مجلة الرسالة/العدد 533/عمر بن الفارض
→ المشكلات | مجلة الرسالة - العدد 533 عمر بن الفارض [[مؤلف:|]] |
الإسلام والفنون الجميلة ← |
بتاريخ: 20 - 09 - 1943 |
للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني
صفحة ناصعة من تاريخ الأدب العربي. صفحة ذات معان ومزايا متنوعة يقف السامع بازائها حائراً مبهوتاً كأنه يتسمع إلى ألحان من الموسيقى الإلهية، بل نغم ينبعث من أجواء علوية، كأنه الإلهام الذي يستولي على الدماغ ويمتزج بالفكر فيكون سحراً. تلك هي حال القليلين الذين يضن الدهر ولتاريخ علينا بهم لأنهم مثلوا عصوره. بهم تفيض علينا معاني النبوغ والعبقرية تلك المعجزة الإلهية؛ وهذا شأن العظمة التي يخلقها العظيم فيعظم عصره؛ وهكذا تنطوي عندئذ صفحة من صفحات التاريخ وسفر جليل من السفارة يكون رمزاً للحياة الماضية والحاضرة. وهذا ابن الفارض الشاعر الرقيق المفتون بالعزة الإلهية بشعره، العابد للجمال الرباني بمنظومه، فهو شاعر العاطفة الذي يثير ما في القلب من الأحزان والمآسي التي طبعتها صروف الأيام. يريك ابن الفارض ألواناً من شعره تلذ لك فتبحث عن الرقة والخيال وكل ما هو جميل في الكون من المبهجات. هو الشاعر المبدع الفيلسوف في وصف الحب والجمال. وهل من شيء سواهما أعز لدى المرء في الحياة الدنيا؟ لا أظن شاعراً من الشعراء المتأخرين ممن سلك مسلك ابن الفارض في شرح معنى الحب والجمال وما يجلبان على المرء من سوء المصير إذا ما عسر عليه وجدانهما أو فقد أحدهما. فهو الذي افتن في وصف الحبيب والحنين إليه إذا ما غاب، وفي وصف آلام المحب إذا ابتلى، وفي خضوع الإنسان للجمال جمال الحبيب الذي يخلب اللب ويذيب الأحشاء. كل هذه الأوصاف تعمق ابن الفارض في تحليلها وسبكها في قوالب شعرية يعجز القلم عن نعتها. وهانحن أولاء نأتي باليسير منها لضيق المقام. أما مختصر ترجمة فهو الإمام العارف بالله الشيخ أبو حفص أبو القاسم عمر ابن أبى الحسن ابن المرشد بن علي الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة، المعروف بابن الفارض. ومعنى الفارض أنه يكتب الفروض للنساء على الرجال، كما جاء في كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان. كانت ولادته بالقاهرة في الرابع من ذي القعدة من سنة 576هـ في عهد صلاح الدين الأيوبي، وله ديوان شعر لطيف وأسلوبه فيه طريف ظريف؛ وقد أبدع وأجاد بالمعاني والعبارات الرقيقة، وشع بشعره في الأفكار كالشمس في رائعة النهار، وكان رجلاً صالحاً كثير الخي على قدم التجريد، وجاور مكة الشرفة زماناً، وكان رجلاً حسن الصحبة محمودة العشرة. وقد قيل عنه إنه ينظم الشعر أحياناً في النوم ومنه هذان البيتان:
وحياة أشواقي إلي ... ك وتربة الصبر الجميل
ما استحسنت عيني سوا ... ك ولا صبوت إلى خليل
وهو من أهل الطريقة الرامزة وهي طريقة العرفان بالله ولهذا كني بالعارف بالله
وممن وصفه الكاتب المبدع المرحوم جبران خليل جبران بقوله: (وكانت روحه الظمآنة (كذا) تشرب من خمرة الروح فتسكر ثم تهيم سابحة مرفرفة في عالم المحسوسات حيث تطوف أحلام الشعراء وميول العشاق وأماني المتصوفين. ثم يفاجئها الصحو فتعود إلى عالم المرئيات لتدون ما رأته وسمعته بلغة جميلة مؤثرة). ثم يقول أيضاً: (إذا نظرنا إلى فنه المجرد وما وراء ذلك الفن من المظاهر النفسية وجدناه كاهنا في هيكل الفكر المطلق أميراً في دولة الخيال الوسيع قائداً في جيش المتصوفين العظيم ذلك الجيش السائر بعزم بطيء نحو مدينة الحق. ثم يقول أخيراً كان يغمض عينيه عن الدنيا ليرى ما وراءها، ويغلق أذنيه عن ضجة الأرض ليسمع أغاني اللانهاية. هذا هو الفارض، روح نقية كأشعة الشمس وقلب متقد كالنار، وفكرة صافية كبحيرة بين الجبال، وفي شعره ما لم يحلم به الأولون ولم يبلغه المتأخرون) 1هـ. وتوفي بالقاهرة يوم الثلاثاء الثاني من جماد الأولى سنة 632هـ. ودفن في الغد حسب وصيته بالقرافة في سفح المقطم تحت المسجد المعروف بالفارض. وقد قال ابن بنته الشيخ
علي في ذكره:
جز بالقرافة تحت ذيل العارض ... وقل السلام عليك يا ابن الفارض
أبرزت في نظم السلوك عجائباً ... وكشفت عن سر مصون غامض
وشربت من بحر المحبة والولا ... فرويت من بحر محيط فائض
وقال أبو الحسن الجزار:
لم يبق صيّب مزنة إلا وقد ... وجبت عليه زيارة ابن الفارض
لا غرو أن يسقي ثراه وقبره ... باق ليوم العرض تحت العارض
أما ديوان شعره فيحتوي على مقطوعات وقصائد منها الموجزة والمطولة، متينة النظم دقيقة الحس رقيقة الشعور. وقد طبع ديوانه مرات وشرحه في جزأين رشيد بن غالب معتمداً على شرحي الشيخ حسن البوريني والعلامة الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي الصوفي. وبهامش الشرح كشف الوجوه الغر، لمعاني نظم الدر، وهو شرح تائية ابن الفارض الكبرى المشتهرة بنظم السلوك ومطلعها:
سقتني حميا الحب راحة مقلتي ... وكأسي محيا من عن الحسن جلت
ومنها أيضاً:
وكل الليالي ليلة القدر إن دنت ... كما كل أيام اللقا يوم جمعة
وعدد أبيات هذه القصيدة سبعمائة واثنان وستون بيتاً وتشغل جزءاً كبيراً من الديوان. ومطلع شرح الديوان: (الحمد لله الذي بفضله الفارض عمر بيوت الأدب، وحسن للطبع شرح معان فيها بلوغ الأدب. . . الخ). ويقول المؤلف في آخر الكتاب نقلاً عن شرح الشيخ عبد الغني النابلسي: (كان الفراغ منه عشية يوم الإثنين التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف من الهجرة). وقال مورخاً لتمام هذا الشرح.
