الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 521/الخطابة

مجلة الرسالة/العدد 521/الخطابة

بتاريخ: 28 - 06 - 1943


بين الحرب والسياسة

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

تستند الخطابة إلى الإقناع والتأثير، فلها سبيلان العقل المقتنع والقلب المتأثر. وهي في كل أمة وعصر أتخذها الرومان في دور القضاء وساحات العدل دفاعا عن مظلوم، أو تبرئة لمتهم، أو إدانة لمسيء. واتخذها تاعرب في الجاهلية سجعاً لكاهن، أو عدة لواعظ، أو نصيحة لحكيم. كما فعل قس بن ساعدة الأيادي في خطبته المروية في كثير من كتب الأدب. تلك الخطبة التي ذكر الناس فيها بالسماء ذات الأبراج، والأرض ذات الفجاج، والبحار ذات الأمواج. وكما فعل أكثم بن صيفي في خطبته التي اشتملت على الموعظة الحسنة والحكمة البالغة.

واتخذها الإسلام في أول أمره نشراً لدعوة وتشجيعاً للجنود المقاتلة، وتأليفاً للقلوب، وتذكيراً للغافل، وتنبيهاً للخامل.

وتروج سوق الخطابة في المنازعات والخصومات عند اختلاف الرأي وتنوع الفكر وتعدد المذاهب، كما حدث بين العلويين والأمويين والزبيريين والخوارج، وكما حدث في إنجلترا بين المحافظين والأحرار، وكما حدث في أمريكا بين أهل الجنوب وأهل الشمال.

ومن الطبيعي أن يظهر عند احتدام الفكر واصطراع الرأي قوتان متعارضتان تمثل كل منهما رأياً معيناً. وهنا يظهر الخطيب في جانب، ويبرز في الجانب المقابل من يبطل دعوته ويبطل حجته.

ففي القرن التاسع عشر كان في إنجلترا غلادستون زعيم الأحرار وخطيبهم الذي لا يجارى. وأمامه في الخصومة بيكونسفلد لسان المحافظين ومدرههم.

ولا تجد الخطابة فرصة أكثر صلاحا لها وأحسن ملاءمة من الثورات العنيفة والتيارات القوية الشديدة. وقد تصنع الأقوال في خلال الثورات مالا تصنع الفعال. وأصدق شاهد على ذلك المجر في منتصف القرن التاسع عشر. فقد كمت النمسا الأفواه وألجمت الألسن إلا لساناً واحداً تأبى على القيد وامتنع على المقاومة؛ هو لسان كوشوت الزعيم المجري؛ فرحل عن وطنه مجاهداً في سبيله بجنان فتى ولسان عضب قوي. فأكرمت إنجلترا وفادته، كما أحسنت أمريكا ضيافته. فكان فيهما حر اللسان طلق البيان، حلو العبارة صريح الإشارة. وأقام متنقلاً بين الأمتين زماناً أسمع الشعوب الحرة خلاله صوت أمته المهضومة وبلاده المظلومة. ولم يطل على الأمة المجرية أمر الكفاح حتى استعادت قوتها واستردت حقوقها، وأصبحت شريكة في مملكة النمسا والمجر.

وقد تساعد الثورات نفسها على تقدير خطباء لم يتح لهم من مواهب الخطابة ما يسمو بهم إلى مراتب التقدير. فهذا كرومويل زعيم الثورة الإنجليزية في عصر الملك تشارلس الأول ملك إنجلترا. كرومويل هذا كان ثائراً أكثر منه خطيباً. إلا أن روح الثورة واتجاهها وعنفها جعلته من الخطابة في المحل الأول. وجعلت الشعب يجد في الاستماع إليه لذة وميلاً. مع أن كارليل الناقد المشهور يقول عنه في إحدى مقالاته: (إن خطب كرومويل لا تجري على أساليب صحيحة من البلاغة أو قواعد مرتبة من التفكير المنطقي. فهي تخالف كل أسلوب معروف في الخطابة إلا أنها أتيح لها من الشأن في حينها ما لا يقل شأناً عن خطب ديموستين في أثينا)

