مجلة الرسالة/العدد 54/الكندي
→ أعيان القرن الرابع عشر | مجلة الرسالة - العدد 54 الكندي [[مؤلف:|]] |
من طرائف الشعر ← |
بتاريخ: 16 - 07 - 1934 |
(هو من الاثني عشر عبقرياً الذين ظهروا في العالم)
كاردانو
للأستاذ قدري حافظ طوقان
مقدمة:
ليس أصعب على الباحث من الكتابة عن حياة عالم لمُ يعطه التاريخ حقه من البحث والاستقصاء، ويزيد في الصعوبة التشويه الذي نجده في حياة كثيرين من علماء العرب والمسلمين. فكم من حقائق لم تذكر، وكم من حوادث أخذت على غير حقيقتها فسيئ فهمها، وكم من اختراع للعرب نُسب لغيرهم، وكم من تلاعب طرأ على التراث الإسلامي فجعل كثيرين من شبابنا يشكون في مجد أمتهم ومدنيتها وقابليتها على الإنتاج. ومن الغريب أن تجد بعض علماء الفرنجة (لبقين) في الكتابة عن نوابغ العرب، فهناك شخصيات عربية وإسلامية لمعت في نواح عديدة من المعرفة، ومن الطبيعي أن يختلف اللمعان، فبينما تراه شديداً في فروع، تراه في الأخرى وفي الوقت نفسه غير شديد. ويأخذ بعض الإفرنج النواحي الشديدة اللمعان ويذكرونها ويهملون النواحي الأحرى إهمالاً كلياً لا يعيرونها أي اهتمام ولا يأتون على ذكرها. ولا شك أن في هذا إجحافاً لا يستسيغه عقل ولا يقبله منطق، وعلينا أن نعمل جهدنا لنظهر هذه ونعطيها حقها من التنقيب والبحث. خذ أبن سينا (مثلاً) فقد اشتهر في الطب والفلسفة، وقليلون جداً الذين يعرفون أنه كان رياضياً وطبيعياً، وأن له في كل هذه جولات وآراء سديدة قيمة، فلقد أفاد الفيزياء ببحوثه المبتكرة فيها، كما أنه استطاع أن يقدم خدمات جليلة لبعض الفروع من العلوم الرياضية. وإذا اطلعت على ترجمة حياة أبن يونس في دائرة المعارف الإسلامية تجد أن كاتب الترجمة قد وفي حق أبن يونس في نواح ولم يوفها في نواح أخرى فلقد جهل أو نسى أو تناسى (لا أدري) أن يذكر أن الرقاص (بندول الساعة) هو من مخترعات أبن يونس وناهيك بالرقاص والفوائد التي جنتها المدنية منه. ولا أكون مبالعاً إذا قلت إنه يندر أن تجد واحداً يعرف أن عمر الخيام كان من كبار رياضي زمانه ومن فحول فلكي عصره، فلقد قدم خدمات حقيقة للرياضيات والفلك لا تقل عن خدماته للشعر والفلسفة، وما يقال عن هؤلاء يُقال عن غيرهم.
منشؤه:
والآن. . . نعود إلى الكندي فنقول: قل من يجهل أن يعقوب الكندي من أشهر فلاسفة الإسلام، ولكن قل من يعرف أيضاً أن له فضلاً على العلوم الرياضية والفلكية إذ كان من الذين امتازت مواهبهم في نواحيها العديدة، ومن أوائل الذين اشتغلوا وألفوا في العلوم الدخيلة. يقول كتاب التمدن الإسلامي (. . . فبعد أن كان العرب في صدر الإسلام يستنكفون من الاشتغال حتى في العلوم الإسلامية. . أصبحوا لا يستنكفون من الاشتغال حتى في العلوم الفلسفية الدخيلة، وأول من اشتغل فيها أبناء ملوكهم. .) كان الكندي عالماً بالطب والفلسفة والحساب والهندسة والمنطق وعلم النجوم، وتأليف اللحون، وطبائع الأعداد. وهو يمت بالنسب إلى أحد الملوك العرب، وكان أبوه أميراً على الكوفة (محل ولادته). وقد وُلد في بداية القرن التاسع للميلاد ولم نتمكن أن نعثر بالضبط على تاريخ ولادته. أما تاريخ وفاته فيرجح أنه في أواخر القرن التاسع.
