مجلة الرسالة/العدد 54/ما فعلت الأيام
→ أحمد زكي باشا | مجلة الرسالة - العدد 54 ما فعلت الأيام [[مؤلف:|]] |
سمُوُّ الفقر في المصلح الاجتماعي الأعظم ← |
بتاريخ: 16 - 07 - 1934 |
للأستاذ أحمد أمين
عرفته بالإسكندرية منذ عشرين عاما، شاباً رقيق البدن، ضئيل الجسم، مسنون الوجه، شاحب اللون، أظهر مميزاته الرقة والتواضع والتدين. حيي الطبع، شديد الخجل، إن جلس في قوم اعتقل لسانه، وأطرق رأسه. وأرخى عينيه؛ وإن صدرت منه هفوة أو شيء ظنه هفوة، تمنى لو ساخت به الأرض، وظل يحاسب نفسه ويطيل تأنيبها، فآثر الانفراد وأخلد إلى الوحدة، واستأنس بالوحشة، فقلّت معرفته بالناس، وقلّت معرفة الناس به، لا يعرف من العالم إلا مدرسته التي يدرس فيها، وبيته الذي يأوي إليه، ومسجده الذي يتعبد فيه؛ فأما الحياة وشؤونها، وجدها وهزلها، وملاهيها وألاعيبها، فلا يدري منها شيئاً. لا يجلس في مقهى لأنه يخلُّ بمروءته، ولا يذهب إلى تمثيل أو سينما لأنهما لا يخلوان من امرأة سافرة، ولا يشتري شيئاً من بقال عنده لحم خنزير خوفاً من أن تكون سكينته التي يقطع بها الجبن والحلوى قد مست الخنزير، فلا يطهرها مسح، إنما يطهرها عسل سبع مرات إحداهن بالتراب؛ ويغض طرفه إذا سار حذر أن تقع عينه على امرأة.
أعز شيء عليه في الوجود دينه، حياته كلها دين، ومثله الأعلى رجل ظهارته دين، وبطانته دين، تفتير عينيه في خشوع دليل على أنه قضى شطر ليله في عبادة ومناجاة، أسبل عليه الدين نوعاً لطيفاً من الرضى بالقضاء والقدر، فلا يأسى على فائت، ولا يجزع على ميت، ولا يستخفه الفرح لخير، ولا يغلو في الحزن على شر، راض بما كان وما يكون، فكل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيْس، كل أحكامه صادرة عن دين، فالرجل الطيب من تدين، ورجل السوء من لم يتدين، ويستحيل على رجل أن يكون طيباً إذا شرب كأساً من خمر، أو لعب لعبة ميسر، أو ترك صلاة أو زكاة - يوفق دائماً بين أعماله في الحياة وأوامر الدين، إذا أراد الرياضة ذهب إلى سيدي بشر لزيارته، أو لسيدي جابر لصلاة الجمعة فيه، أو أخذ جزءاً من (الأحياء) وذهب إلى (طابية قايتباي) يخلو فيها بنفسه ودينه وكتاب الأحياء. وإن أراد أن يحفظ شيئاً من الأدب حفظ في نهج البلاغة لأنه يجمع بين البلاغة والدين، وإن عرضت فرصة في دراسته للغة العربية خرج من اللغة إلى الدين، وانقلب واعظاً لتلاميذه، حتى استطاع أن يكوّن منهم فرقة دينية تلتزم الصلاة والصوم وشعائر الدين.
عرفته اتفاقاً، ولست أدري الآن سبب المعرفة وكيف كانت، وكل ما أذكره أني عرفته، وفي لمحة تحولت المعرفة إلى صداقة فحب، فكان من خاصة إخواني وأقربهم مودة إلى قلبي، يأنس بي وآنس به، ويفضي إلى بدخيلة نفسه وكامن أسراره، وكان حبي له مشوباً بعطف عليه ورحمة له، عطفي عليه ظرف فيه، وأرأفني به رقة حواشيه، وملأ نفسي رحمة عليه قسوته على نفسه وأخذه لها في كل شيء بالأشد الأحزم، قد ملك الدين عليه نفسه، فروّعه من كل نعيم خشية السؤال، وهوّل عليه كل لذة خوف العقاب، وغلبت عليه في كل تصرفٍ فكرة الموت مخافة ما بعده، إن قال له قائل (ولا تنس نصيبك من الدنيا) قال (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم).
على كل حال نعمنا بالصداقة حيناً تساهمنا فيه الوفاء، وتقاسمنا الصفاء، أسافر إلى الإسكندرية فأرى أول واجب علىّ أن أزوره، ويحضر إلى القاهرة فيرى أول واجب عليه أن يزورني، وأكتب اليه، ويكتب إلىّ، ثم عفَّى الزمان على الصداقة ففترت حرارتها، وخمدت جذوتها، لا لسبب إلا أن الصداقة ككل حيّ إذا لمُ تغذ دائماً بالمقابلة والمكاتبة أسرع إليها الذبول فالفناء.