وقد تتمخض بعض الثورات العنيفة عن زعماء يؤثرون العمل على الكلام أو يفضلون النضال على المقال وطعن السنان على وخز اللسان. والثورة الفرنسية أصدق دليل على ما نقول. فلقد كان من زعمائها دنتون وروبسبير ومارا الذين ضج الناس مما سفكوا من دم وأزهقوا من روح. وكانوا يعتمدون في الثورة على القتل أخذاً بالظنة ورمياً بالشبهة؛ حتى شك الناس في أخيرهم مارا ورموه بالتهم فدافع في إحدى خطبه عن نفسه. إلا أن ذلك لم يجد عليه فقتلته فتاة في الحمام وأراحت الناس من شره

ولقد قالوا إن الأمة العربية لم تنكب بخطيب مثل الحجاج ابن يوسف الثقفي في حبه لسفك الدماء وإذلال النفوس وإرادتها على القسر والإرغام، وفي شراسة الطبع وغلظ الكبد. وهذا كلام ينطبق على مارا في الأمة الفرنسية، وفرق ما بينهما أن الثقفي كان يرتكب جرائمه باسم الاستبداد، ومارا الفرنسي كان يرتكبها مع صاحبه باسم القانون

والخطيب السياسي يعتمد على الشجاعة والجرأة الأدبية في كل ما يصدر عنه، سواء أكان حاضاً على ثورة أم حاثاً على جهاد أم مدافعاً عن رأي، أو مبطلاً لبعض الرأي. ولقد تتحرج أمام الخطيب السياسي الساعات ويحزب الأمر فلا يزيده ذلك إلا شجاعة وجراءة وإليكم مثالين:

1 - وقف الحجاج على منبر الكوفة فقال: (والله لأحزمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل)

2 - ووقف مارا الفرنسي يدافع عن نفسه بعض التهم التي جزاؤها الإعدام فقال في شجاعة نادرة لهيئة القضاة التي تحاكمه: (لقد كان هذا رأيي يعرفه من اتصل بي أو قرأ لي، ولقد كنت أصدر الآراء مشفوعة بتوقيعي، مصحوبة بإقراري. وما أنا ممن يخشون الجهر بآرائهم. وإذا كنتم أنتم لا تفهمون ذلك ولا تعرفونه عني فتباً لكم وسحقاً)

وإذا اقترنت شجاعة الخطيب الأدبية بحسن القريحة وسرعة البديهية وحلاوة النادرة كان ذلك أوقع في نفوس السامعين وأشد تأثيراً فيهم. وللمستر لويد جورج الخطيب الإنجليزي المشهور في ذلك الميدان مجال أي مجال

حدثوا أنه كان يخطب مرة في الحكم الذاتي فقال: سنعطي الحكم الذاتي لكندا وسنعطيه لايرلندا وسنعطيه لـ. . . ولم يكد يكملها حتى قال رجل من السامعين. . . لجهنم فرد عليه لويد جورج قائلاً: هو ذاك. يعجبني أن يتذكر كل إنسان وطنه

وقد يكون في بعض السامعين للخطباء من يغمزهم بكلام أو يتعرض لهم بملام. وهنا تظهر مقدرة الخطيب على سرعة الرد وحسن الدفاع ومواتاة الجواب. فقد حدثوا أنه وفد جماعة من العرب على كسرى وفيهم من السادة الخطباء من انتهى إليه الشرف وبلغ السيادة في قومه والمنزلة في قبيلته. وأخذ كل منهم يتكلم بما يعرف لإبانة ما للعرب من فضيلة. حتى انتهى الدور إلى الحارث بن ظالم فأجاد الكلام وأحسن الدفاع. فقال له كسرى: من أنت؟ قال: أنا الحارث بن ظالم. قال كسرى: إن في أسماء آبائك لدليلاً على قلة وفائك وأن تكون أولى بالغدر وأقرب من الوزر! قال الحارث: إن في الحق مغضبة، والسرو التغافل. ولن يستوجب أحد الحلم إلا مع القدرة. فلتشبه أفعالك مجلسك