درس الكندي في بادئ أمره في البصرة ثم أتم تحصيله على أشهر العلماء، هذه الفرص التي لم تكن تسنح لغيره، واستعداده الفطري واستغلاله لكل ذلك أوجد له مكاناً ذا حرمة واعتبار عند خلفاء بني العباس حتى أن الخليفة المأمون انتخبه ليكون أحد الذين يُعهد إليهم ترجمة مؤلفات أرسطو وغيره من حكماء اليونان. ولم يخل الكندي من أناس يناصبونه العداء إما حسداً وإما غير ذلك كالقاضي صاعد بن أحمد القرطبي، وأبي معشر جعفر بن محمد البلخي ويُقال إن هذا الأخير كثيراً ما كان يشاغب عليه ويشنع بحجة أخذه بعلوم الفلاسفة، وقد تمكن الكندي مرة بثاقب نظره أن يتخلص منه، وذلك بأن بعث مَنْ حسّن له النظر في الرياضيات وفعلاً اشتغل أبو معشر بها زمناً، ولكنه لم يوفق، فعدل عنها إلى علم النجوم، وقد وجد فيه لذة فعكف عليه وأحب من يشتغل فيه وأصبح من أصحاب الكندي ومن المعجبين بعلمه ونبوغه
آثاره: والكندي أول من احتذى حذو ارسطوطاليس، كان ملماً بحكمة الهنود، فسر كثيراً من كتب الفلسفة ووضع بعض النظريات الفلسفية في قالب مفهوم حتى إن كتبه في المنطق وغيره لقيت إقبالاً عظيماً، (وله رسائل ومؤلفات في علوم شتى نفقت عند الناس نفاقاً عجيباً، وأقبلوا عليها إقبالا مدهشاً)
هذا وغيره أوجد له في قلوب معاصريه حسداً فنقموا عليه وحاولوا مراراً النيل منه، وأن يوقعوا بينه وبين الخليفة فنجحوا في ذلك، ولكن إلى زمن لم يطل أمده.
كان الكندي مهندساً قديراً كما كان طبيباً حاذقاً وفيلسوفاً عظيماً ومنجما ماهراً، وقد ترك آثاراً كباراً حليلة جعلت العالم الإيطالي (كاردانو) يعده من بين الاثني عشرا عبقرياً الذين هم من أهل الطراز الأول في الذكاء، وجعلت أيضاً (باكون) الشهير يقول (إن الكندي والحسن بن الهيثم في الصف الأول مع بطليموس) ويقول كتاب (آثار باقية) (إن الكندي أول من حاز لقب فيلسوف الإسلام.) وكان يرجع إلى مؤلفاته ونظرياته عند القيام بأعمال بنائية كما حدث عند حفر الأقنية بين دجلة والفرات. وعلى ذكر الأقنية يقال إنه كان في بلاط المتوكل أخوان اشتهرا بالهندسة والأعمال التطبيقية، وهما محمد وأحمد ابنا موسى بن شاكر، وكان يعز عليهما أن يظهر غيرهما بمظهر الماهر المتفوق، وبذلك لم يتركا فرصة للنيل من كل من عرف بالمعرفة والتفوق في علم من العلوم، ومن الطبيعي أنه لم يكن يروق لهما أن يسمعا عن الكندي وفضله، سيما وأنه ذو مركز عظيم في البلاط فسعيا في الوشاية عليه، وكان لهما ما أرادا في بادئ الأمر، واستطاعا أن يجعلا الخليفة يأمر بمصادرة مؤلفاته وكتبه. وكان يقال إن مراد ابني موسى من المصادرة هو أن يستفيدا من مراجعة الكتب في حفر القناة الجعفرية، ولكنهما فشلا في إنشائها فاستدعيا المهندس الشهير سند أبن علي لحل بعض المعضلات التي وجداها عند حفر القناة، فوعد بحلها وبمساعدتهما على شريطة أن يرجعا للكندي كل كتبه، وأن يسعيا لدى وليّ الأمر في العفو عنه وفي إزالة ما أوجداه من فتور وسوء تفاهم.
