مجلة الرسالة/العدد 533/الإسلام والفنون الجميلة
→ عمر بن الفارض | مجلة الرسالة - العدد 533 الإسلام والفنون الجميلة [[مؤلف:|]] |
من آثار العراق ← |
بتاريخ: 20 - 09 - 1943 |
1 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
يمتاز الإسلام بأنه أوجد لنفسه بنفسه فناً جميلاً كيفه بمبادئه، وبث فيه روحه، وغذاه بتعاليمه حتى استقام عوده، ونضجت شخصيته، وتجلت للعيان مميزاته. ولا شك أنه لبيان هذه الميزة ينبغي أن نقارن بين الإسلام وبين ما سبقه من الأديان من حيث موقف كل منها من الفنون الجميلة ثم نعقب على ذلك ببيان الطرق التي أتيح بها للإسلام أن يخلق فناً جميلاً إن اتفق مع الفنون السابقة عليه في بعض العناصر الزخرفية فقد اختلف عنها أشد الاختلاف في المبادئ الأساسية والاتجاهات التي سار فيها
فإذا عدنا إلى الوراء آلاف السنين لنشهد الإنسان وهو يتقلب في أطوار حياته المختلفة على ظهر البسيطة لوجدناه يكافح الوحوش ليعيش، ويحاربها ليوجد لنفسه بينها مكاناً أمينا يطمئن فيه على حياته، ولرأيناه ما كاد يلقي سلاحه، ويفرغ لنفسه بعض الشيء بعد هذا الجهاد المضني، ويأوي إلى كهفه ليستريح ويستقر به المقام في هذا المسكن الجديد، ويرضي فيه حاجات جسمه من مأكل ومشرب وملبس حتى يقوم إلى جدران هذا الكهف يزخرفها وإلى آلات صيده يجملها ويزينها
ولسنا هنا بصدد الفصل في سبب اشتغاله بهذه الفنون الجميلة، فليكن الدافع إليها فيض النشاط الحيوي فيه، أو لتكن الغريزة هي التي أوحت إليه أن يحاكي بالرسم ما يراه في محيطه، أو ليكن اعتقاده في أن رسم الحيوان يقيده أو تكرار رسمه يكثره، أو رسمه وقد اخترق السم أحشائه يجعل صيده هيناً سهلاً عليه وهو الذي حمله على هذا العمل، أو لتكن هذه العوامل مجتمعة هي التي جعلته يشتغل بهذه الفنون فلن يغير هذا من الحقيقة شيئاً: ذلك أن الإنسان قد عرف الفنون الجميلة قبل التاريخ واستخدمها في حياته. لقد وجد نفسه ضعيفاً أمام قوى الطبيعة: أمام قوى تعمل من وراء ستار، رأى براكين ثائرة يتطاير منها الحمم فتصيبه في نفسه وفي ماله، وسمع رعوداً صاخبة تكاد تصم بزمجرتها أذنيه، وأحس برياح عاصفة تدفع به أمامها، وتلقي في طريقه بأعظم الأشجار وأضخمها، ولمح بروقاً خاطفة ترسل إليه بضوئها فتملؤه خوفاً ورعباً. هذه المظاهر المختلفة التي لا يعلم سرها جعلته يعتقد بوجود قوى عظيمة تأثر في كيانه دون أن يراها. لذلك فكر في استرضائه على قدر ما سمح له به عقله المحدود فلجأ إلى الفن الجميل يستعين به على بلوغ مأربه فنحت التماثيل، وأقام الأنصاب ورسم الصور
وإذا كانت الفنون الجميلة من نحت وتصوير ونقش قد خدمت الإنسان قبل التاريخ في ديانته الساذجة البسيطة فقد خدمته أيضاً في العصور التاريخية، عندما تعقدت الأمور الدينية بعض التعقيد
فلقد اعتقد المصري القديم بعودة الروح بعد موت الجسم، ورأى لزاما عليه أن يحفظ ذلك الجسم، وأن يضعه بعد موته في محيط يشبه محيطه في الحياة الدنيا، حتى تطمئن الروح وتأنس بجسمها إذا ما عادت إليه، فاستعان بالفن الجميل على تحقيق هذه العقيدة، فزينت جدران القبور بنقوش تمثل حياة الميت، ونحتت له تماثيل تمثله في حياته لتحل فيها الروح إذا ما انحل الجسم أو أصابه عطب، وأودعت هذه التماثيل القبور مع الجثة، كما وضع معها أيضاً ما كان يستعمله الميت في حياته، وروعي في تشييد المدافن أن تكون منيعة لتحول بين هذه الأشياء وبين عبث العابثين؛ ولتظل كذلك في حرز أمين. وإذا كانت عقيدة البعث قد استفادت من فنون النقش والتصوير، فالدين المصري القديم بإلهته المختلفة ومعابده الكثيرة قد انتفع بهذه الفنون أيضاً إلى أبعد حد، فنحتت التماثيل العظيمة للآلهة، ونمقت جدران المعابد بالزخارف الرائعة، وطليت بالألوان الزاهية الجميلة
