مجلة الرسالة/العدد 530/عندما رأيت الله جهرة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 530 عندما رأيت الله جهرة [[مؤلف:|]] |
الحديث ذو شجون ← |
بتاريخ: 30 - 08 - 1943 |
للأستاذ دريني خشبة
تحدث إلى أحد أصدقائي قال:
كانت أربعون ليلة من ليالي سيناء فد مرت على قلبي المضطرب الممزق وأنا لا أنفك أحملق في ذلك الشبح المفزع. . . شبح ملك الموت عليه السلام! إذ هو يلم بالحجرة الرهيبة التي كنت أحبس فيها نفسي لأمرض أعز المخلوقات علي وأحب الناس إلى قلبي؛ وذلك أن الطبيب المعالج لم يأمن أحداً غيري على رعاية أوامره وتنفيذ إرشاداته، فانفردت بالمهمة دون إخوتي، واضطلعت بها وحدي، وإن كانت إحدى أخواتي تريحني ساعة من نهار فكنت أقضيها نائماً ذلك النوم المشرد الممتلئ بالأحلام
وكنت دائم الصلاة لله أن ينقذ والدتي، وكنت أدهش أحياناً كيف لا يجيب دعائي. . . وكنت أعتب عليه، استغفره وأتوب إليه، كيف يقضي على هذا اللسان الذي طالما لهج بذكره، وقدس له، وحمده وأثنى عليه، بهذا الصمت الطويل المؤلم الذي كان يحاول أن يتشقق عنه كي يكلمنا، فما يستطيع غير الإيماءة النحيلة يوزعها علينا في جهد وفي عناء. . . الإيماءة التي تسبح في فيض من الدمع، وهي مع ذاك تبتسم لتخفف ما يعصف بأفئدتنا من وجد، وتهون علينا ما يذيبنا من تبريح
أجل. لا أخفي عليك يا صديقي أنني كنت أشتد في مناشدة الله الذي أستغفره وأتوب إليه؛ كيف يرضى بأن ينعقد هذا اللسان الذي طالما ترطب بذكره والتسبيح له، والذي قضى خمسين عاماً يؤدي الصلوات الخمس كأحسن ما يؤديها نبي، وكأحسن ما يقوم بها صديق؛ وهو مع ذاك يؤدي النوافل على اختلاف أنواعها، ويردد الأدعية والأوراد، ويتهجد ويعتكف ويصوم رمضان وغير رمضان، ويعف فلا ينطق بهجر، ويتورع فلا يتحرك بأذى، ويدعو لنا ولجميع الناس بالخير، ويرتل آي الذكر الحكيم أناء الليل وأطراف النهار. . . فكيف يصمت هذا اللسان الرحيم الكريم، وكيف يغلبه ذاك الشلل الخبيث فينوء بالكلمة الواحدة ويعجز عن لا ونعم، ومن حوله أحباؤه الأعزاء عليه يكلمونه فلا يكلمهم، ويحاول أن يودعهم بكلمة واحدة فلا يستطيع إلى تلك الكلمة الواحدة من سبيل، وأنا مع ذاك أدعو الله وأتوسل إليه بماضي هذا اللسان أن يفك عقاله، وأن يحسن حاله، ثم يخش يشبه الليل البهيم، والأشجان فتشيع ببرودة القبور في عروقي!
عجيب والله هذا الموقف من الأبالسة التي وقفت تترصد فؤادي، وتغري بالموبقات روحي، وتداعب إيماني فتهزه ذلك الهز العنيف القاسي!
ألم تعد في السموات رحمة؟ أهكذا تكون خاتمة ذاك اللسان الرطب الكريم؟ وأين إذن قدرة الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؟ وماذا وراء هذا الوجود الذي يكظ ويزحم السموات، ويملأ الدنيا والآخرة بما نعجز عن تعليله فنهم عقولنا بالقصور، ونعترف ضعفاء مخذولين بوهن أفهامنا عن إدراكه والنفاذ إلى كنهه؟!
وهكذا كانت الأبالسة ترقص في رأسي المحزون، وتوسوس في قلبي المضطرب، وتهتف في أذني الحائرين. . . وكنت أحاول أن أصرفها عني فلا أستطيع، بل كنت أتهم نفسي وأنا أحاول ذلك بالنفاق، وأرميها بالرياء الديني المصطنع، وكان غروري يأبى لي أن أكون منافقاً أو مرائياً
وسمعت أعز الأمهات تعالج في صدرها شهقات وزفرات، فأسرعت إلى سريرها وبي أنها سكرة الموت، فأسندت الرأس الكريم إلى صدري، وتناولت كوباً من الماء به قطرات من الدواء فوضعتها قريباً من شفتيها. . . ولكنها لم تحس من الماء حسوة! بل نظرت إلي بعينين تترقرق فيهما دموع الحنان، فرحت أكلمها على عادتي كلاما كله ضحك يخنقه البكاء، وكله فكاهة تلبس أردية الحزن القاتمة!
