهدتها هنا القرون، والحادثات التي داولتها العصور. قلت: ما أخطب هذا المقام وما أخطب هذا المنبر! قال أحد الرفاق: وإنك لجدير به. قلت: يوم نظفر بما نبغي لهذا المسجد وأهله من سلام وعزة، يوم تكون أقدامنا جديرة بمكانها من هذا المنبر منبر التاريخ والى جانبي المسجد من جهة القبلة مصليان متصلان به يمتدان مع جدار القبلة إلى الشرق والغرب ولا يتسعان إلى الشمال بل عرضهما يقارب عرض رواق واحد من المسجد، وهما يبدوان كأنهما جناحان لهذا المسجد المبارك الذي يصعد بالأرواح كل حين؛ فالذي إلى يمين المصلى مسجد النساء (وقد اقتطع قسم منه للمتحف الإسلامي)، ويصلي فيه النساء كل يوم. وقل أن يخلو المسجد الأقصى من مصليات قانتان يذهبن جماعات إلى الصلاة ومعهن أطفالهن أحياناً. وهي سنة إسلامية حميدة شهدتها في جوامع الشام واسطنبول أيضاً

وأما المصلى المبارك الذي إلى يسار القبلة شرق المسجد فيحمل الإسم العظيم والذكرى الخالدة، اسم أمير المؤمنين عمر فاتح بيت المقدس رضي الله عنه وأرضاه. ويقال إنه المصلى الذي أمر عمر باتخاذه حينما دخل المسجد الأقصى ورفع عنه الرجس والهوان اللذين جثما عليه عصوراً، وجعل مسجداً طهوراً

والذي أدركته من كتب التاريخ أن المساحة الفسيحة التي نسميها الحرم كانت كلها تسمى المسجد الأقصى؛ ولكن هذا الإسم يخص اليوم أحياناً بالمسجد الذي وصفت. قال ياقوت:

وأما الأقصى فهو في طرفها الشرقي (يعني طرف المدينة) نحو القبلة أساسه من عمل داود عليه السلام وهو طويل عريض وطوله أكثر من عرضه

وفي نحو القبلة المصلى الذي يخطب فيه للجمعة. وهو على غاية الحسن والأحكام مبني على الأعمدة الرخام الملونة وليس في الدنيا أحسن منه لا جامع دمشق ولا غيره

وقد نقل ياقوت عن المقدس أن طول المسجد ألف ذراع وعرضه سبعمائة وأن في سقفه من الخشب أربعة آلاف خشبة وسبعمائة عمود رخام وكان له ستة وعشرون باباً الخ ومن يقرأ ما ذكر المؤرخون عن هذا المسجد يعرف أن الذي نراه اليوم بقية الخطوب من هذا البناء العظيم الهائل. وإنما ذكرت من هذه البقية ما لا يشق على القارئ إدراكه مما أدركت العين في زيادة سريعة غير مستوعبة ولا مدققة

ثم انصرف الرفاق مشكورين، ولبثت في المسجد فذهبت إلى الجانب الشرقي فأشرفت من صحن الصخرة على ساحة واسعة بينه وبين السور الشرقي، سور المسجد والمدينة القديمة نفسها. وهي ساحة خربة ولكنها تصلح أن تكون بستاناً كبيراً أو حديقة واسعة أو مدرسة جامعة، أو ما يشاء التفكير والإصلاح لخير المسلمين

وضيفت الشمس للغروب فذهبت إلى حجرة الموعد معتكف الوزير التقي السيد المجددي للإفطار مع العاكفين. وصلينا المغرب في قبة الصخرة وعدنا فبسطت سفرة وضعت عليها ألوان من الأطعمة الشهية، وأحاطت بالمائدة وجوه مشرقة تتجلى فيها الطهارة الإسلامية طهارة الجسد والروح والظاهر والباطن قعدت بين هؤلاء الإخوان البررة الذين صفت قلوبهم ووجوههم واجتمعوا على البر والأخوة في هذه البقعة المطهرة. فخلت هذه المائدة صفاً للصلاة، وهذا الأكل الشهي أسلوباً من العبادة. وإن حظ الأجسام من هذه الغذاء ليس أعظم من حظ الأرواح. لقد تمنيت أني معتكف مع المعتكفين ووددت أن أظفر بهذه السكينة في حجرة من هذه الحجرات رمضان من العام القابل

قلت للاخوان مازحاً: إنكم لفي نعيم. وإن غير المعتكفين لا يظفرون بمثل هذه المائدة. وقال السيد المجددي وهو يضئ الكهرباء: هذا اعتكاف آخر الزمان. قلت: هذا اعتكاف إسلامي فيه الطمأنينة والعبادة والفكر، وليس فيه الحرمان والإرهاق (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق). وشربنا الشاي وتحدثنا قليلاً فسمعنا النداء للعشاء فسرنا إلى قبة الصخرة فدخلنا وقلوبنا تخفق مع هذه القناديل الخافقة. وانتظمت الجماعة في المصلى الخارجي وسمعت تسبيح النساء وراء السياج المحيط بالمصلى الذي تحت القبة فعرفت أن لهن جماعة من وراء هذا الحجاب. وأقبلنا على صلاة العشاء والتراويح. فلما قضيت الصلاة وسرت إلى الباب الشمالي رأيت جماعة أخرى يؤم بها السيد المجددي؛ وقيل لي إنها جماعة الحنفية يصلى بها هذا السيد العمري الأفغاني كل ليلة. ومما أجدر بالإمامة في مدينة عمر استأذنت المعتكفين وخرجت كارهاً أود أن يطول لبثي في هذه المشاهد على طول ما لبثت فيها. خرجت وأنا أجيل الطرف فيما حولي لأثبت ذكراه في نفسي وأود أن أسير سريعاً في ظلمات الليل فأطوف مرة أخرى بهذه الساحة الفسيحة التي أمضيت فيها معظم النهار وشطرا من الليل

ذهبت إلى التكية البخارية فلبثت ساعة في ضيافة شيخها الشيخ يعقوب البخاري، وما هذه التكايا والمساكن النظيفة الطاهرة المجملة والمزينة بالأوراق والإغلاق إلا مساجد صغيرة. فقد عددت هذه الساعة من ساعات المسجد الأقصى أيضاً

ومضت بنا السيارة إلى رام الله حيث الفندق الذي أنزل فيه، ولا تزال هذه المشاهد في عيني. وملئ فكري، تاريخ من المجد، وعصور من الخطوب، وصفحات من الغير، وملء قلبي آمال وآلام. ذكر ناظرة يتخللها الألم كما تقدح النار من الشجر الأخضر - رجعت إلى مأواي وقد طويت العصور في تلك الساعات، والأحداث العظيمة في تلك الآثار، ثم طويت تلك الساعات القليلة وتلك الآثار الجليلة في فكري وقلبي.

عبد الوهاب عزام