الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 536/الأعياد اليومية والأعياد الموسمية

مجلة الرسالة/العدد 536/الأعياد اليومية والأعياد الموسمية

مجلة الرسالة - العدد 536
الأعياد اليومية والأعياد الموسمية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 11 - 10 - 1943


للدكتور زكي مبارك

خطبة سجلها في إذاعة القاهرة لتلقى في إذاعة فلسطين، أما

بقية الكلام فملاحظات كتبت عن أحاديث العيد

أيها السادة:

أقدم إليكم أصدق التحيات، راجياً أن يصل صوتي إلى أسماعكم وأنتم بخير وعافية، وآملاً أن تعيشوا إلى أمثال هذا العيد في رغد وطمأنينة وصفاء

أما بعد فلكل منا أعياد يومية، وأعياد موسمية، فما الفرق بين هذه الأعياد وتلك الأعياد؟

الأعياد الموسمية أعياد شرعها الأنبياء ليوقظوا روح السرور في الناس، عساهم يلتفتون إلى موكب الحياة من حين إلى حين

هل تعرفون السر فيما قضت به الشريعة الإسلامية من جعل الصوم حراماً في يوم العيد؟

كان ذلك لأن الرسول خاف على أمته أن تتنسك تنسك الأموات فلا تفرح ولا تبتهج في أي يوم، ولو كان يوم العيد

هل تعرفون السر في أن يقول القرآن: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)؟ إنه يدعوكم إلى لقاء الله في الصلوات وأنتم في أجمل ما تملكون من الثياب، لتفهموا أن الله يحب أن يراكم في نضارة النعيم لا في قساوة الشقاء

إن الأعياد الموسمية توحي بالسرور الشامل حين تصور الناس وقد احتشدوا للفرح والابتهاج، وحين تدعو كل فرد إلى التجمل، وحين تدعو كل بيت إلى إعداد الأطايب من الطعام والشراب، فمن تلك المظاهر المتجمعة يسري روح المرح في الجماهير، وتشعر النفوس بمعاني البشر والأنس، وتلتفت القلوب إلى حظوظها المنسية في دنيا السعادة والهناء

ولعل زكاة الفطر لم تشرع إلا لهذا الغرض، فالمراد منها أن تثور موجة من البر والإحسان، موجة رحيمة تقضي بأن يجد الفقراء والمساكين ما يغنيهم عن التفكير في هموم العيش تصوروا كيف تكون الحال لو أدى الموسرون جميعاً زكاة الفطر بإخلاص

تصوروا كيف يعم الفرح في مثل هذه الحال، فيفرح الغني بالتوفيق إلى أداء الواجب، ويفرح الفقير بأن يجد جاراً يواسيه باسم الشرع لا باسم الإفضال، فما كانت الزكاة إفضالاً وإنما هي واجب مفروض لا ينتظر صاحبه من الناس أي ثناء

في هذه الحال يكون الفقراء ضيوف الله في أيام العيد، لا ضيوف الموسرين من الجيران، ومع هذا تذيع القالة الجميلة فترتفع أقدار المزكين، وتزيدهم إيماناً بأن المعروف لا يذهب بين الله والناس

ومن مزايا الأعياد الموسمية أنها تذكر بحقوق ودية ينساها الأهل والأقارب في أكثر الأحايين، فما في كل يوم نسأل عن أقربائنا وأصدقائنا، ولا في كل أسبوع ولا في كل شهر أو كل شهرين، ولكننا نشعر بوجوب السؤال عنهم في أيام العيد، لنجازيهم لطفاً بلطف ووفاءً بوفاء

والأعياد الموسمية تقهرنا قهراً على تحية من يئسوا من التحية، لأنهم ذهبوا إلى العالم البعيد، عالم الموت، ولم تبق فرصة لتحيتهم غير فرصة العيد

أتدركون معنى الجمال الروحي في أن يكون أول من نحييهم في ليلة العيد هم الأموات؟

تلك التفاتة معنوية لها قيمة عظيمة، والوفاء الحق هو الوفاء لمن لا يملك الجزاء

أيها السادة:

إن فضائل الأعياد الموسمية أوضح من أن تحتاج إلى شرح، فتفضلوا بسماع كلمة وجيزة عن الأعياد اليومية، الأعياد التي تواجهنا في كل يوم، لو عرفنا كيف نروض النفس على إدراك الخفايا من نعم المنعم الوهاب، وهي نعم تتجدد في كل لحظة، فنحن بها كل يوم في عيد

