الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 530/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 530/الحديث ذو شجون

بتاريخ: 30 - 08 - 1943


للدكتور زكي مبارك

بين القاهرة وبغداد - في رياض الزمالك - سهرة روحية - لمحة وجدانية - طبائع الأرض المصرية والعراقية - بين سنترتس ولبنان - أشجاع وأغاريد - منظر طريف - ماذا دها القمر - فائدة لغوية وتاريخية - مروءة مصرية

بين القاهرة وبغداد

سنحت فرصة ثمينة، وما كنت أنتظر أن تسنح، فقد ألفنا بخل الأيام وشح الليالي، ورضنا النفس على اليأس من كرم الزمان

وتلك الفرصة هي لقاء الأستاذ طه الراوي في القاهرة بعد فراق طال ثم طال، وبعد شوق لا يصوره القلم ولو جال وصال

قال الأستاذ الراوي عند التلاقي: ماذا أصنع معك؟ وكيف أجازيك؟ أنت تعلن شوقك إلى إخوانك في مجلة الرسالة فيصل صوتك إلى الشرق والغرب، وأنا أضمر شوقي فلا يصل إليك منه قبس، ولو أني عبرت عما في نفسي لقلت إني لم أجد أحداً غيرك يفوقني في الوفاء

كذلك كان الحديث عند لقاء الأستاذ طه الراوي صديق مصر الحميم، والرجل الذي لا ينساه من يراه، ولو طال البعاد

تلاقينا وتسامرنا، وقال وقلت: أين الأستاذ الزيات ليتم أنس الحديث؟ فقد سأل الأستاذ الراوي مرات عن الأستاذ الزيات، وكان يشتهي أن يراه ليتحدث معه في شؤون من شواجر الأدب القديم والجديد، ورجاني أن أبلغه التحية إن لم يستطع رؤيته قبل الرجوع إلى بغداد.

في رياض الزمالك

عرفت من المفوضية العراقية أن الأستاذ الراوي يقيم بفندق الكنتننتال، فطلبته بالهتاف، فرد صوت محبوب هو صوت السيد خالد الشوربجي، فعجبت من هذه المصادفة الغريبة، وسألته عن الأستاذ الراوي فقال: تجده بكلية البنات في الزمالك، ثم قال: وين الأست الزيات؟ فقلت: تجده في كلية الزراعة على شاطئ بحر شبين!

مضيت في العصرية إلى الزمالك فكيف رأيت الزمالك؟

إني لمفتون بتلك البقعة التي يطوقها النيل من أربع جوانب، إني لمفتون بما فيها من قصور وبساتين، وإنها لروضه من أنظر الرياض

أين الشاعر الذي يصور جمال الزمالك؟

وأين الروح الذي يدرك معاني تلك الجزيرة الخضراء؟

لن ينقضي فتوني بتلك الروضة المهندمة بأروع وأظرف ما تجود به الفنون، فالزمالك ترى وكأنها صبت مرة واحدة في لحظة من لحظات الصفاء

لا تجد بيتاً يبني ولا بيتاً يهدم، ولا ترى إلا سبيكة مقدودة من ضمير الحسن الأصيل

هذه كلية البنات بشارع محمد أنيس، وهذا بابها العالي، فما أسعد بلداً يكون لبناته حظ التعلم في مثل هذا المكان البهيج!

وأخطو خطوة فأجد الأستاذ الراوي في انتظاري، وأجد معه الأستاذ عبد الجبار الجلبي، وأجد وجوهاً عراقية في سمرة النيل عند الوفاء

وأقول بعد التحية: جئت أدعوكم لزيارة سنتريس، فما يجوز لمن يزور مصر أن يغفل زيارة سنتريس

فيقول السيد عبد الجبار الجلبي وهو يبتسم: إن مثل من يزور مصر ولا يزور سنتريس مثل من حج ولم يعتمر، وقد يكون حاله حال من اعتمر ولم يحج، فلا بد من زيارة سنتريس

سهرة روحية

وبعد لحظات يتفرق الجمع، لأن لجمهور الحاضرين مآرب من رؤية القاهرة بالليل، وأنظر فأرى الأستاذ طه الراوي سيبقى بلا رفيق، فأقرر البقاء لمسامرته إلى أن يعود الرفاق

