الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 530/مسرحية إخناتون

مجلة الرسالة/العدد 530/مسرحية إخناتون

بتاريخ: 30 - 08 - 1943


تأليف الأستاذ علي أحمد باكثير

للأستاذ لبيب السعيد

الأستاذ علي أحمد باكثير شاب حضرمي طوف في الشرق ما طوف، ثم استقر في مصر يخدم الأدب والعلم. وقد بلوناه حيناً شاعراً له طابعه. وها نحن أولاء نرى فيه كاتباً تمثيلياً وقصاصاً يبشر إنتاجه بأن سيكون له في المستقبل الداني شأن أي شأن.

ترينا هذه المسرحية إخناتون أميراً شاعري الروح، قضت زوجته (تادو) فكان حزنه عليها فوق الصبر، داعياً للإلحاد والكفر، ثم انثنى يتنكر لكل شيء، ويدرس الديانات والفلسفات مما أخاف كهنة آمون على سلطانهم أن يزول حين يؤتى الأمير الملك

وتزوجه أمه من (نفرتيتي) موهمة إياه أنها (تادو) عادت إليها الحياة، ويصدق هو ذلك لاعتقاده بإمكانه، ويسعد بالزوجة الجديدة التي نسخ الحب فيها روح (تادو)، ثم يضحي الأمير من بعد ملكا رسولاً. ولكن الرسالة التي فهم أن من مبادئها السلام تجني على الملك الذي يقتضي الحرب، فتنبعث الفتنة في كل مكان، ويكيد الكهان لإخناتون، ويمضي هو مع ذلك في إخلاصه للسلم والحب، فإذا فشل أخيراً وآده اليأس ألحد في ربه، ثم يدرك وشيكا أن التسامي الشعري غير الواقعية، وأن لا مناص من السيف وحطم الظلم بالعدل. ويثوب إليه إيمانه وهو يحتضر

تومئ هذه المسرحية في ثناياها إلى أن الجمال الباهر والحزن العميق يستطيعان أن يدقا الشعور ويهيئا النفس لتلقي الرسالات

ومن حسناتها اللامعة التفاتها الخاص إلى السيكولوجية: ومن مصاديق ذلك غيرة (نفرتيتي) من مجرد ذكرى ضرتها الميتة، وأحزان (مي) أم إخناتون على زوجها بعد مماته، وحنينها المؤثر إلى أيامه، وغيرتها من كنتها، وتغير إحساسها نحوها، وموازنتها بين طاعة ابنها الذي يشفق على قلبها وطاعة زوجها الفقيد طاعة الحب العمياء، وفزع الكاهن (سادو) من ذكر الثعابين حتى ليكاد من جبنه يحس دبيب الحية في عنقه. هذه وغيرها صور وحالات استمدت جمالها وقوتها من اعتمادها على السيكولوجية

ومن أبرع وألذ ما حوت المسرحية ذكريات الأمير عن (تادو) بعد فجيعته فيها، ما ك أمضها ذكريات! ولكن ما كان أعذبها!

ومما يظفر أيضاً من القارئ برضاه واهتمامه شخصية (أمنوفيس) أبي إخناتون، وما كان فيه من مجانة وطرب، وفلسفته الظريفة في تذوق الملاحة النسائية، وتخريجه الساخر لمعنى الوفاء للمرأة، ثم ما كان في حياة أخناتون مع زوجته (نفرتيتي) من تعاطف رائع وأنس وسعادة، ثم سذاجة (تاي) المربية المسرفة في إعجابها بزوجها، والتي تحزن لمرض (أخناتون) الأخير. ولكنها لا تتمالك إذ تراه بطالع اللانهاية في عيني نفرتيتي، أن تقول: آه. . . يا ليت (آي) يطالع في عيني شيئاً! وكذلك شجاعة القائد (حور محب) وإخلاصه، وبلاهة (سمنتارا) وحقارته!