تشرق الشمس والعافية في بدنك، والزاد في دارك، فيومك يوم عيد

تغرب الشمس وحولك أهلك، والنوم يداعب جفونك، فليلتك ليلة عيد

قد تطوف بك أحزان تثير دموعك وهذا يقع من وقت إلى وقت، ولكنه شاهد على أنك في عيد، فالدموع في عيون الباكين أدوية ربانية تصنع في طب العيون ما يعجز عنه أطباء العيون، والأحزان في صدور المكروبين مراهم روحية تصنع ما يصنع المرهم الواقي في شفاء الجرح البليغ

هل تعرف حكمة الله في الألم؟

إن الألم نعمة نفيسة، فهو بشير العافية، لأنه ينبه إلى المرض، والتنبه للمرض يدعو إلى العلاج وهو باب الشفاء

والآفة الخطيرة هي انعدام الإحساس بالآلام، فإن تألمت فعرف أنك في حيوية، وتذكر حكمة الله في الألم، لتعرف أنك في عيد

الحزن علامة قوة لا علامة ضعف، لأنه يشهد بإدراكنا لقيمة ما نفقد، ولا نكون كذلك إلا ونحن أصحاء، فإن حزنت فاعرف أنك بعافية وأنك في عيد

وكيف تكون العاقبة لو عشنا بلا أحزان وبلا دموع؟

إن الأحزان والدموع كانت ولن تزال من أنصبة الموهوبين والحزن العظيم لا يكون إلا من نصيب الرجل العظيم، ولو كان البكاء عيباً لنزه الله الأنبياء عن البكاء، فلم يبك يعقوب على يوسف ولم يبك محمد على إبراهيم، فإن بكيت فاعلم أنك بخير وأنك في عيد

إن كنت غنياً فتذكر أن الغنى من النعم السوابغ، فأنت كل يوم في عيد

وإن كنت فقيراً، فما عيدك؟ وهل تكون للفقراء أعياد يومية؟

افتح قلبك واسمع هذا الدرس:

الفقراء في كل زمان وفي كل مكان هم عماد المدنية، فبجهودهم تقام الصروح والشوامخ، وبأيدهم تحفر الأنهار، وتزرع الحقول، وتنشأ البساتين، فإن كنت من هؤلاء فمن حقك أن ترى أنك كل يوم في عيد

خزان أسوان من صنع يدك، كما كان برج بابل من صنع يدك، وكما كان سور الصين من صنع يدك، وما قام في الدنيا بناء وأنت غائب، يا فقيراً يعمل ليجد القوت، فأنت بجهادك مصدر العيد لمن ينعمون بالعيد، ولو عقلت لأدركت أنك كل لحظة في عيد

ولنفرض أنك كناس يكنس الشوارع ويملأ عينيه ورئتيه بالتراب في كل يوم، حتى يوم العيد، فهل تعرف نعمة الله عليك؟

تذكر أن الغبار يقذي العيون ولكنه ولا يقذي عينيك، لأن الله يحميك، وتذكر أن الغبار يقد يورث مرض السل، ومع هذا لم نسمع أن كناساً مات بالسل، فما يرضى الله بالمرض لمن يحاربون المرض، كما تحاربه بالمكنسة يا حضرة الكناس، فأنت كل يوم في عيد

أيها السادة

في ظلال هذا الفهم لنعم الله ندرك أننا كل يوم بعافية، وأننا كل يوم في عيد، وأننا مسئولون في كل لحظة عن إعلان السرور بما يجود به المنعم الوهاب

الطفل يطالب أهله بحلة جديدة في العيد، لأنه لا يعرف غير الجديد، فما حاجتنا إلى حلل من القطن أو الصوف أو الحرير ونحن في حلل من العافية للجهاد في سبيل الرزق الحلال

أنا لا أرى الله خص بالشقاء جيلاً من الناس

البصير في نعمة لأنه يرى محاسن الوجود

والضرير في نعمة لأنه لا يرى مساوئ الوجود

والأصم المحروم من لطائف الأنغام صانه الله عن سماع المرذول من الاغتياب

نحن جميعاً في رعاية الله، فنحن كل يوم في عيد

لقد غلا كل شيء في أعوام الحرب، إلا الماء، لأنه أنفس موجود، والله يجود بالنفيس قبل أن يجود بالخسيس، وليس في نعم الله خسيس

أيها السادة

إن الأعياد الموسمية أعياد العوام، أما الأعياد اليومية فهي أعياد الخواص، وأنا أدعوكم إلى التأمل في نعم الله عليكم لتكونوا كل يوم في عيد

نعم الله لا تعرف شعبان ولا رمضان ولا تلتفت إلى المواقيت.

