مجلة الرسالة/العدد 540/المشكلات
→ أوزان الشعر | مجلة الرسالة - العدد 540 المشكلات [[مؤلف:|]] |
جامع أحمد ابن طولون ← |
بتاريخ: 08 - 11 - 1943 |
10 - اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
لقد كان يكفيني ما قدمته من الأدلة على فساد الطريقة الرسمية في تعليم اللغة العربية، وعلى صحة الطريقة التي بينتها وأفضت الكلام فيها، ولكني أعلم أن المألوف شديد انتزاعه، وأن النفوس تكره العدول عما وجدت عليه الآباء والأجداد إلى شيء لم يكونوا عليه، وربما خيل إليها أن السلف الماضين لم يؤثروا هذه الطريقة على ما عداها إلا لفضلها وكفايتها، وأن العدول عنها إلى غيرها عدول عن الحق النافع إلى الباطل الضار، ولو كان في هذا الجديد خير لسبق إليه الأولون
وإني أريد أن أبين أن الطريقة التي ندعو إليها هي طريقة العصور الزاهرة لسلفنا الماضين، وأنها لم تتغير إلى الطريقة التي نشكو منها إلا في عصور الضعف والتأخر العلمي، وأريد أن أذكر من أقوال السلف ما يشهد بتفضيل هذه الطريقة على طريقة القواعد والقوانين لأونس القلوب بأن ما أدعو إليه ليس شيئاً أنا ابتدعته وإنما هو شيء كان يعلمه رجال العلم والتربية من آبائنا السابقين
وأريد بعد ذلك أن أذكر بعض أقوال رجال التربية من علماء الغرب في هذا الموضوع لأبين أن العقل والدليل ورجال العلم في القديم، ورجال التربية في الحديث وعلماء الشرق والغرب على أن اللغات إنما تكتسب بالتكرار والحفظ والتعهد والدربة وأن القواعد والقوانين لا تكسب ملكة اللغة أول كتاب وضع في نحو اللغة العربية وعكفت عليه الأجيال هو الكتاب لسيبوية، وهو كتاب مليء بالشواهد من كلام العرب، شعرها ونثرها، وكلام الله وكلام الرسول، وأبياته تزيد على الألف، وكان الدارس له يحفظ أبياته وشواهده ويدرس قواعده، فيكتسب ملكة اللغة بما يحفظ من المنظوم والمنثور، ويعلم قوانينها بما فيه من القواعد، ولم يكن النحوي هو من عرف القواعد فحسب، بل كان النحوي هو من عرف القواعد، وحفظ أشعار العرب، وعلم تخريجها، وحفظ أيامهم وخطبهم وحكمهم ومساجلاتهم؛ ولذلك كان اسم النحوي مرادفا لاسم الأديب، وألف العلماء كتباً في تراجم النحويين سميت باسم طبقات الأدباء، كما فعل ابن الأنباري في كتابه نزهة الألباء في طبقات الأدباء - وإذا قرأنا ترجمة من تراجم أساتذة النحو في عصوره الأولى كالمبرد والكسائي والفراء وابن جني بهرنا ما نرى من حفظهم وإتقانهم واطلاعهم على شعر العرب والمحدثين واستيعابهم لغة العرب، والملكة التي جاءتهم من مزاولة هذه اللغة؛ فما من غريب إلا وهم به محيطون، وما من شاهد أو مثل إلا وهم به عالمون، وما من أسلوب إلا وهم عارفون بمعناه قادرون على تخريجه