وخطب الوفود هذه من الخطب السياسية التي لا يغفل شأنها. وقديماً استعملها النعمان بن المنذر ليدفع عن العرب ما رماهم به كسرى وما تجناه عليهم، وليعلمه أن العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه. فاختار جماعة من خيارهم فيهم أكتم بن صيفي وحاجب بن زرارة والحارث بن عباد وقيس بن مسعود والحارث ابن ظالم. فتكلموا ودافعوا عن مآثر صالحات، وحموا عن نسب صحيح

وكان الروم والهند والصين يفدون على كسرى وفيهم الخطباء المصاقع فيذكرون من بلادهم ما يدخل اليوم في باب الدعاية السياسية. ولاشك أن هؤلاء الرسل كانوا يختارون من أحسن الناس كلاماً وإلا ضاعت الحكمة من إيفادهم وذهبت المزية من اختيارهم

والخطابة تروج في زمن الحروب وتصادف من الآذان سمعاً واستجابة. وسيسجل تاريخ الحرب الحالية أسماء صفوة من الخطباء من أنصار الديمقراطية ومن أعدائها. وكم يكون الأدب سعيداً لو أن هؤلاء الخطباء أنجبتهم ظلال السلامة ومنابت الأمن والطمأنينة. ألا إن الدفاع عن الحرية يتطلب دائماً ثمناً غالياً.

وقد يكون القائد المحارب نفسه خطيباً مفوهاً ومتكلما فصيحاً؛ فيمسك قائم سيفه بيده ولسانه بفمه يحض الجنود على القتال ويشجعهم على المصابرة كما فعل خالد بن الوليد في معركة أجنادين بين الروم والعرب حين قال فيما قال: (اقرنوا المناكب، وقدموا المضارب، ولا تحملوا حتى أمركم بالحملة، ولتكن السهام مجتمعة إذا خرجت من القسي كأنها تخرج من كبد قوس واحدة. فإنه إذا تلاحقت السهام رشقاً كالجراد لم يخل أن يكون فيها سهم صائب)

أو كما فعل طارق بن زياد حين عبر العدوة من الأندلس وبلغه دنو (الذريق) فخطب خطبته المشهورة التي أولها (أيها الناس! أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم وليس لكم والله إلا الصدق والصبر)

ومن الخطب السياسية خطب الفتوح وتلقى عادة عند إتمام فتح أو إكمال غزو. والغرض منها بالطبع الدعوة للفاتح الجديد وتهنئته وإدخال الناس في طاعته. وضمهم إلى حوزته. وأشهر الخطب من ذلك النوع خطبة القاضي محيي الدين بن علي المعروف بابن الزكي التي ألقاها في مسجد القدس مهنئاً صلاح الدين بأخذ بيت القدس من الصليبيين. وهي خطبة تاريخية طويلة تمتاز بقوة عبارتها ألا إن السجع يفشو فيها جريا على طريقة عصرهم وأسلوب زمانهم

وهناك طائفة من الخلفاء تغلب الصنعة الخطابية عليهم؛ فلقد كان الخلفاء الراشدون خطباء فصحاء كما كان معاوية وعمر بن عبد العزيز الأمويان والمنصور المهدي والرشيد العباسيون وقد يجتمع الشعر والخطابة في واحد كما كان ذلك عند العرب في قطري بن الفجاءة شاعر الخوارج وخطيبهم وعلي ابن أبي طالب. وعند الفرنجة في لامارتين وفكتور هوجر. ومن الوزراء الخطباء وليم بت واللورد جون رسل أكبر زعماء الأحرار في القرن التاسع عشر، وغلادستون، ولويد جورج وتشرشل

ولابد للخطيب على كل حال من الصوت الحسن وحلاوة الألقاب وحسن النغم. وممن أوتوا تلك الموهبة جون برايت الإنجليزي مناصر غلادستون، وأنجرسول الأمريكي الذي كان يستهوي سامعيه بحسن إيقاعه وحلاوة صوته؛ وغلادستون الذي له في السياسة الإنجليزية في القرن التاسع عشر مواقف مأثورة

محمد عبد الغني حسن