قلت: أيسمح سعادة الأستاذ أن يخرج فنرتاض على ضفاف النيل؟

فقال: أنت النيل، ثم أنشد قول المتنبي:

مِن عَبيدي إن عشت لي ألف كافو ... ر ولي من نداكَ ريفٌ ونيلُ

وانطلق فقص قصة المتنبي بعد أن رحل عن مصر، قصها بصورة خلابة كأنه كان رفيق المتنبي حين فارق مصر في ليلة عيد

وخلاصة القصة أن المتنبي كان يعلق آماله على (فاتك) وكان فاتك يريد السيطرة على الصعيد، فبث كافور ألوف العيون ليعرف من أحواله كل شيء، وكان المتنبي يعرف هذه الحقيقة، فكان يخرج بحجة الحرص على ترويض حصانه ليلقي فاتكاً في مكان مجهول، ثم هلك فاتك فلم يبق للمتنبي غير الرحيل، ولكن إلى أين؟

رحل إلى الكوفة، وهي وطنه، ولعله كان فيها من الفقراء، فأرسل إليه سيف الدولة هدية يستعين بها على العيش، فرد المتنبي بقصيدة منها هذا البيت:

مِن عَبيدي إن عشت لي ألف كافو - ر ولي من نداك ريفُ ونيلُ

ومضى الحديث في شجون مصرية وعراقية، فكان من ذلك دليل جديد على الثقة الموصولة بيني وبين هذا الرجل النبيل

- احكي، احكي

وماذا أحكي؟

أنا تعبت من الحكي، فاحكي أنت

- ميعاد الحكي في سنتريس

وخرجت أبحث عن سيارة بعد انتصاف الليل وأنا في نشوة روحية قليلة الأمثال

رياض الزمالك وأحاديث الراوي في ليلة واحدة؟ تبارك من جعل هذه الحظوظ من نصيبي في أوقات قل فيها الظفر بأطايب الحياة.

لمحة وجدانية

وقفنا على جسر الرياح المنوفي بالقناطر الخيرية لحظات، فقلت للأستاذ الراوي: ما رأيك في أن ننزل فنقطع هذا النهر سابحين إلى أن نلقي الأستاذ الزيات؟

- إيش لون؟

- هذا النهر يسمى هنا بالرياح المنوفي، وبعد قنطرة النعناعية يسمى بحر سنتريس، وبعد قنطرة القرينين يسمى بحر شبين، ومنه تستقي مزارع الأستاذ الزيات

- أنتم تسقون من نهر واحد؟ الآن عرفت السر فيما بينكم من وفاق

- وهناك وشيجة ثانية - ما هي؟

- هي ما يوجب العقل من تلطف الشركاء بعضهم مع بعض، فأنا أستطيع سد هذا النهر بنبابيت سنتريس

- ولا تخاف الحكومة؟

- الحكومة تركت هذا النهر في حراستنا، فنحن نملك من أمره كل شيء

- أنتم إذاً على استعداد لإساءة التصرف

ومع هذا لم نسيء التصرف، رعاية لمعنى واحد، هو البر بالصديق، ولو كان الزيات عدواً لعاملناه معاملة الأعداء، هذا مع العلم بأن الزيات صديق مضمون

- ما معنى هذه الكلمة الأخيرة؟

- إن لها معنى ومعاني، فالصديق المضمون هو الصديق الذي لا يخشى تغيره بأي حال، وإذن يجوز التحيف عليه باطمئنان، فيكون البر به غاية في الوفاء

- هذا معنى طريف، ولكنه يحتاج إلى بيان

- بيان ذلك أن من الأصدقاء من ينهاه قلبه وروحه عن مجازاة أصدقائه غدراً بغدر، وإيذاء بإيذاء. والصديق الذي يكون في مثل هذه الروحانية يلقى من أصدقائه متاعب ومضجرات؛ فالوفاء بعهده يعد أعجوبة في الحياة الأخلاقية، وأنا أطمع في الظفر بأكبر نصيب من مكارم الأخلاق

