مجلة الرسالة/العدد 528/المشكلات
→ دراسات عن مقدمة ابن خلدون | مجلة الرسالة - العدد 528 المشكلات [[مؤلف:|]] |
في استقلال القضاء ← |
بتاريخ: 16 - 08 - 1943 |
1 - اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
شعر رجال التربية والتعليم في مصر منذ زمن طويل بإخفاق المعاهد المصرية المختلفة في تعليم اللغة العربية، فهبوا يتعرفون أسباب هذا الإخفاق، ويعالجونه بالوسائل التي يرونها، ألفوا اللجان، وعقدوا المؤتمرات، وبحثوا البحوث المختلفة؛ فمرة يرون الإخفاق من صعوبة النحو فينصرفون إلى تسهيله، ومرة يرونه من كثرته فينصرفون إلى تقليله؛ ومرة يرون من قلته فينصرفون إلى تكثيره، ومرة يرونه من مدرس اللغة العربية فيعمدون إلى إصلاحه وحسن اختياره والعمل على توسيع ثقافته، ومرة يرى بعض الباحثين أن هذا الإخفاق إنما هو من آثار البعد ما بين العامية والعربية فيشير بالتقريب بينهما بأن تنزل كلتاهما عن بعض خصائصها لتقرب من الأخرى. وهذا معناه إعدام اللغتين واصطناع لغة لا هي بالعربية، ولا هي بالعامية، وليس هذا إصلاحا، وإنما هو خضوع للحالة الراهنة، وإقرار الخطأ، والعجز أمام اللحن والتحريف
والاعتبارات الدينية والاجتماعية والتاريخية تقضي علينا بالاحتفاظ باللغة العربية كما هي تدب في عروقها دماء القوة والحياة
أما الاعتبارات الدينية فإنها لغة القرآن والسنة، ومنهما يأخذ المسلمون دينهم وعقائدهم وأخلاقهم وعباداتهم وأحكام معاملاتهم، وهم يحرصون على اللغة العربية أشد الحرص، ليفهموا بها كتاب الله وحديث رسوله، ويبقى ذلك الينبوع الذي يستقون منه متدفقاً ثرارا، ويخشون أعظم الخشية أن يصبح غورا فيفقدوه وهم في مسيس الحاجة إليه
وهم لا يرضون أن تبيد اللغة العربية كما بادت أخواتها من اللغات السامية كالعبرانية، فيصبح القرآن لا يتلى ولا يفهم إلا في المساجد وعند أداء الشعائر، كما صارت العبرانية لا تتلى إلا في الصوامع والبيع
وأما الاعتبارات الاجتماعية فإن اللغة العربية الآن لغة عامة، وهي لغة الشمال أفريقية والجزء الغربي من آسيا، وسكانها يبلغون أكثر من ثمانين مليونا من الأنفس، إذ أن اللغة العربية لغة الكتابة في هذه الأقطار جميعها، ومنها تفرعت لهجاتهم، ولحرصهم على اللغة العربية دائما لا تبعد اللهجات عنها، وكذلك لا تبعد لهجات الأقطار بعضها عن بعض بعداً يجعل التفاهم بين أهلها متعذراً
وقد ربطت هذه اللغة بينهم برباط اجتماعي وثيق، وسهلت سبل التعارف والتآلف، فأصبح المصري مثلاً يسافر شرقا إلى الشام أو الحجاز أو العراق، ويسافر غرباً إلى ليبيا وطرابلس وتونس والجزائر، ويسافر جنوباً إلى بلاد السودان وما وراءها فيرى أهلاً بأهل وجيراناً بجيران، ويحل بين قوم يفهم عنهم ويفهمون عنه، ويألفهم ويألفونه، وكأنه لم يبرح بلده، ولم يفارق موطنه، ذلك بفضل اللغة العربية وما يسرت من تفاهم، وكذلك شأن السوري والعراقي والحجازي إذا حل بهذه الأقطار، وقد كان ذلك سبباً في زيادة التعاون وإحكام روابط الأخوة والحب بين شعوب الشرق العربي، وفتح طريقاً إلى الوحدة العربية التي ينشدها كل محب للشرق وللعرب، وستحقق إن شاء الله بفضل هذه اللغة