ولم يختلف الحال في بلاد اليونان القديمة عنه في مصر الفرعونية، إذ نجد أن الديانة اليونانية قد استعانت بفنون النحت والنقش والتصوير على إبراز فكرتها وتجسيم عقائدها، إذ ابتدعوا لأنفسهم آلهة تشرف على شئونهم، وترمز إلى مثلهم العليا، وتخيلوا هذه الآلهة على صورة الإنسان وأفرغوا جهدهم في نحت تماثيل لها كانت أجمل وأروع ما أخرجته يد البشر، خلدت ذكر اليونان على صفحة الزمن ونقشت أسماء آلهتهم في سجل القدر
وما كانت أمم الشرق القديمة من بابليين وأشوريين وحيثيين وغيرهم لتشذ عن مصر واليونان في هذا السبيل، بل استخدمت هي الأخرى الفن الجميل في عبادتها الوثنية
واليهودية أول دين سماوي نادى بالوحدانية، جاء والوثنية هي الدين الشائع بين أمم الأرض جميعاً، والفنون الجميلة من حفر ونقش وتصوير ونحت هي عماد هذا الدين وقوامه، فلكي يخرج الناس من ظلام الوثنية إلى نور الوحدانية كان من الضروري أن يحول بينهم وبين هذه الفنون. وتشددت اليهودية في هذه الحيلولة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً فحرمتها تحريماً صريحاً إذ جاء في التوراة في الأصحاح العشرين من سفر الخروج: (لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تبعدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور) وقد قضى هذا النص على الفنون الجميلة عند اليهود قضاء مبرماً فلم تستخدمها كغيرها من الأديان التي سبقتها ولم تحاول أن تجندها لخدمتها. وإذا كانت الحضارة اليهودية قد بلغت أوجها في عهد داود وسليمان فتقدمت الصناعة ونهضت التجارة وازدانت فلسطين بما شيد في ذلك العهد من قصور ومعابد (ومحاريب وتماثيل وجفان كالجواب) أشار إليها القرآن الكريم في سورتي النمل وسبأ، كما أشارت إليها أيضاً كتب التاريخ، فقد استعان اليهود في ذلك بالأجانب من مصريين وفينقيين وآشوريين
على أن اليهود لم تنتشر، وبقيت الوثنية دين الكثرة من سكان العالم، وتأثر الرومان في ديانتهم الوثنية باليونان، وكما خدمت الفنون الجميلة الدين اليوناني القديم، كذلك خدمت الدين الروماني
وظهر الدين المسيحي، واعتنق المسيحية كثير من بني إسرائيل ثم انتشرت في الإمبراطورية الرومانية بسرعة عظيمة بسبب نضوج الفكر الإنساني، وعدم ارتياحه إلى طقوس العبادة الوثنية. وقد قامت المسيحية تدعو إلى ترك الدنيا والتجرد منها والانقطاع إلى الآخرة والإقبال عليها. ولعل خير ما يترجم عن دعوتها هذه قول السيد المسيح في الإصحاح السادس من إنجيل متي (لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال، لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون.) ومثل هذه المبادئ ليس فيها ما يشجع على ازدهار الفنون الجميلة لأنها تنكر جمال هذه الدنيا وتطالب بكبت ما في الإنسان من ميول وغرائز، ولذلك لم تبتدع المسيحية فن جميلاً بل انتفعت بالفن القائم بين يديها، وما الفن المسيحي المعروف إلا فن وثني لبس رداء المسيحية، فهو فن مسيحي فقط باعتبار ما يؤديه من خدمات للدين المسيحي أو للمسيحيين لا باعتبار أنه يعبر عن فلسفة هذا الدين لأن فلسفة هذا الدين - كما رأينا - قوامها الزهد والتقشف وكلاهما والفن الجميل على طرفي نقيض.
(يتبع)
محمد عبد العزيز مرزوق
الأمين المساعد بدار الآثار العربية