مجلة الرسالة/العدد 54/أحمد زكي باشا
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 54 أحمد زكي باشا [[مؤلف:|]] |
ما فعلت الأيام ← |
بتاريخ: 16 - 07 - 1934 |
رحم الله زكي باشا ورضي عنه! لقد كان علَماً من أعلام هذا العصر، ورسولاً من رسل هذه النهضة! وأعلام هذا العصر ورسل هذه النهضة معلومون معدودون، لا تزيد فيهم المجاملة، ولا تنقص منهم المجافاة، ولكل واحد منهم ناحية من نواحي الإصلاح أشرقت فيها نفسه، وانتشر في جوانبها سناء. وهم يمتازون من النابغين والنابهين بأن لهم عقيدة فطرية قوامها الإيمان والعصبية، ورسالة روحية بلاغها الجهاد والتضحية. فمحمد عبده في الناحية الدينية، ومصطفى كامل في الناحية الوطنية، وقاسم أمين في الناحية الاجتماعية، وسعد زغلول في الناحية السياسية، وأحمد زكي في الناحية القومية؛ قد بلَّغوا جميعاً رسالات الفطرة على نحو ما بلغ المرسلون رسالات الوحي. نزلت على قلوبهم منذ الشباب الأول فجعلت عقولهم وميولهم ومواهبهم وقفاً عليها ودواعي إليها ووسائل لها؛ ثم لازمتهم في أطوار العمر، وحلت من نفوسهم محل الغرض من السعي والغاية من الحياة
فزكي باشا منذ بلغ سن التكليف تمثل لعينه مثَله، واستعلنت في ذهنه رسالته: رأى العروبة لفظاً تغير مدلوله في الناس، وجنساً تنكرت معالمه في الأجناس، ولساناً فشا فيه الدخيل، وديناً تقول عليه الباطلُ، وأثراً عبث به الجهل، وتاريخاً تطرق إليه النسيان، وحضارة غض منها التعصب، وحقاً تجهم له البغي، وإرثاً تخطفته الغزاة، ووحدة مزقتها العوادي. وكان أول ما عانى من وسائل العيش معالجة الترجمة في الديوان، ثم تعليمها في المدرسة؛ فصرف جهده في تنقيح التراكيب الديوانية، وتصحيح الأعلام العربية، وتصويب الأخطاء التاريخية، ونَقْل ما يعلن محامد الإسلام إلى اللغة الفرنسية، ثم لا يسمع بمكرمة تروى لأمة إلا التمس الأولية فيها للعرب. فالصحف الفرنسية تذكر أن وفود المهنئين دخلوا على الرئيس (بوانكاريه) يهنئونه بالرياسة فما شكر أحداً بما شكر به الآخر، فيكتب في تلك الصحف نفسها ان الوزير أبن زيدون قد سبقه إلى ذلك في موقف حرج من مواقف العزاء؛ وتتبجح أوربا باختراع الطيارة فيثبت لها أن أبن فرناس أسبق من طار في الجو وأول من مات في سبيل الطيران؛ وتشيد أمريكا بعبقرية (كولمب) فيقول لها إن العرب أول من فطن إلى وجدودها وسعى لكشفها
ثم اتسع أمامه أفق الجهاد فاستشرقت نفسه إلى إحياء ثقافة العرب ونشر حضارة الإسلام، فحج الأندلس وزار العواصم الأوربية، ينقب عن نوادر المخطوطات ونفائس المطبوعات ينسخها أو يصورها أو يشتريها لا يدخر في سبيل ذلك جهداً ولا ثروة. ثم لابس المستشرقين دهراً مليَّا، يفيدهم ويفيد منهم حتى ثقف مناهج البحث، وحذق أصول التحقيق، ومهر طرائق النشر، وأصبح لهم مرجعاً وفيهم حجة
فلما اعتزل المنصب الحكومي تسايرت قواه وهواه إلى خدمة الأمة العربية، فوفد على ملوكها، وسفر بينهم بالصدق والألفة، حتى أذهب الموجدة، ومهد لتوحيد الكلمة
ثم جرد لاستقراء الدقائق واستجلاء الحقائق نشاط الصبي، وعزم الشاب، وصبر الرجولة، فشغل الصحف بالمقالات والمناظرات، وعمر الأندية بالخطب والمحاضرات، وأحيا المجالس بالملح والمحاورات، وفي كل يوم يعتكف الساعات الطوال في مكتبته الجامعة يحرر مسألة، أو يحضّر إجابة، أو يحّبر مقالة، أو يصحح تجربة، حتى إذا فرغ من ذلك كله رجع إلى بيته، فوجد ناديه قد حفل بزواره وسماره من رجالات العرب والمسلمين الطارئين على مصر، فينشر عليه الأنس، ويفيض فيه الكرم، ويبث خلاله المعرفة، فكانت حضرته كحضرة الصاحب بن عباد، مصدر العوارف والمعارف، ومثابة القصد من كل قطر وطبقة
ثم أسلم وجه إلى الله في عهده الأخير، فجعل همه وعزمه حبساً على إنشاء مسجده وبناء قبره. فكنت تراه لا يفكر إلا في هذا المسجد، ولا يعمل إلا له، ولا يتحدث إلا عنه، ولا ينفق إلا عليه، ولا يُبرد البُرُد ويرسل الرسل إلا في شأنه. فلو لم يعجله الموت عنه لتركه قطعة خالدة من الفن العربي
ثقافة زكي باشا ثقافة الأديب، فهو محيط بكل شيء، ولكنه غير راسخ في شيء؛ وذوقه ذوق الفنان، فهو أنيق في ملبسه، أنيق في مأكله، أنيق في مسكنه، أنيق في نشر مقالة، أنيق في طبع كتابه؛ وخلقه خلق العالم، فهو متطامن النفس، عذب الروح، حلو الفكاهة، سليم الصدر، يذهب في السذاجة إلى حد العُجب، ويخرج من تقرير مجهوده في العلم إلى التفاخر به
وكان تصوره وتصويره عربيين خالصين على رغم تضلعه من الفرنسية، وإلمامه بالآداب الأوربية: فتفكيره استطرادي لا يعني بالوحدة، ولا يحفل كثيراً بالتناسق، وأسلوبه أندلسي يتصيد السجع، ويلتمس ألوان البديع، ومرجع ذلك إلى اعتقاده بعربيته، واعتداده بشرقيته، واعتماده في تكوين نفسه على أدب أمته
إن رسالة الفقيد الكريم كانت ضرورة من ضرورات الإصلاح في عصر قضى الله أن يبعث فيه مجد العرب ليحيا من حيّ عن بينة، فان نهوض الأمة على تاريخ طامس، وأثر دارس، ولغة معجمة، وهيكل منحل، يكون أشبه بنهوض الكسيح لا يقوم إلا ليقع
وقد لخص الفقيد رسالته أجمل تلخيص في ثلاثة أبيات من الشعر أنشأها ثم جعلها زخرف داره، وصورة شعاره، ومرجع حديثه. وهي:
وقفت على أحياء قومي يراعتي ... وقلبي وهل إلا اليراعة والقلب
ولي كل يوم موقف ومقالة ... أنادي ليوث العرب ويحكموا هبوا
فإما حياة تبعث الشرق ناهضاً ... وإما فناء وهو ما يرقب الغرب
رحمه الله رحمة واسعة. وعوض العروبة والعربية والإسلام من فقده خير العرض.
احمد حسن الزيات