مجلة الرسالة/العدد 536/حكاية الوفد الكسروي
→ الأعياد اليومية والأعياد الموسمية | مجلة الرسالة - العدد 536 حكاية الوفد الكسروي [[مؤلف:|]] |
نشأة المسرح الإنجليزي ← |
بتاريخ: 11 - 10 - 1943 |
4 - حكاية الوفد الكسروي
لأستاذ جليل
3 - يقول النعمان لكسرى:
(. . . فأما عزها - يعني العرب - ومنعتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد، ووطدوا الملك، وقادوا الجند لم يطمع فيهم طامع، ولم ينلهم نائل. . .)
وهذا قول لا يقوله عامل لمعلمه، ولا وال لموليه. وكيف يلغو بمثله وجند كسرى في بلاده وفي اليمن يجوس خلالها، والدرفس يخفق فوق الرؤوس
إنما كان النعمان شرطيا عند كسرى يصد المدلغفين والقراضيب عن اجتياز التخوم. كان أمير (الحيرة) لا ملك (الجزيرة) يدعو - آمرا - هذا من اليمن وذاك من نجد وذلك من تهامة وغيرهم من غيرها فيبادرون إليه، ويمثلون بين يديه، ويقول: قد سمعت من كسرى كيت وكيت ففدوا عليه (فإذا دخلتم نطق كل رجل بما حضره ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه)
لم يكن النعمان هناك - كما زوقه المزوق المنمق. ولما غضب عليه كسرى - والسبب الحق للغضب مجهول - ضاقت عليه الأرض، ولم ينفعه أو ينجده مثرثر من جماعة (الوفد) (وأقبل يطوف على قبائل العرب ليس أحد منهم يقبله) (وأراد طيئا على أن يدخلوه الجبلين ويمنعوه فأبوا ذلك عليه، وقالوا له: لولا صهرك لقاتلناك، فإنه لا حاجة لنا إلى معاداة كسرى، ولا طاقة لنا به) (غير أن بني رواحة بن قطيعة بن عبس قالوا: إن شئت قاتلنا معك، لمنة كانت له عندهم، قال ما أحب أن أهلككم، فإنه لا طاقة لكم بكسرى)، ثم (أتى هانئ بن مسعود فاستودعه ماله وأهله وألف شكة، ويقال: أربعة آلاف شكة، والشكة السلاح كله) وهذا قول أبي الفرج في الأغاني. والطبري في تاريخه يقول: (والمقلل يقول: كانت (400) درع، والمكثر يقول: كانت (800)) ومضى إلى سيده كسرى (فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه فقيده وبعث به إلى سجن كان له بخانقين فلم يزل فيه حتى وقع الطاعون هناك فمات فيه)، وقيل (بل مات في ساباط في حبسه) وقيل (ألقاه تحت أرجل الفيلة حتى مات)، وقيل (لم يزل محبوساً مدة طويلة، وإنما مات بعد ذلك بحنين قبيل الإسلام) (فلما قتل كسرى النعمان استعمل إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة وما كان عليه النعمان) قال أبو الفرج: (وغضبت له (أي للنعمان) العرب حينئذ، وكان قتله سبب وقعة ذي قار)
والعرب لم تغضب لمصير هذا الأمير المسكين، ولم يكن قتله سبب تلك الوقعة، وإنما سببها - إن ثبتت - (أن كسرى بعث إلى إياس: أين تركة النعمان؟ قال: قد أحرزها في بكر ابن وائل. فأمر كسرى إياسا أن يضم ما كان للنعمان، ويبعث به إليه، فبعث إياس إلى هانئ أن أرسل إلي ما استودعك النعمان من الدروع وغيرها، فأبى هانئ أن يسلم خفارته، فلما منعها غضب كسرى، وأظهر أنه يستأصل بكر ابن وائل، وعنده يومئذ النعمان بن زرعة التغلبي، وهو يحب هلاك بكر بن وائل فقال لكسرى:
يا خير الملوك، أدلك على غرة بكر؟
قال: نعم
قال: أمهلها حتى تقيظ، فإنهم لو قد قاظوا تساقطوا على ماء لهم يقال له: (ذو قار) تساقط الفراش في النار، فأخذتهم كيف شئت، وأنا أكفيكهم. فترجموا له قوله (تساقطوا تساقط الفراش في النار) فأقرهم
وبعث إلى هانئ وجماعته جنوداً عربيين وجنوداً فارسيين، وكانت تلك الوقعة، إن كانت
وقد عزوا إلى رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه) هذا القول: (هذا يوم (أو ذلك يوم) انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا. أو اليوم انتصفت العرب من العجم) وهم الإخباريون وغير الإخباريين يصوغون كما يحبون ويشتهون
في الأغاني: كانت وقعة ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر، ورسول الله بالمدينة. فلما بلغه ذلك قال: هذا يوم الخ
وهنا شيء يقال: إذا كانت التركة (السابق ذكرها) كما أحصوا (400) درع أو (800) درع فنحن بين أمرين: إما أن يكون الراوون قد رأوا ما رووا في المنام، وكثيراً ما بنيت أشياء بل ديانات على المنامات - وقصة قسطنطين مشهورة - وإما أن يكون كسرى قد جن جنوناً كبيراً حتى يبعث تلك الجيوش وينفق المال الكثير للاستيلاء على حقير.