لشد ما تخنقني عبراتي وأنا أحدثك بهذا أيها الصديق!
لقد حدث هذا منذ عشر سنوات، فلم أخط فيه حرفاً، ولم أحرك به لساني لمخلوق. . . ولولا أنك جادلتني في الله لآثرت أن أطوي عليه قلبي إلى الأبد. . .
لقد كانت الأبالسة تأخذ على مشاعري في تلك اللحظة، وكانت تجمع أدلتها ضد السماء في ثورة جارفة. . . وكان فؤادي يتمزق كلما ذكرت أن أعز الأمهات ستقضي دون أن تودعني بكلمة
بيد أنني سمعت كلاماً عنيفاً يتردد في صدرها، فلما أدنيت أذني من فمها، إذا هي تردد هذه الكلمة العظيمة الخالدة:
(الله! الله! الله!) فلما استيقنتها أخذ العرق يتصبب من جسمي كله، وعرتني رجفة قوية لم أبلها من قبل. . . ثم ذكرت أبالستي. ولما أدرت وجهي من حولي، رأيتهم. . . رأيتهم رأي العين. . . كاسفي البال، شاحبي الوجوه، وقد أخذوا ينفذون من جدران الحجرة الصماء، وكان الضعفاء منهم يثبون من النوافذ المفتحة. . . حتى لم يبقى معنا منهم أحد قط!
لقد كانت هذه لحظة من لحظات الإيمان التي انتشلت روحي من ظلمات الأبالسة. . .
لقد كانت من أسعد اللحظات في حياتي!
لقد كانت بارقة الأمل التي بدت لي في تلك الصحراء المهلكة من الشك الذي ران على قلبي وتغلغل في أعماقي!
وقد زادها روعة وجمالاً وعظمة ذلك الصوت الناعم الباغم المصقول الذي أرسله المؤذن يشق هدأة الفجر:
سبحان الكريم الحليم الفتاح. . .
سبحان من شق الفجر فلاح. . .
لقد أفاقت أعز الأمهات من سكرة الموت عندما طرق سمعها ذلك النداء الحبيب الذي لبته هذه السنين الطوال، فكانت تتجافى عن المضجع الدافئ في الشتاء. . . شتاء شمال الدلتا القارس. . . كما كانت تتجافى عنه في الصيف، لتجيب دعوة ربها الكريم الفتاح، فتتوضأ بالماء الذي يشبه الثلج، ثم تلتفع بتلك (الغطفة) البيضاء الناصعة التي تجعلها في هيئة الملائكة، ثم تكبر، ثم تأخذ في صلاتها الهادئة الساكنة المطمئنة؛ حتى إذا سلمت أخذت تدعو ربها لنا جميعاً بالخير، ولزوجها الراحل بالرحمة!
يا ويح لي يا صديقي! لقد كنت أنام معها في ذلك المصلى نفسه في سرير مقابل سنين عدداً. . . وكنت أستيقظ على صلاتها ودعائها. . . وكان ابتهالها يصك أذني صكا. . . لكني كنت مع ذلك لا أتحلحل من مضجعي، ولا أتأثر قط بتلك الصلوات وهذه الدعوات. . . بل طالما كنت أستهزئ بهذا السلطان الديني العجيب الذي يقتلع تلك العجوز من مضجعها في مثل ذاك البرد، لتتوضأ ولتصلي وتناجي ربها. . .
ما كان أبدع صوت المؤذن وما كان أرقه!
لقد كان صوته العذب يجلو الصدأ عن روحي الآثمة. . . تالله لقد كان صوت (الشيخ البكري) رحمه الله، هو صوت الله، أليست أرواحنا من روحه تبارك وتعالى!
ورفت ابتسامة حزينة على الثغر المحتضر!
ثم استطالت تلك الابتسامة، وأروتها دموع الموت التي كانت تؤجج في أضالعي جمرات الحزن. . . وكنت في أثناء ذلك أتكلم بكلام لا أذكره. وربما كنت أهذي
ثم أسندت رأسها على الحشية، واستأذنتها في أن أدعو إخوتي، فأشارت برأسها أن لا! ففهمت أنها لا ترى إزعاجهم بما يعتريها الآن من حشرجة. . . ومن يدري. . . فربما آثرت أن تصعد روحها في غير ضجة. . . ومن يدري؟ فربما آثرت أن تنتشلني بهذه الخلوة المقدسة والسكينة السابغة مما كانت تعلم أنني أتردى فيه من ضلال وزلل، وفساد في معتقدي وخطل!
أليست كانت تلح على أن أهتدي فكنت أسخر منها
ألم أحل بينها وبين الحج إلى بيت الله بحجة أنني أحق بنفقة هذا الحج، وهو كان أملها ومتمناها؟!