ولابن الفارض الديوان لما ... حكى عقداً نظيماً جوهريا
عنيت بشرحه هذا إلى أن ... تكامل أرخوه الفارضيا
وطبع الكتاب بالمطبعة الخيرية بمصر سنة 1310هـ. بعناية مصححة محمد الأسيوطي. أما منظوماته التي يفتتح بها ديوانه، وتدل على صناعة شعرية فائقة. فهذا مطلعها:
سائق الأظعان يطوي البيد طي ... منعما عرج على كثبان طي
وبذات الشيح عني إن مرر ... ت بحي من عريب الجزع حي
وتلطف واجر ذكرى عندهم ... علهم إن ينظروا عطفاً علي
ومنها:
هل سمعتم أو رأيتم أسداً ... صاده لحظ مهاة أو ظُبي
ومنها أيضاً:
أي ليالي الوصل هل من عودة ... ومن التعليل قول الصب أي
وبأي الطرق أرجو رجعها ... ربما أقضي ما أدري بأي
ذهب العمر ضياعا وانقضى ... باطلاً إذ لم أفز منكم بشيء وهي طويلة. ولنأت الآن إلى مطلع قصيدة أخرى:
أرج النسيم سرى من الزوراء ... سحراً فأحيا ميت الأحياء
أهدى لنا أرواح نجد عرفه ... فالجو منه معنبر الأرجاء
وكذلك قصيدته التي يتغزل فيها بأراضي نجد لأنها موطن ليلاه فيقول:
أوميض برق بالأبيرق لاحا ... أم في ربى نجد أرى مصباحا؟
أم تلك ليلى العامرية أقبلت ... ليلاً فصيرت المساء صباحا
أما قصيدته في تحليل الحب وتعريفه فهي أشهر من نار على علم، وهي مضرب الأمثال. وهذا مطلعها:
هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل ... فما اختاره مضني به وله عقل
وعش خالياً فالحب راحته عناً ... وأوله سقم وآخره قتل
ومنها:
فإن شئت أن تحيا سعيداً فمت به ... شهيداً وإلا فالغرام له أهل
أما الخمرة فهو يصفها وصفاً نادراً، وهو لم يذقها على رأيي ورأي الكثيرين. فتراه يصفها أبدع مما وصف الحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس. ومن ذلك قصيدته التي مطلعها:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
لها البدر كأس وهي شمس يديرها ... هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم
ولولا شذاها ما اهتديت لحانها ... ولولا سناها ما تصورها الوهم
ثم يقول:
يقولون لي صفها فأنت بوصفها ... خبير أجل عندي بأوصافها علم
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ... ونور ولا نار وروح ولا جسم
وللشيخ علي سبط الناظم قصيدة مطولة نظمها تكملة لستة أبيات من نظم ابن الفارض. مطلعها:
نشرت في موكب العشاق أعلامي ... وكان قبلي يلي في الحب أعلامي
وسرت فيه ولم أبرح بدولته ... حتى وجدت ملوك العشق خدامي
وللسبط أيضاً قصيدة أخرى مطلعها: أبرق بدا من جانب الغور لامع ... أم ارتفعت عن وجه ليلى البراقع
ولما تجلت للقلوب تزاحمت ... على حسنها للعاشقين مطامع
لطلعتها تعنو البدور ووجهها ... له تسجد الأقمار وهي طوالع
هذا هو ابن الفارض ذو الشعر الرقيق الفائق، وشاعر الحب والجمال الروحانيين. هذا هو المزين لعرش الحب العاقد أكاليل الجمال على رءوس الحواري والحسان في خيال الجنان. هذا هو المعزي لأصحاب القلوب الدامية الهائمة في بيد الطبيعة الجميلة. هذا هو المكفكف لدموع البائسات المخفقات في نيل عذوبة الحب الذي هو رمز الحياة والطبيعة، يسود القلوب ويتحكم في الأنفس الرفيعة. ليكن لنا ابن الفارض عبرة الدهر في ميدان الرقة والعطف. وليكن ابن الفارض صورة للحياة الجميلة التي نستعذبها ونستذيقها أبد العيش. فليطب هانئاً في مثواه ومرقده. ولينم نومه الهادئ العميق؛ فلن يصغي إلى أنين العاشقين، ولن يسمع زفير المتيمين
يوسف يعقوب مسكوني