نعم الله تساق مع الأنفاس فليس لها رسوم ولا حدود، والسعادة من نصيب من يؤمن بأن الله منعم ومتفضل في جميع الأحوال

ولكن هذه الغاية لا تبدو بوضوح في كل وقت، لأن قلوبنا معرضة لغشاوات من الجهل والغرض والطمع والإسفاف

نحن نبات ظهر فوق الأرض، وأغصاننا مع هذا أطول من جذورنا، لأننا مجذوبون إلى السماء لا إلى الأرض، فماذا تريد بنا يا فاطر السماء؟

نحن منك وإليك، ولن ننحط في أي حال، فما ينحط من يؤمن بك ولو عاش في ظلمات الأدغال سمعنا وقرأنا أن عندك نعيما وسعيراً، فلمن أعددت نعيمك وسعيرك؟

نحن لا نطالب بأن نكون من أهل رحمتك، فلسنا لذلك بأهل، وإنما نرجو أن تجعلنا من أهل عذابك، لنثق بالصلاحية لأن تضع أعمالنا في الميزان

العيد هو يومنا عندك، ولو في أسوأ الفروض، فمن السعادة أن نقف بين يديك مسئولين

والعيد الأعظم هو أن توقظ ضمائرنا في كل وقت لنعاني ألف حساب قبل يوم الحساب

لا عيد ولا جديد إلا إن رجونا رحمتك وخشينا عذابك، فامنح قلوبنا نعمة الخوف منك والاعتماد عليك لنشعر بأننا كل يوم في عيد

السماء في عيدك، والأرض في عيدك، والشمس في عيدك والقمر في عيدك، والنجوم في عيدك، وأنت العيد لما نجهل من المواجيد، فأنت في غضبك ورضاك عيدٌ وألف عيد، فهل تسمح يا إلهي بأن نكون بفضلك كل يوم في عيد؟

أحاديث العيد

لم نقل مع المتنبي: (عيدٌ بأية حال عدت يا عيد) فقد وصل ونحن بعافية، فلله الحمد وعليه الثناء، أدام الله علينا وعلى قرائنا نعمة الشعور بكرمه الموصول

1 - في يوم العيد وصل خطاب من الأستاذ حافظ محمود يقول فيه إن هجوم السيد حسن القاياتي مدسوس عليه، وأنه لم يخط بقلمه حرفا مما دار حوله الجدال في الأسابيع الماضية، ويدعوني إلى كتابة كلمة ترضية يطيب بها قلب ذلك الصديق

وأقول إن المعلومات التي تضمنتها الخطابات المنشورة باسم الأستاذ القاياتي معلومات مريبة لأنها متصلة بشؤون لا يعرفها سواه، فإن لم يكن هو الكاتب فلن ينكر أنه مصدر المكتوب، وبهذا يقع عليه شيء من المسئولية

ثم أقول إنه كان يستطيع تكذيب ما نشر باسمه لأول مرة فينحسم الخلاف قبل أن يطول، ولكنه سكت نحو خمسة أسابيع، ثم بدأ في التشكي من العدوان عليه، وهذا من أغرب ما يقع في معاملات الناس

وأنا مع هذا أعتذر للصديق عما بدر مني في مساجلته، وأعلن أني أعتز بصداقته كل الاعتزاز، وأني لن أسمع فيه كلاما ولو نشر بنفسه في مغاضبتي ألف خطاب

وهنا أذكر مذهبي في معاملة رجال الأدب ورجال السياسة، وهو مذهب يستحق التنويه ويصلح للاقتداء، فما ذلك المذهب؟

خلاصة هذا المذهب أني لا أتكلم عن أهل الأدب والسياسة بما يشبه النقد في أي مجلس، لأن الكلام عرضة للتزيد والتحريف، وإنما أكتفي بما يخطه قلمي في الجرائد والمجلات، إن طاب لي أن أناوش أحد الرجال

وأذكر أيضاً أني أعيش في عزلة بعد الرجوع من عملي إلى بيتي، فما يحتاج إلى غشيان الأندية غير من يعيشون بمنجاة من متاعب الواجبات، وأنا أحمد الله الذي تفضل فأكثر من أعبائي في حياتي، بحيث لا أجد فرصة لمسامرة المعارف والأصدقاء، فمن زعم أنه رآني وأني حدثته عن فلان أو علان بيكيت أوكيت فهو من الكاذبين

2 - من عادتي أن أزور قصر جلالة الملك في يوم العيد لأتشرف بتقييد اسمي، ولأرى من كبار الرجال من لا يتسع الوقت لرؤيتهم في غير ذلك الجناب

وقد تأخرت قليلا في هذه المرة فلم أصادف غير الدكتور هيكل باشا والأستاذ فؤاد باشا سراج الدين، مع حفظ الحق لبقية من رأيت هنالك من رجال الأدب والبيان

