مجلة الرسالة/العدد 542/البريد الأدبي
→ الريف المصري | مجلة الرسالة - العدد 542 البريد الأدبي [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 22 - 11 - 1943 |
إلى الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد
أشكر لك أيها الأستاذ الجليل بيانك الجيد عن الشعر المرسل، ولكني ما زلت ألح على ثقافتك الممتازة واطلاعك الواسع وشاعريتك السامية العالية ألا تؤثر على هذه الدعوة التي أدعو بها الشعراء كي يقوموا بتجاربهم في هذا اللون من ألوان الشعر قبل أن يحكموا عليه بمنافاته للذوق وعدم انسجامه وموسيقى الشعر لعربي؛ فهذه هي الاعتراضات نفسها التي صرح بها النقاد في إيطاليا في وجه ترسينو، وفي إنجلترا في وجه مارلو، وفي كل مكان في وجه الذين حاولوه المحاولة الأولى. . . التجربة وحدها هي التي تثبت صلاحية هذا الشعر أو فساده. وقد عرضنا - وسنعرض نماذج من شعر الأستاذ أبي حديد - وهي نماذج متوسطة، من نظم رجل لم يشتهر بالشعر، ولم يمارسه ممارسة المنقطعين للنظم، وهي مع ذاك لا تسف ذلك الإسفاف الذي يجعلها تنبو في الذوق، أو تصدم الأذن الموسيقية، فما بالك لو كان لدينا اليوم نماذج من هذا الشعر، وعلى الأسس التي ابتكرها أبو حديد، من نظمك الشائق الممتاز، أو من نظم مطران أو محرم أو الكاشف أو الجارم أو علي طه أو رامي أو ناجي أو الجبلاوي أو شيبوب، أو من نظم شعرائنا الشباب محمود حسن إسماعيل أو غنيم أو الصيرفي أو عتيق أو بخيت أو البحيري أو قطب أو فهمي أو العجمي أو جودت أو البشبيشي أو محفوظ أو فتحي أو الوكيل. . . إلى آخر هذا الثبت الطويل الذي تعتز به مصر الحديثة من شعرائنا الشباب والشيوخ على حد سواء. . . أظنك تتفق معي أيها الأستاذ الجليل على أن التجربة وحدها هي التي تكفل لنا الحكم الصادق على صلاحية هذا الشعر أو عدمها، وأن التجربة التي قام بها أبو حديد إنما ينبغي أن يقوم بها شعراء أقوى - ولن يضير أبا حديد هذا القول - شعراء مارسوا الشعر وامتازوا بالأسلوب القوي والديباجة المصقولة، شعراء يستطيعون أن يمنحونا هذا ال كما منحه مارلو وكما منحه شكسبير للأمة الإنجليزية
ونحن لا نرى أنه من اللازم اللازب أن يكب شعراؤنا على هذا اللون وحده من الشعر، في نظم الملاحم والمطولات، إذ يكون هذا هو التعسف بعينه، فقد تكون المقطوعات أو ال أجمع للرواية وللموسيقى من الشعر المرسل، خصوصاً إذا قام بنظمها الشاعر الفح الممتاز؛ لكننا مع ذاك لا نستطيع أن نغض من قيمة الشعر المرسل المتدفق الذي انتشر في لغات الأرض قاطبة إلا في اللغة العربية مع الأسف الشديد. وأحب أن أؤكد للشعراء أنه لا اللغة العربي ولا طبيعة الشعر العربي هما السبب في عدم إساغتنا لهذا الشعر. بل السبب الحقيقي هو أننا لم نجد التجارب الجيدة فيه، التجارب التي يحسن أن يقوم بها كبار شعرائنا لا (متأففين) ولا مستنكرين
وبعد، فأنا أعيذ العقاد العظيم من أن يكون سبباً في انصراف شعرائنا عن محاولة القيام بتجاربهم في الشعر المرسل، بل أعيذه هو من أن يصر على الانصراف عن هذا الشعر.