- نحن نسمع في مصر كلاماً جديداً

- ولكنه أقل من كلام العراق

- يعجبني تعصبك لأصدقائك، يا دكتور مبارك

- ولمن أتعصب إذا لم أتعصب لأصدقائي؟ لم يبق من الكرم غير حفظ العهد، وكل ما أخشاه أن يكون حظي من هذا المعنى أقل مما أريد. إن الهجوم على العدو لا يحتاج إلى عناء، لأنه ينبعث عن ثورة تعين على القتال، أما ملاطفة الصديق فتصدر عن عواطف رفيقة لا تساعد على الاستبسال

لو بذلنا في ملاطفة أصدقائنا معشار ما نبذل في محاربة أعدائنا لرضى الله عنا واصطفانا لأشرف الأعمال الأدب الحق هو أدبك في معاملة من لا تخاف أن يثور عليك - وهذا أيضاً كلام جديد

- وهو أيضاً من وحي العراق

- طيب الله أنفاسك، يا دكتور مبارك!

طبائع الأرض المصرية والعراقية

في حديقة الدار في سنتريس بدت الطلمبة أمراً عجبا، فقد دهش الضيوف العراقيون من أن نستقي الماء بلا بئر، فقلت إن هذا يتيسر في العراق لو أردتموه. فقال الأستاذ طه الراوي: إن البئر في العراق تكون مياهه غاية في المرارة إن بعد عن الشط، لأن أرض العراق كثيرة الأملاح

عند ذلك تذكرت عبارة المسيو دي كومنين حين رأى الطلمبة في سنتريس، فقد قال إن هذا يمتنع في الأرض الفرنسية، وإن لم يذكر الأسباب

وعند ذلك فهمت كيف كانت بغداد مملوءة بالأنهار، وهي القنوات التي كانت تنقل الماء إلى المحلات المختلفة بدار السلام، فكل مجرى ماء اسمه نهر عند أهل العراق، ولو كان قناة لا يحتاج عبورها إلى أيسر مجهود، ومن هنا جاز أن نرى في كتب التاريخ أن البصرة كان فيها مئات أو ألوف من الأنهار الجاريات

لو سمعت كلام الأستاذ الراوي قبل أن أكتب مقالي عن (عروس النيل) لكان من الممكن أن أضيف إليه توضيحات، فليكن ما هنا تكميلاً لما هناك

بين سنتريس ولبنان

قال الأستاذ الراوي: للنسائم هنا مذاق لا نجد مثله في لبنان، فما الذي يمنع من أن تجعلوا بلدكم من بلاد الاصطياف؟

قلت: إن هواء سنتريس أتعب أهل سنتريس

- وكيف؟

- لأنه جعلها مراداً لأصحاب الأذواق، فهي الملتقى لأكثر سكان المنوفية، ومن أجل هذا عم فيها الغلاء

أسجاع وأغاريد وعند تناول العشاء سمعنا طيوراً تسجع وتغرد بأنغام لا يسمع مثلها أهل العراق، فقال الأستاذ عبد الجبار الجلبي: ما هذه الطيور؟ فقال السيد عبد المجيد مبارك: هذه جماعة الكروان تصدح عند قدوم الليل

وتردد الأستاذ الجلبي في تصديق ما يسمع؛ فقال له الأستاذ الراوي: هذه بلابل تصدح بأنغام أهل سنتريس!

منظر طريف

حين مررنا بحدائق القناطر الخيرية نبهت رفاقي إلى غابة أبي قردان، وقلت إنه طائر يصادق الفلاح، فيرافقه في الحرث والسقي، ليلتهم ما في الأرض من ديدان، ولهذا يحرم صيده بأمر وزارة الزراعة المصرية

قال الأستاذ الراوي: هذا اسم عربي، فالقراد يجمع على قردان كما يجمع الغلام على غلمان، ولعل هذا الطائر سمي بذلك لأنه يطهر الأرض من الحشرات

قلت: ومن العجيب أن يكون ملتقى هذه الطيور البيض في شجرة كريمة بأحد المنازل في سنتريس، وكأنها تقول:

من علمّ الورقاء أن محلكم ... حَرَمٌ وأنك موئلٌ للخائفِ

ماذا دها القمر؟

كانت طلعة القمر طلعة بهية، وكان لألاوه فوق بحر سنتريس غاية في البهاء، فماذا دهاه قبل أن نقترب من قليوب؟

قال السيد هاشم: القمر مخنوق

فوقفنا جميعاً وتطلعنا إلى وجه القمر فرأيناه في حال تشمت العذال!