ولم يكن الأمر كذلك في النحو فقط بل كان أيضاً في البلاغة، فأول كتاب ألف في البيان العربي وصل إلينا هو البيان والتبيين لأبي عمر وعثمان بن بحر الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ وهو كتاب حوى من الأشعار والخطب والأحاديث والأمثال والمساجلات ما هو كفيل بتربية ملكة البيان، والكتب التي وضعت بعده كالبديع لابن المعتز، ونقد الشعر لأبي الفرج قدامة ابن جعفر، والصناعتين لأبي الهلال العسكري، كلها كتب ملئت بالشواهد والأمثلة، ومتنوع الأساليب، وقد عنوا بذلك ولزموه وحافظوا عليه ثقة منهم بأن كسب ملكة البيان إنما تكون بحفظ الأساليب التي استكملت شروط البلاغة، وابن الأثير في كتابه المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر حذر دارس كتابه أن يقتصر على القواعد التي في الكتاب، وأوجب عليه أن يكتسب الذوق الأدبي بالاطلاع على بيان العرب من منظوم ومنثور والإكثار من حفظه وممارسته ممارسة أساليبه؛ قال في مقدمة كتابه: ومع هذا فإني أتيت بظاهر هذا العلم دون خافية، وحمت حول حماه ولم أقع فيه، إذ الغرض إنما هو الحصول على تعليم الكلم التي بها تنظم العقود وترصع، وتخلب العقول فتخدع، وذلك شيء تحيل عليه الخواطر، لا تنطق به الدفاتر. واعلم أيها الناظر في كتابي أن مدار علم البيان على حاكم الذوق السليم، الذي هو أنفع من ذوق التعليم، وهذا الكتاب وإن كان فيما يلقيه إليك أستاذاً، وإذا سألت عما ينتفع به في فنه قيل لك هذا، فإن الدربة والإدمان أجدى عليك نفعاً، وأهدى بصراً وسمعاً، وهما يريانك الخبر عياناً، ويجعلان عسرك من القول إمكاناً، وكل جارحة منك قلباً ولساناً، فخذ من هذا الكتاب ما أعطاك، واستنبط بإدمانك ما أخطاك، وما مثلي فيما مهدته لك من هذه الطريقة إلا كمن طبع سيفاً ووضعه في يمينك لتقاتل به وليس عليه أن يخلق لك قلباً؛ فإن حمل النصال، غير مباشرة القتال
وإنما يبلغ الإنسان غايته ... ما كل ماشية بالرحل شملال
وكان كلما أفرط في درس القواعد والتعمق فيها ظهرت آراء تدعو إلى القصد في درسها والاقتصار منها على ما أقام الألسن. قال ابن السكيت: خذ من الأدب ما يعلق بالقلوب، وتشتهيه الآذان، وخذ من النحو ما تقيم به الكلام، ودع الغوامض، وخذ من الشعر ما يشتمل على لطيف المعاني، واستكثر من أخبار الناس وأقاويلهم وأحاديثهم ولا تولعن بالغث منها
وقال الجاحظ في رسائله: (فصل في رياضة الصبي، وأما النحو فلا تشغل قلبه منه إلا بقدر ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن، ومن مقدار جهل العوام في كتاب إن كتبه، وشعر إن أنشده، وشيء إن وصفه، وما زاد على ذلك فهو مشغلة عما هو أولى به، ومذهل عما هو أرد عليه منه، ومن رواية المثل للشاهد، والخبر الصادق، والتعبير البارع. وإنما يرغب في بلوغ غايته، ومجاوزة الاقتصاد فيه، من لا يحتاج إلى تعرف جسيمات الأمور، والاستنباط لغوامض التدبير لمصالح العباد والبلاد، والعلم بالقطب الذي تدور عليه الرحى، ومن ليس له حظ غيره، ولا معاش سواه. وعويص النحو لا يجدي في المعاملات، ولا يضطر إليه شيء)
وقد وجد شعور منذ زمن طويل بتفضيل تعلم اللغة بالملكة على تعلمها بالقواعد، عيب على عمار الكلبي بيت من شعره فامتعض وأنشد أبياتاً منها.
كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم ... وبين قوم على إعراضهم طبعوا
فهذا الشاعر قد فاضل بين الطريقتين، وفضل الطريقة العملية على الطريقة العلمية التقريرية
وكان الناس يأخذون ألسنتهم بالإعراب ويلتزمون العربية في كلامهم. وكانوا يعيبون من يلحن ويحفظونه عليه ويتحدثون به. وما زال الأمر كذلك في النحو والبلاغة حتى نبتت في العصور المظلمة تلك الحماقة التي تقدس القواعد وتجعلها كل شيء في تعليم اللغة وتربية ملكتها؛ وأعطتها قوة العصا السحرية، فما هو إلا أن يضرب المرء بها حتى يستحوذ على لغة العرب فيكتب بها ويخطب ويساجل وينظم الشعر، فأكثروا من القواعد وأقلوا من عرض المثل والشواهد والأساليب، وورثنا نحن عنهم هذه الطريقة وسرنا عليها حتى الآن ورجال التربية في القديم والحديث والشرق والغرب طالما دعوا إلى تعليم اللغات بالحفظ والتكرار والمرانة والدربة، وبينوا أن القواعد والقوانين لا تعلم اللغة ولا تكون ملكتها، وطالما نددوا بهذه الطريقة التقليدية، وبهذا الأسلوب العقيم في تعليم اللغة؛ فابن خلدون الفيلسوف الاجتماعي م 808هـ بين في مقدمته أن اللغة ملكة، وأن الملكات لا تكتسب بالقواعد؛ إنما تكتسب بالحفظ والتكرار. قال في فصل عنوانه (أن اللغة ملكة صناعية) اعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة؛ إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني. . . (والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأن الفعل يقع أولا وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالا، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة، أي صفة راسخة)، ثم بين أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم، وكان حرياً بأهل القرن الثامن وما تلاه من قرون أن ينتفعوا بآرائه وبما بسطه هذا العالم المجدد ودعا إليه من آراء في التربية، ولكن ابن خلدون رجل سبق عصره فلم تنتفع به أمم الشرق، ومن المؤلم أننا في عصرنا الحديث لم نفك قيود التقليد، وننفض عنا غبار الكسل، ونحرر أنفسنا من هذه الطريقة التي تلاحقنا نتائجها إخفاقا بعد إخفاق، وخيبة أثر خيبة
هذا حديث الشرق وحديث الغرب أعجب، فما من كاتب كتب في التربية إلا وأنحى على طريقة القواعد، ورأى أن اللغة لا تعلم إلا بالحفظ والمحادثة؛ فروسو رجل الفكر الفرنسي في القرن الثامن عشر نبه في صراحة على أن اللغات يجب أن تعلم بواسطة المحادثات لا بواسطة الصرف والنحو. والدكتور غوستاف لوبون المفكر الفرنسي ذكر في كتابه روح التربية أن الأمم الراقية لا تأخذ التلاميذ في تعليم اللغات بكتب النحو وإنما تأخذهم بالكلام المألوف. ثم قال وهذه الطريقة لا تحرم التلاميذ درس النحو. فهو يدرس النحو أحسن درس بهذه الطريقة اللاشعورية التي تحول النحو إلى ملكة راسخة لا إلى تكلف وتعمل. . .
ودعا سبنسر الفيلسوف الإنجليزي في كتاب التربية إلى تعليم اللغات بأسلوب أشبه بسنن الطبيعة التي يتعلم بها الطفل لغته الأصلية بلا معين ولا مرشد فيضمحل التعليم بواسطة القواعد ويعتاض عن ذلك بطرق ناجعة، وذلك ما أفضى إلى تأجيل تعليم علوم النحو والصرف والبلاغة للطلاب. واستأنس في ذلك برأي المسيو مارسيل الذي ذهب فيه إلى أن علوم النحو والصرف والبلاغة ليست مما يبتدأ به في تعليم الأطفال، ولكنها متممات ومكملات. ثم قال سبنسر: وقصارى القول أنه لما كانت علوم النحو والصرف والبلاغة إنما نشأت بعد تكون اللغة كان من الواجب أن يتلقاها التلميذ بعد تكون اللغة، وسوى هؤلاء كثير من رجال التربية في العصر الحديث
إن أساليب التعليم والتربية التي تسير عليها أمة من الأمم هي خير مقياس لعقليتها وثقافتها ومقدار نضوجها، فإن كانت تجري على قوانين العقل والوجود وتساير الرقي الإنساني العام، وتلائم روح طبائع الأشياء، استدللت بذلك على ثقافتها ورقيها؛ وإن كانت تخالف ذلك أمكنك أن تحكم على الأمة بالتأخر في مضمار الحياة. وبالضعف في شتى مناحيها العقلية والاجتماعية والسياسية، وإن الأمم الرابضة حولنا، والمتطلعة إلينا، والتي تخالطنا وتجاورنا لتحكم علينا بما نصطنعه من أساليب في التربية والتعليم؛ فلنأخذ بالأسلوب المطابق لطبائع الأشياء وقوانين الوجود في تعليم اللغة العربية، إن لم يكن لإتقان اللغة والتوفيق في تعليمها، فالاتقاء حكم الأمم علينا بالتأخر في مضمار الحياة.
محمد عرفة