وضاعت الفرصة في لقاء النقراشي باشا، ولو رأيته لاعتذرت عن ضياع حظي من زيارة داره في رمضان، مع أنه من جيراني بمصر الجديدة، ومع أن زواره يتزودون بأكرم زاد من أطايب الأحاديث، بفضل المجلس الذي ينعقد بداره في أمسية رمضان، كما كان الحال في أكثر البيوت قبل الزمن الجديد، زمن السهر في الأندية والقهوات

3 - كان يجب أن أزور أهلي وأقربائي في سنتريس، ولكني رجعت غضبان، غضبان من شؤون لا تغضب إلا من يكون في مثل حالي من حب البر وبغض العقوق

وقضى الزحام باليأس من الظفر بمكان في إحدى السيارات، فتفضل صديق بتوصيلي إلى القناطر الخيرية لأركب القطار من هناك، ولكن القطار تحرك قبل وصولي بدقائق، ولا بد من الانتظار نحو ثلاث ساعات، فماذا أصنع؟

وقفت على قنطرة الرياح التوفيقي مع الواقفين وهم عشرات أو مئات في انتظار السيارات، فماذا أصنع؟

فكرت في مروءة أصحاب السيارات الخصوصية، وقد يكون فيهم من يعرفني، فكنت أقول كلما مرت سيارة خصوصية: (خذوني معكم) ولكن أين من يسمع؟ واستمعت سيارة لندائي، وبدت منها يد لطيفة كأنها الغرام في ليلة عيد، فمضيت وركبت وأنا لا أصدق أنني وصلت!

ولكن أين صاحب السيارة؟

لقد نزل للبحث عني، ثم تاه في غمار تلك الخلائق، فهتفت صاحبة المعصم تعال تعال فالدكتور وصل!

وبعد التحيات المعروفة في مثل هذه الظروف مضت السيارة وأنا لا ألتفت إلى الوجه الذي يشع نوره بمثل ما تشع الشمس عند الأصيل، وهل يليق بي أن ألتفت إلى وجه سيدة قد تكون زوجة هذا الرفيق؟

- حيها يا دكتور بكلمة

- ومن أحي؟

- هذه نور

- أي نور؟

- نور الهدى بطلة (فلم جوهرة)

وألتفت فإذا فتاة لطيفة في لون الصهباء، لم يشعشع وجهها بطلاء، فعرفت كيف كان العرب يصفون المرأة الجميلة بأنها صفراء

هل رأيتم جمال الاصفرار في حيوية اللون؟

ودار الحديث حول التمثيل والممثلين فقلت: إحرصي يا بنيتي على الانتفاع بعبقرية الأستاذ يوسف وهبي، فهو أعظم فنان في هذا الزمان

قال صاحب السيارة: أهذا رأيك في الأستاذ يوسف وهبي؟

قلت: هو رأيي

قال: وتسمح بتدوينه في مجلة الرسالة؟

قلت: وفي جميع المجلات، وسأخصك بحديث

قال: أرجوك أن تغفل اسمي، لأسباب لا أملك عرضها عليك وصلنا إلى القاهرة لنفترق، ولأبحث عن الأسباب التي توجب أن أغفل اسم ذلك الصديق، فما تلك الأسباب؟

كانت هنالك وليمة عيدية في (عزبة الصباح)، وكان في الوليمة فنانون وفنانات، وكانت (نور الهدى) في العودة من نصيب سيارة هذا الرفيق

وعرفت بعد لأي أن مجلة الرسالة أثيرة عند زوجة صاحب السيارة، وأنها قد تغضب عليه إن عرفت من حديثي بمجلة الرسالة أنه رأى (نور الهدى) في يوم عيد

سأكتم اسمك يا صديقي، لئلا تثور زوجتك، فلن أقول أنك صاحب جريدة يومية، ولن أقول أنك كاتب من الطراز الأول، ولن أقول إنك المثال في هندمة الأسلوب، والأساليب تهندم كما تهندم الثياب

إن زوجتك لن تعرفك من حديثي، لأني أكره النميمة، فنم بعافية، وإن ارتابت زوجتك في بشاشة وجهك فحدثها أنك طوفت بسيارتك في شوارع (مصر الجديدة) يوم العيد

إن التلاميذ يخفون عن آبائهم خطابات نظار المدارس، فأخف عن زوجتك هذا العدد من مجلة الرسالة، وقل أنه ضاع في البريد، بسبب ازدحام الرسائل في أيام العيد، أحياكم الله إلى ألف عيد!

زكي مبارك