ألم تكن قد فرغت من شئون الحياة كلها إلا من شأني؟
. . . وكان جحودي يتعاظمها ويشق عليها، فكانت تلجأ إلى فطرتها السليمة البسيطة التي لم تتلفها الفلسفات في الرد علي، فتربكني بهذا السؤال البسيط الذي تتخبط الفلسفات كلها في الإجابة عنه: ومن أوجدك وأوجد هذا العالم؟ ومن يسهر عليك وعليه؟ ألم تفكر قط في نفسك؟ ما هذه الجارحة الصغيرة - وتشير إلى موضع قلبي - التي تخفق بالحب وتجيش بالأمل وتفيض بالخير، والتي تربط الأسر وتخفر الذمم وتسمو بالإنسانية وتبني الملاجئ وتنشئ المستشفيات وتطعم الجائع وتنجد المضطر وتغيث الملهوف وتحرك الأيدي بالعطاء وتذيب الدموع في المحاجر، وتبسم فتبسم الحياة، وتعبس فتعبس الدنيا، وتبصر فيبصر السلام، وتعمى فيعمى العالم وتعمه نيران الحروب؟
أليس بحسبك يا بني أن تكون تلك الجارحة برهاناً على وجود هذا الإله القادر الذي تنكره وتماري فيه؟
ثم أنا. . . ثم أبوك يرحمه الله. . . ألم تفكر في صيرورتنا بعد الموت قط؟ ألا يعز عليك أن نموت فنصير إلى عدم فلا نلتقي أبداً؟! أليس أخلق أن تؤمن بما تقوله لنا السماء؟ أليس أن نلتقي هناك. . . هناك. . . في تلك الجنة التي عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين؟ أليس أحجى أن نلتقي ثمة بين يدي اللطيف الحميد. . . الجنة التي لا موت فيها لهذا الموت، ولا فقر ولا مرض ولا جوع ولا شره ولا بوائق؟. . . الجنة الوارفة الظلال التي تلتقي فيها الأرواح السعيدة بعد هذا السفر الممل والغياب الطويل والنوم الهامد الخامد. . . الجنة الجميلة الخالدة التي لا تذبل فيها زهرة، ولا يظمأ فيها عصفور، ولا يحسد فيها فقير، ولا يعيش فيها بائس، ولا يشقى في رحابها يتيم، ولا يكنز المال فيها قارون، ولا يطالب فيها شيلوك برطل من لحم المدين، ولا يقتل فيها عباد الأصنام أنبياءهم الصالحين!
إن الله يا بني هو المثل الأعلى فلا يصوره لك ضلالك هولة أو غولاً أو وحشاً أو سعلاة. . . إن الذين يخافون الرحمن كما تخاف الجن والسعالي، ويخشونه كما يخشى القتلة والسفاكون، هم غير جديرين بعبادته، غير خليقين أن يعرفوه، غير أحرياء أن يهتدوا بنوره
إن الخوف من الجن والسعالي لا يعلم فضيلة، ولا يحض على خير، أما الخوف من الله فيرفع الإنسانية إلى مثله الأعلى. . . إلى الكمال الذي لا يعرف الغرائز الدنيا
احذر يا بني أن تحسب عقلك أوسع من الدنيا أو أكبر من الله! إن الجديد الذي يكتشفه بنو الدنيا من أسرارها كل يوم حريٌ أن يقتلع من نفسك الغرور، ومن روحك الكفر، ومن قلبك الضلالة
آمن بالله يا بني ولا تكن لي خزياً بين يديه يوم القيامة!
هكذا كانت تجادلني أعز الأمهات يا صديقي، وهكذا كانت تنصح لي. . . فلما رأيت الأبالسة تولي وتغور في الجدران والنوافذ، ولما رأيت الحجرة المباركة تخلو إلا مني ومن الأم المحتضرة، خيل لي أن كل نصائحها تتردد في مسمعي، وخيل لي أنني أراها ألف ألف مرة وهي قائمة تصلي في هدأة الفجر، وعليها (غطفتها) الناصعة، وخيل لي أنني أسمعها وهي تدعو الله لي ولأخوتي، ولزوجها الراحل
ثم سكت المؤذن الجليل لحظة، ثم نادى:
الله أكبر. . . الله أكبر. . .
فوالله يا أخي لقد سمعت قلبي الذي أخذته رجفة هائلة يردد ما أذن به الشيخ بكري عليه رحمة الله والله يا أخي لقد تلفت حولي فتخيلت الملاك الكريم في أجمل صورة يستطيع أن يتخيلها فنان وهو باسط يديه، وقد رفت على فمه ابتسامة الإيمان التي سلحه بها ربه. . . الملاك الكريم النوراني الذي كنت أحسبه تنيناً هائلاً مفزعاً. . .
وانحنيت أقبل الجبين الذي ظل يقبل الأرض بين يدي الله خمسين عاماً، ولما رفعت رأسي، إذا نور له بهر شديد يملأ الحجرة المقدسة، وإذا يد كريمة تلمس صفحة فؤادي. . . وإذا المؤذن الجليل يملأ الدنيا بهذا النداء الرائع، يختم به أذانه
الله أكبر. . . الله أكبر. . .
فهلا آمنت؟! قلت: آمنت بنور السموات والأرض.
دريني خشبة