دريني خشبة
حول أصل الحضارة اليونانية
عرض الدكتور زكي مبارك عند حديثه عن كتاب (قادة الفكر) لمناقشة الرأي القائل بأن (الثقافة اليونانية هي مصدر الثقافة الإنسانية، وأن الناس في الشرق والغرب وفي جميع الأجيال مدينون لثقافة اليونان). وقد انتهى الدكتور من حديثه إلى تقرير أن (الفلسفة اليونانية منقولة عن الفلسفة المصرية)؛ وهذه النتيجة التي انتهى إليها، وأن كانت صحيحة على وجه العموم، إلا أنها تحتاج إلى شيء من الإيضاح
أما بيان ذلك فهو أن أرسطو قد أرجع أصل الفلسفة إلى اليونان حين قرر أن طاليس هو الفيلسوف الأول الذي نشأت على يديه (في القرن السادس قبل الميلاد) أول فلسفة عرفها التاريخ؛ ولكن ذيوجانس اللائرسي - وهو من المؤرخين اليونانيين - عارض في هذا الرأي، فتحدث في مقدمة كتابه الموسوم باسم (حياة الفلاسفة) عن وجود فلسفة سابقة للفلسفة اليونانية عند الفرس والمصريين. وعلى ذلك فإن مشكلة أصل الفلسفة قد اختلف فيها من قديم الزمان، وتبعاً لذلك فقد تساءل الباحثون: هل كانت الفلسفة شيئاً استحدثه اليونان أم تراثاً انتقل إليهم من (البرابرة)؟
بيد أن النتائج التي انتهى إليها الباحثون أخيراً قد رجحت الرأي الثاني، إذ أن الكشف عن وجود حضارات سابقة للحضارة اليونانية، كالحضارة العراقية (فيما بين النهرين) والحضارة المصرية، والتحقق من أن مدن أيونيه - وهي مهد الفلسفة اليونانية - قد كانت على اتصال بهاتين الحضارتين؛ كل هذا قد ساعد على ترجيح الرأي القائل بأن الشرق هو أصل الحضارة اليونانية. ولا يمكن أن يكون التشابه القائم بين قول طاليس بأن الماء أصل الأشياء وبين العبارات الواردة في فاتحة (قصيدة الخلق) التي كتبت في العراق قبل ذلك بقرون كثيرة، راجعاً إلى مجرد الاتفاق والصدفة. هذا إلى أن البحوث المتأخرة في الرياضيات وتاريخ نشأتها، قد تأدت بالباحثين إلى نتائج مماثلة: إذ أن جاستون مليو في كتابه: (دراسات جديدة في تاريخ التفكير العلمي) قد انتهى إلى القول بأن (المواد التي استطاع الشرقيون والمصريون أن يجمعوها في الرياضيات، كانت بلا شك أكثر أهمية وأوفر غنى مما كنا نتوهم منذ نحو عشر سنين). وفضلاً عن ذلك فإن علماء الاجتماع الذين قاموا بدراسة (العقلية البدائية) قد وجدوا في الفلسفة اليونانية آثاراً تدلنا على أن المذاهب الفلسفية الأولى لليونان لا يمكن بحال ما من الأحوال أن تكون بدائية أولية، وعلى ذلك فإنها لا بد أن تكون صورة مهذبة ناضجة لتفكير أكثر من ذلك عراقة وقدما. وإذن فإن من المرجح أن تكون الفلسفة اليونانية قد نشأت عن أصل شرقي، وأن يكون الفلاسفة اليونانيون الأولون منظمين ومعدلين، لا مخترعين ومبتدعين
زكريا إبراهيم
حياة مي: للأستاذ محمد عبد الغني حسن
بين يدي الآن كتاب (حياة مي) دفعه إلى الأستاذ فتح الله صقال، لأنظر فيه، وأكتب
فتحت الكتاب لأقرأ (الآنسة مي) والفهرس، ثم أطبقه إلى أن تتاح لي فرصة لقراءته، فلما قرأت ترجمة الآنسة مي شاقني ما بعدها، وقادني حسن البيان، وسلاسة العبارة من صفحة إلى أخرى حتى رأيتني أفرغ له فلا أدعه حتى أتمه، ولا أتمه حتى أهم بالكتابة عنه، ولا أهم بالكتابة حتى يمضي بي الفكر إلى غايته. ولشد ما رغبت لو طال الحديث عن مي ليطول استمتاعي بتلك اللذة الساخرة التي لا يظفر بها المرء إلا في أمثال هذه الآثار الأدبية التي لا يحس المرء في تلاوتها ضجراً ولا تعباً.