ونزعة المؤلف في الأسلوب تظهر في المسرحية إذ تقرر أن الديانات قد يعوزها أن تحمي نفسها بالسيف، وإن الركون إلى السلام مفض لا ريب لفقد الممالك وسقوط الدين معاً

ورأي المؤلف في التناسخ طريف وجميل وليس فيه ما يتحرج منه

وبعد، فأود أن أصارح صديقي المؤلف أنه كان أولى به أن يدع الأمير (إخناتون) يحدثنا بنفسه عن الآلام التي كان يصطخب بها قلبه في أعماقه بدل أن يحدثنا بها كبير الكهنة

حقاً لقد راقب كبير الكهنة الأمير من بعيد قرابة شهر بحيث يراه ولا يدري مكانه، فهو يتحدث عنه على ضوء ما شاهد؛ ولكن هذه المراقبة إن كفلت له الحديث الصادق عن مظاهر أحزان الأمير، فليست بكافلة له أيضاً الحديث المسموع عن حشاشته التي تسيل زفرات، وصبره الصامت الذي يكبت من حزنه الصارخ، ونسيانه يومه وحنينه إلى أمسه الماضي وتفكيره في غده الآتي ووراء غده، وعن هفو أضالعه. . . الخ

وأنا بعد أفهم أن الرسول هو بطبيعته وطوال حياته آخر من تعصف المصائب بإيمانهم، ولكن إخناتون الذي تدور المسرحية على كونه رسولاً، يسرف في الكفر: يكفر عند موت زوجته الأولى كفراً هائلاً، ثم يؤمن حتى يسعد بزوجته الجديدة، ثم يضطلع برسالته مخلصاً مطمئناً، فإذا أحس الفشل عاد كافراً يتشكك، ثم تخر صاعقة بقرب القصر فيزداد كفراً، وينسى رسالته في صميمها، فإذا استمع إلى كلام (حور محب) الذي يحاوره في براعة ولطف عاد مؤمناً، فاستغفر لذنبه، وذكر أنعم ربه. . .

وأشخاص الرواية هم إخناتون وأهله ورجال القصر والكهنة فأين ابن الوطن؟ أين هو يسمعنا آراءه تلقاء الدعوة الجديدة، ويرينا موقفه إزاء جهاد الرسول وكفاح الكهنة؟

بقى أن أقول إن الذوق العربي لا يستطيع غالباً أن يسيغ (النظم المرسل المنطلق) المصوغة فيه المسرحية لأنه لم يألفه. والذي أعتقده أن ما عمد إليه المؤلف من إرسال القافية في أغلب المسرحية وعدم المساواة في العدد بين تفعيلات الأبيات إخلال بالخواص الجوهرية للشعر العربي لا يحسن اللجوء إليه. والظن أن طريقة كتابة هذه المسرحية وهي على نسق طريقة شكسبير تحمل القارئ على بذل جهد خاص في القراءة كلما حرص على تفهم المعنى واستساغة النغم الشعري. وعندي أنه لو كتبت المسرحية كالنثر، بحيث تتصل الجمل دائماً حتى يستوفي المعنى، وبحيث تستعمل علامات الترقيم أدق وأوفى استعمال لكان ذلك أدنى ألا يجهد القارئ في الاستمتاع بما في الرواية من بيان ومعان

على أن الإنصاف يقتضينا أن ننوه بالمقدرة الممتازة التي أتاحت للمؤلف صوغ مسرحيته كلها من بحر واحد، فإن القارئ للمسرحيات الشعرية العربية التي سبقت (إخناتون) كان ينتقل فجأة من بحر إلى بحر؛ فكان ذلك قاطعاً للذته ومزعجاً لخاطره

ذلك ولأخي المؤلف الناجح شكر مصر القادرة وفاءه وشكر الأدب الذي ينوط به آمالاً كباراً

(المنصورة)

لبيب السعيد