وقد أدى ذلك إلى سهولة التجارة وتبادلها بين هذه الأقطار كما أدى إلى تبادل الثقافة وسائر ألوان الإنتاج في العلم والمعرفة والتفكير، وصار المؤلف في مصر لا يؤلف لوطنه وحده، وإنما يؤلف لجميع هذه الأقطار، كما صار طابع الكتب وناشرها لا يطبع أو ينشر لمصر فحسب، وإنما يطبع لهذه الأقطار ولبلاد الهند والملايو وجاوه وسومطره وبلاد الصين، كذلك شأن المؤلفين والناشرين في هذه الأقطار، وذلك كله بفضل اللغة العربية
وأما الاعتبارات التاريخية فإن علوم آبائنا وأجدادنا وثقافتهم وتراثهم العقلي قد وضعت باللغة العربية، فنحن نحافظ عليها ما حافظنا على هذا التراث. وهذا هو أيضاً على النفر القليل الذين دعوا إلى العامية وإحلالها محل اللغة العربية
أتدرون ماذا نكون إذا نحن اتبعنا مشورة أولئك وهؤلاء ممن يشيرون علينا بأن تتنازل العربية عن بعض خصائصها لتقرب من العامية، أو أن نصطنع العامية بدل العربية؟ إننا بذلك نعمد إلى تلك الصلات التي بيننا وبين جيراننا الشرقيين فنقطعها فنصبح نتكلم بلغة لا يفهمونها ويتكلمون بلغة لا نفهمها
وإلى تلك الصلات التي بيننا وبين أسلافنا فنقطعها أيضاً ونصبح لا نتصل بعلومهم ولا ثقافتهم، لأنها باللغة العربية ونحن نصطنع العامية؛ ونكون قد سجنا أنفسنا في سجن العامية المظلم لا يفهمنا أحد ولا نفهم أحداً بعد أن كنا في ميادين العربية الفسيحة التي تمتد شرقاً وتضرب في بلاد الهند والصين، وتمتد غرباً وتضرب في سواحل المحيط الأطلسي، وتمتد جنوباً وتضرب في المحيط الهندي، وتمتد شمالاً وتضرب في آسيا الصغرى وبلاد الأناضول، وتمتد في الماضي وتضرب في عهود العباسيين والأمويين والخلفاء الراشدين وعصر البعثة المحمدية وما قبل البعثة من عصر العرب الأولين
ومرة يرى بعض الباحثين أن يقرب بين العربية والعامية بأن يؤثر كل لهجة عربية توافق العامية، فيؤثر اللغة التي تلزم الأسماء الخمسة الألف، لأن العامية تنهج في أسلوبها هذا النهج، ويؤثر اللغة التي تعرب جمع المذكر السالم إعراب حين، لأن العامية تفعل ذلك
وهذا لا يحل المشكلة، لأن العامية لا تلتزم نهجاً واحداً خاصاً في أسلوبها ولا تلتزم لغة من هذه اللغات. وأيضاً فكثير من العامية ليس له نظير في لهجة من اللهجات العربية
ثم ماذا يفعلون؟ أيوجبون هذه اللغة ويخطئون ماعداها، أم يجوزونها ويخيرون بينها وبين اللغات الأخرى؟ فإن كان الأول أدى ذلك إلى أن المتعلم على هذه الطريقة يخطئ القرآن وكلام رسول الله وكلام العرب إذا جاءت على غير هذه اللغة. وإن كان الثاني لم يعد ذلك تسهيلاً لأنه لم يفعل شيئاً سوى أن زاد في الطنبور نغمة، فبعد ن كان يعلم لغة واحدة في جمع المذكر السالم هي اللغة العامة القياسية أصبح يعلم اللغة العامة واللغات الأخرى القليلة
ثم هذا يضيع على المسلمين الغرض الذي يرمون إليه، ويحرصون عليه أشد الحرص، وهو الاحتفاظ بلغة القرآن ولهجته وطريق أدائه
والذين يدعون إلى تيسير قواعد النحو والصرف والبلاغة أقرب إلى الصواب؛ ونحن نؤمن كما يؤمنون بضرورة هذه الخطوة، وإن كنا نخالهم فيما ذهبوا إليه من قواعد كما بينا ذلك في حينه، ونرى من هذا كله أن المشكلة على ما هي عليه لم تحل ولم توشك أن تحل. وسنحاول إن شاء الله في الفصول الآتية أن نحل هذه المشكلة التي استعصى على الزمن حلها
محمد عرفة
عضو جماعة كبار العلماء