لقد جنيت من هذا الكتاب ثمراً حلواً وظفرت منه بمتاع قيم، ووجدت فيه لنفسي غذاء كما وجدت في نفسي ترويحاً وعليها ترفيهاً. وأحب أن يشاركني القراء في هذه المتعة القوية.
فالكتاب مشوق جذاب بموضوعه وطريقة وأسلوبه
أما موضوعه فمن أحب الموضوعات إلى النفس لأنه يبحث عن (حياة مي). وأنا أحب مياً وأكلف بها، وأحب التحدث عنها والاستماع للذين يتخذونها موضوعاً للحديث حين يخوضون من حياتها وأدبها. فهي من الشخصيات الجديرة بالدراسة حقاً من حيث أنها غذت نهضة الفكر العربي، والنهضة النسائية مدى ربع قرن، فكان لها في كل موضوع رأي، وفي كل مكتبة أثر
وأما طريقته فطريقة التحليل النفسي بصدقه ودقته، والعرض الروائي بطلاوته وحبكته. وأما أسلوبه فأسلوب أدبي قوي لا عوج فيه ولا التواء، ينساب في كثير من المواضع كالجدول الصافي. ولا ريب أن الأستاذ محمد عبد الغني حسن، قد بلغ أقصى ما أراد في الجهة التي اختارها أو اختارها له (المقتطف) شيخ المجلات العربية الذي يحسن أن نشير إلى ما كان بينه وبين الأديبة النابغة من مودة وثيقة دامت ردحاً من الزمن، فلا عجب إذا تولى المقتطف إخراج هذا الكتاب وفاء لصديقته وقياماً بالواجب الأدبي نحو إنتاجها الفني. وقد استوعب الكتاب ترجمة مي وثقافتها ومحافظتها على الروح الشرقية، وعطفها على الحياة الإنسانية، واحترامها للشرائع السماوية، وحبها للغة العربية، وطريقتها في الكتابة النثرية، وجهودها في النهضة النسائية، وتأسيس ندوتها الأدبية، وكل ما اتصل بحياة مي الثقافية من الأحاديث والأخبار التي حصل عليها الأستاذ محمد عبد الغني حسن، من قادة الفكر في مصر كدليل على صدق خدمتها للأدب ورفيع مكانتها في النهضة
لذلك أرى أن القارئ يصيب من مطالعة هذا الكتاب غرضين، معرفة الآنسة مي، والوقوف على آراء الأدباء والشعراء فيها. وكلاهما جليل الخطر، عظيم الأثر. وهو أثناء ذلك يستمتع بتلك الروح العذبة تطالعه من بين السطور، وروح الآنسة مي، تشع بالنور، وتنضح بالعطر. وتنبض بالحياة
جزى الله الكاتب الفاضل خير ما يجزى به العامل المخلص على جهده وتوفيقه. والشكر الجزيل للمقتطف على عنايته بتقديم هذا المجهود الأدبي إلى الأدب العربي الذي لا يستغني عنه أديب.
(حلب - سوريا) صبحي العجيلي