ثم دارت الأيام دورتها، وتعرفت في الإسكندرية بإنسان جديد، فإذاهو صديقي القديم، هو في هذه المرة بدين بطين، مطهم الوجه، ريان السواعد؛ كنت في أيامي الأولى أقرأ في أرنبة أنفه وصفاء جبهته آيات السذاجة والإخلاص، وكنت أرى في وجهه وجلسته عزوفاً عن الدنيا، وزاهداً في الاستكثار منها، ورضى بميسورها؛ وكنت ألمح في فتور عينه حياء العذراء وخجل المخدرات؛ وكنت أرى في نبرات صوته وحركات جفونه ونظرات عينه ديناً وورعاً، فإذاكل ذلك قد استحال كما يستحيل الماء إلى ثلج، علمت أنه قد ورث من أبيه فأثرى، وسمحت لي الظروف بمخالطته فأدهشني ما رأيت من تغير وانقلاب - رأيته وقد أماط عن وجهه قناع الحياء، وخلع ربقة الحشمة، يداخل الناس ويمازجهم، حسن الصحبة، جميل العشرة، يضرب بسهم وافر في المفاكهة والتنادر، جيد القصص، حسن الحديث، لا يأنف من حديث فاجر إذا كانت فيه نكتة حلوة، كثرت أصحابه على اختلاف منازعهم وطبقاتهم، وهو عند كل جماعة منهم قطب الرحى، يمتزج بأرواحهم ويتصل بقلوبهم، خبير كل الخبرة بأندية اللهو وما إليها، يعرف جد المعرفة برامج السينما في كل أسبوع، وما يمثل من روايات في كل فصل من الفصول، وعنده الخبر اليقين عن كل مغن ومغنية، وفنان وفنانة أتت من مصر إلى الإسكندرية تغني أو تمثل، ذهب عنه خفر عينيه وأصبح يتعشق الجمال ويتتبعه، ويحملق فيه ويشتهيه، حلت المسائل المالية جزءا كبيراً من عقله فهو كثير التفكير فيها، له ديون وعليه ديون، وله قضايا وعليه قضايا، وله دفاتر حساب دقيقة، وله آمال مالية واسعة
حادثته مرة، وكان أشد ما أريد استطلاعه منه أن أعرف حال دينه الذي كان يملك عليه قلبه وعقله، والذي كان يغمر حياته ويسيطر على كل خطوة من خطواته، فإذاعقله حر شديد الحرية في تفكيره، قد تحرر من كل قيد، يعجب بالمدنية الحديثة ويستلهمها الرأي ويستوحيها االنظر، ويتخذ عماد منطقه ومصدر حكمه على الأشياء ما يفعله الأوربيون وما لا يفعلون. قد يعارض ما يراه من ضروب المدنية مبدأ من مبادئ دينه فيظهر عليه نوع من الارتباك والحيرة، ويجمجم في القول ويتبين في قوله الاضطراب بين دين خالط لحمه ودمه شطراً من حياته، وبين عقل نزع إلى الحرية في آخر أيامه، ويشعر بثقل الموقف على نفسه فيجتهد في تحوير الحديث، وتغيير مجرى القول إلى حيث يسترد كامل رأيه، ومنتهى حريته - هذا عقله، وأما قلبه فدينه في رف من رفوفه، لم يملأه ولم يخل منه، لذلك حرت أن أسميه مؤمناً أو كافراً، ماشيته مرة على البحر فرآه جميلاً جليلاً، ورأى القمر يسطع عليه بنوره الساحر، فصاح هذا موضع سجود، فصلى على الرمل، ودعاني مرة إلى ملهى فكان فيه كمن لا يؤمن بحساب ولا عقاب، وهكذا تذبذبت حياته بين نزعة قديمة، ونزعة جديدة، ودين نشأ عليه، ولا دين مال حديثاً إليه، حينا يتحرك دينه الذي في الرف وينتعش حتى يعم قلبه، وحينا ينكمش وينكمش حتى لا يكاد يرى أو يحس
حننت إليه لما بيننا من حب قديم، ولكن لست أدري لم لم تتأكد بيننا الصداقة في هذه المرة كما تأكدت من قبل أكان يعطفني عليه دينه وقد رق؟ أم كان يحني عليه ما فيه من ضعف - مظهره الحياء والخجل، وقد قوي فلا حياء ولا خجل، أم كانت تؤلف بيننا وحدة فتعددت، وأسلوب واحد في الحياة فتفرقت بنا السبل، لعله شيء من ذلك، ولعله كل ذلك، ولعله شيء غير ذلك، على كل حال تركته وبيننا ودّ دخله العقل فخف، وصداقة جال في نواحيها الفكر ففترت
لقد خليته، وأنا أفكر في شأنه، لقد عاش شيخاً وهو شاب، وعاش شاباً وهو شيخ - عصى هواه صغيراً وأطاعه كبيراً، فليته ولد كبيراً ثم عاد صغيراً، وليت شعري هو في أي حاليه أسعد، أيوم فر من العالم إلى دينه، أم يوم فر من دينه إلى العالم؟ - انه ليمثل في حياته العالم خير تمثيل، موجة دين تتبعها موجة الحاد، وموجة روحانية تتلوها موجة مادية، وهكذا دواليك، وما أدرى أيقف صديقنا في تطوره عند هذا الحد، أم يعود سيرته الأولى، أم يختط مسلكاً جديداً لا هو هذا ولا هو ذاك؟ الله أعلم.
أحمد أمين