حتى القمر تنال منه صروف الليالي؟!

وتسمع السيد عبد الجبار ما يقول أهل قيلوب ليوازن بين أقوالهم وأقوال أهل بغداد. . . وتذكرت العبارة المصرية فقلت: (يا بنات الحور، سيبوا قمرنا ينور)

فقال: إن عبارة أهل بغداد (يا حوته يا منحوته، طلعي قمرنا العالي)

وأذن تكون بنات الحور هي التي تخنق القمر في مصر، وتكون الحوته المنحوته هي التي تخنقه في العراق

قلت: القمر عندنا معشوق تحجزه الحوريات، وهو عندكم مأسور بأيدي الحوتات المنحوتات، عليهن اللعنات!

فقال السيد عبد الجبار: لقد راعني هدوء الطبيعة المصرية، ففي كل ماء تنق فيه الضفادع بقعقعة مزعجة، إلا ماء النيل

واستطرد الأستاذ الراوي فقال: أراد صوفي أن ينظر معشوقته من ثقب الباب فرآها عارية، ولكنه أنزعج حين رأى ضفائرها تحجب عنه جسدها الوهاج، فصرخ:

يا حوته يا منحوته طلعي قمرنا العالي

قلت: وما شئن الصوفي بالأجساد العارية؟

فأجاب: هل نسيت ما قررته في كتاب التصوف الإسلامي؟ ألم تقل أن الحب الحسي قنطرة إلى الحب الروحي؟ ألم تقل أن الصوفية تبنوا أشعار الماجنين فحولوها إلى خطرات وجدانية؟

فائدة لغوية

قال سعادة الأستاذ الراوي وقد شربنا القازوزة: إن العرب عرفوا القازوزة، فقلت القازوزة التي نشربها كلمة فرنسية أصلها هي في العربية؟ فقال: وردة في قول أحد الشعراء:

أفَني تلادي وما جّمعتُ من نَشَبِ ... قرعُ القوازيز أفواهُ الأباريق

فقلت: هي القوارير بالراء في المطبوعات المصرية، وهي أفصح لأنها كلمة قرآنية. وبعد لحظة قال الأستاذ: المفرد قاقوزة، فقلت: إذن يكون الجمع قواقيز

وبعد العودة راجعت القاموس فوجدت قاقوزة وقازوزة بمعنى واحد وهو المشربة أو القدح أو الصغير من القوارير، وعلى ذلك يمكن أن يكون البيت روي روايتين

وفائدة تاريخية

قال الأستاذ الراوي: سمعت اليوم تعليلاً أعجبني في تسمية شارع الموسكي، فقد حدثني أحد الأفاضل أنه جاء من الكلمة الفرنسية كلمة عربية الأصل معناها المسجد، وسمي الشارع بذلك لأنه يوصل إلى المسجد الكبير وهو الجامع الأزهر فقلت: الموسكي بفتح السين نسبة إلى موسك أحد أمراء مصر في الأيام الخوالي، وسكنت السين للتخفيف

فضحك الأستاذ الراوي وقال: إذن كان ذلك المحدث من (الأفاضل) بالقول لا بالفعل

مروءة مصرية

رجعنا إلى القاهرة والقمر مخنوق، والظلام يطمس المعالم بميدان باب الحديد، ولا بد من سيارة تنقل الضيوف إلى الزمالك

- تاكسي، تاكسي، تاكسي

هتفنا بهذه اللفظة أكثر من خمسين مرة، فما سمع سامع ولا أجاب مجيب

ونظرت فرأيت فتى يخترق الظلام ليستوقف سيارة فظننته خادماً يبحث لسيده عن واسطة، أداة النقل في لغة العراق، ثم ظهر أنه بائع متجول أراد أن يريحنا من هذا العناء

هل قدمنا لهذا البائع قرشاً أو نصف قرش؟

الجواب عند السيد عبد الجبار الجلبي فقد كان في الزاوية الثانية، ولعله نفحه بشيء، وإلا فأنا حاضر لمكافأته على ذلك الصنيع الجميل.

زكي مبارك