وقال الكندي بأحكام النجوم، وكان يرجع بعض الظاهرات والحوادث إلى أسباب فلكية فيستمد من أوضاع النجوم وحركاتها بعض التنبؤات. فيقال إنه نهى عن الاشتغال بالكيمياء للحصول على الذهب، وقال إن في ذلك تضييعاً للوقت والمال، وقد ألف في هذا الموضوع رسالة سماها (رسالة في بطلان دعوى المدعين صنعة الذهب والفضة وخدعهم). وقد أفادت رسالته هذه بعض معاصريه والذين أتوا بعده، إذ لا يخفى أن كثيراً من علماء القرون الوسطى أضاعوا معظم أوقاتهم في الكيمياء للحصول على الذهب، وله مؤلفات في المرئيات والبصريات وقد وضع كثيراً من نظرياتهما في قالب رياضي، وكان لبحوثه هذه تأثير كبير على دراسات باكون وواتيل، وكتب في الموسيقى وأعطى طرقاً لإيجاد التردد.
مؤلفاته:
وللكندي مآثر جمة تظهر في أكثر العلوم بل تكاد تسجلها كلها فقد ألف في الفلسفة وعلم السياسة والمنطق والحساب والكريات والموسيقى والنجوميات والهندسة والفلك والطب والاحكاميات والجدليات والنفسيات والإحداثيات والأبعاديات والتقدميات، كل هذه وغيرها مذكورة في كتاب الفهرست لابن النديم، وتبو على 230 كتاباً، وله فوق ذلك رسائل في علم المعادن وأنواع الجواهر والأشباه وفي أنواع الحديد والسيوف وجيدها ووضع انتسابها. أما تأليفه في الرياضيات والفلك فأهمها رسالة في المدخل إلى الارثماطيقي خمس مقالات، كتاب في استعمال الهندي أربع مقالات، رسالة في تأليف الأعداد، رسالة في تسطيح الكرة، رسالة في علل الأوضاع النجومية، كتاب في أغراض كتاب أقليدس، كتاب في تقريب قول ارشميدس في قدر قطر الدائرة من محيطها، رسالة في تقسيم المثلث والمربع وعملهما، كتاب في كيفية عمل دائرة مساوية لسطح اسطوانة مفروضة، رسالة في قسمة الدائرة ثلاثة أقسام، رسالة في صنعة الإسطرلاب بالهندسة، رسالة في ظاهريات الفلك، رسالة في استخراج بعد مركز القمر من الأرض، رسالة في استخراج آلة وعملها يستخرج بها أبعاد الأجرام، رسالة في الحيل العددية وعلم إضمارها، وو. . . الخ
تلاميذه:
وقد أخذ عن الكندي طلاب كثيرون منهم أبو العباس أبن محمد بن مروان السرخسي، وكان متفنناً في علوم كثيرة من علوم القدماء والعرب، قرأ على الكندي وعنه أخذ، اشتهر في الفلسفة والطب وكان موضع سر المعتضد، وكذلك أبو زيد أحمد أبن سهل البلخي فقد أخذ عن الكندي، وكان له مقام رفيع، ودعي جاحظ خراسان. ومن تلاميذه أيضاً حسونيه ونفطويه وسلمويه وغيرهم كثيرون.
نابلس
قدري حافظ طوقان