قلت من قبل: إن السبب الحق لغضب كسرى على عامله النعمان مجهول، ولكن صائغاً بارعاً (لله دره) صاغ لنا خبراً طريفاً غريباً في سبب الغضب، طرافته وغرابته تدعوان إلى روايته:
(كانت لملوك العجم صفة من النساء مكتوبة عندهم، فكانوا يبعثون في تلك الأرضين بتلك الصفة، فإذا وجدت حملت إلى الملك، غير أنهم لم يكونوا يطلبونها في أرض العرب، ولا يظنونها عندهم، ثم إنه بدا للملك في طلب تلك الصفة، وأمر فكتب بها إلى النواحي، ودخل إليه زيد بن عدي وهو في ذلك القول، فخاطب فيما دخل إليه فيه، ثم قال: إني رأيت الملك قد كتب في نسوة يطلبن له وقرأت الصفة، وقد كنت بآل المنذر عارفاً، وعند عبدك النعمان من بناته وأخواته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. . . فابعثني وابعث معي رجلاً من ثقاتك يفهم العربية حتى أبلغ ما تحبه. . . فبعث معه رجلاً جلداً فهماً فخرج به زيد. . . حتى بلغ الحيرة، فلما دخل عليه (على النعمان). . . قال: إنه (يعني الملك) قد احتاج إلى نساء لنفسه وولده وأهل بيته، وأراد كرامتك بصهره، فبعث إليك فقال: ما هؤلاء النسوة؟
فقال: هذه صفتهن قد جئنا بها. . .
(معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء قمراء وطفاء كحلاء دعجاء حوراء عيناء قنواء شماء برجاء زجاء، أسيلة الخد، شهية المقبل، جثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاش المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكف، سبطة البنان، ضامرة البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح الإقبال، رابية الكفل، لفاء الفخذين، ريا الروادف، ضخمة المأكمتين، مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضة المتجرد، سموعاً للسيد، ليست بخنساء ولا سفعاء، رقيقة الأنف، غريزة النفس، لم تغذ في بؤس، حيية رزينة، حليمة ركينة، كريمة الخال، تقتصر على نسب أبيها دون فصيلتها، تستغني بفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفين، قطيع اللسان رهوة الصوت ساكنته، تزين الولي، وتشين العدو، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، وتحمر وجنتاها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة إذا قمت، ولا تجلس إلا بأمرك إذا جلست)
. . . فقرأ زيد هذه الصفة على النعمان، فشقت عليه، وقال لزيد والرسول يسمع: أما في مها السواد وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته؟
فقال الرسول لزيد بالفارسية: ما المها والعين؟
فقال له بالفارسية: (كاوان) أي البقر. فأمسك الرسول، وقال زيد للنعمان: إنما أراد الملك كرامتك، ولو علم أن هذا يشق عليك لم يكتب إليك به. ثم كتب (النعمان) إلى كسرى: إن الذي طلب الملك ليس عندي. . . فلما رجعا إلى كسرى. . . قال للرسول: وما قال؟
فقال الرسول: أيها الملك، إنه قال: أما كان في بقر السواد وفارس ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا. فعرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع؛ لكنه لم يزد على أن قال: رب عبد قد أراد ما هو أشد من هذا ثم صار أمره إلى التباب. وشاع هذا الكلام حتى بلغ النعمان، وسكت كسرى أشهراً على ذلك، وجعل النعمان يستعد ويتوقع حتى أتاه كتابه أن أقبل، فإن للملك حاجة إليك. فانطلق حين أتاه كتابه، فحمل سلاحه وما قوى عليه ثم لحق بجبل طي. . .)
وقد روى ما نقلناه مختصرين أبو الفرج في (أغانيه) في أخبار عدي بن زيد ورواه ابن جرير الطبري في (تاريخ الأمم والملوك) خبراً تاريخاً لا ريب عنده فيه. وهذه الأسطورة النعمانية مثل الأسطورة البراقية، أحدوثة أخت البراق القائلة أو المقولة: (ليت للبراق عيناً فترى) القصيدة المثيرة المشهورة
(ن)