مجلة الرسالة/العدد 521/أدباء عالميون
→ الخطابة | مجلة الرسالة - العدد 521 أدباء عالميون [[مؤلف:|]] |
الأحلام. ← |
بتاريخ: 28 - 06 - 1943 |
1 - موريس ماترلنك
للأستاذ صلاح الدين المنجد
ماترلنك من الأدباء الذين فتنوا بآثارهم القلوب ولذّوا العقول، بلغ من شأنه أن خُصَّ بآثاره نُهاد المئة من الدراسات الطوال الجِياد في لغات مختلفات. فقد أوتيت آراؤه من الأصالة والواقعية والخيال ما جعلها تأسر وتُعجب، فهي سحر من السحر لا يقاومه إنسان
ولد ماترلنك في (غاند) من أسرة قلامندية. فشدا طرفاً من العلم على الآباء اليسوعيين. وكان له هوى شديد إلى القراءة فكان لا يدع كتاباً وقع في يديه حتى يفرغ منه، غير آبهٍ بموضوعه، ولا حافل بجودته وغثاثته. ولم يستطع الآباء اليسوعيون أن يؤثروا فيه فنشأ عزوفاً عن الدين ضعيف الإيمان. فلما فرغ من دراسة الإنسانيات، انصرف إلى دراسة القانون، لا رغبة منه فيه، ولكن ابتغاء مرضاة ذويه. على أنه لم يُرافع أمام المحاكم إلا مرات معدودات. ثم صدف عن القانون ويمم وجهه إلى باريس (1886) فأقام بها وعرف أدبائها. فاجتمع (بسان بول رو وو (إفرام واستطاع (فيلير دُليل ' أن يملك قلب هذا الفلمندي الشاب بقوة شخصيته وخصب قريحته. وكان فيلير من أدباء المذهب الرمزي، فنحا ماترلنك نحوه، ونشر في مجلة (البلياد قصة سماها (مذبحة الأبرياء) فأعجب بها الناس، وتطلعوا إلى هذا الأديب الجديد
وقضى ماترلنك في باريس سبعة شهور، ثم مضى إلى الفلاندر فكان يقطع الشتاء في (غاند) ربع ميلاده، والصيف في (أوستاكر في مزرعة ريفية، حيث يعنى بغرس الأزاهر وتربية النحل، وهو يصف لنا حياته فيها بصفحات ممتعات من كتابه (حياة النحل ويظهر أثر الطبيعة الفنانة في تأريث وحيه الأدبي
أخذ يكتب ماترلنك لمجلة بلجيكا الفتاة فنشر فيها مأساته الأولى (الأميرة مالين ولم تثر هذه المأساة اهتمام الناس، عند نشرها، حتى أتيح لها ناقد ينقدها، وإذا بماترلنك يسمو إلى ذروة المجد، وإذا بصيته يذيع وبشهرته تستفيض. فلقد كتب عنها آنئذ الروائي أوكتاف ميربو هذا الهجاء اللاذع، والأديب الذي أخرج أروع المآسي الحديثة. رأى ميربو ما في مأساة ماترلنك من جمال وكمال، فتكلم عليها بمقال ظهر في (الفيفارو) سنة 189.
ظهرت المقالة حتى تردد اسم ماترلنك، وإذا بالناس يقبلون على مأساته يقرأونها ويناقشونها، ويجعلون كاتبها من العباقرة الخالدين
لقد كتب ميربو يومئذ يقول: (وما أدري إن كان هذا المؤلف شيخاً أم شاباً، غنياً أم فقيراً، ولكني أعلم أن ليس بين الأدباء رجل مغمور مثله، وأعلم أنه أتى بمأساة رائعة، تضمن له الخلود، وتضمن له إعجاب أولئك الذين يتتبعون الجمال، وأعلم أنه أخرج لهم مأساة فتانة كتلك التي يحلُم بها الفنانون الملهمون في ساعات الحماسة، وكالتي لم يكتب أحد مثلها حتى اليوم. لقد قدّم لنا موريس ماترلنك أعظم أثر عبقري في زماننا، لا أغالي إذا قلت إنه يسمو في جماله على ما في آثار شكسبير من جمال، هذه المأساة، هذا الأثر يسمى (الأميرة مالين)، فهل في هذا العالم عشرون رجلاً يعرفها. . .؟)
ولم يصرف هذا النجاح المتألق ماترلنك، عن طريقه التي سار فيها، وشعر بدافع يدفعه نحو الصوفية. . . ودأب على إصدار درامات طريفات، ليس في أدب من آداب الأمم مثلها، وسنلخصها ونبين ما فيها من سحر وجمال
ولابد من الإشارة قبل المضي في تحليل آثار ماترلنك، إلى أن قليلاً من الكتاب مَنْ يستطيع أن يجاري ماترلنك في سلاسة أسلوبه وصفائه، وخصوبة ألفاظه وبراعته، وسحر الجو الذي يحيط به دراماته. وقد يكون من العسير أن أبين لك صفات الأشخاص نفسها، فهي مخلوقات، فوق المخلوقات البشرية لا تحس إحساسنا ولا تشعر بما نشعر به من عواطف دنيا. بل تهزها أبداً عواطف نبيلة سامية، أكثر رفعة، وأكثر صفاء من العواطف التي تغمرنا. ومع ذلك فإنك لترى ألفاظاً عميقة تصف هذه العواطف النبيلة لا تجدها عند غيره. ولقد استطاع أن يصور الحب والقلق والحسد والألم والرعب والطمأنينة بما لم يصفه بها أحد. وهو في أكثر دراماته يحاول أن يبين تلك القُوى العلوية التي تؤثر في مصيرنا وأعمالنا وحياتنا، وهو لا ينصح ولا يدعو إلى الأخلاق. . . عمداً، فقد يضحي من أراد ذلك بجمال المأساة أو القصيدة الفني (ولكن ما على الشاعر أو الأديب من حرج إذا أوصلنا إلى حقائق أخلاقية مقبولة دون أن يُفقِد القصيدة شيئاً من زينتها في شكلها وفكرتها)
وإذن، فنحن إلى جانب عنايتنا بتبيان الناحية الفنية في آثار ماترلنك سنعنى بتبيان آرائه الفلسفية التي يسوقها عن تلك القوى العلوية، عن العالم المجهول كانت أولى دراماته، كما ذكرنا، الأميرة مالين. فهي التي دفعت به إلى قمة المجد، بعد أن كتب عنها ميربو ما كتب. في هذه الدرامة تشعر بجو غريب لا عهد لك به. . . بلاد واسعة لا نهاية لها، تحسبها في آن واحد، بلاداً خرافية، وحقيقية. . . وفيها يدع ماترلنك الإنسان والطبيعة يقدمان الأدلة على الشك في قوتهما وضعف إرادتهما، وعبوديتهما. في هذه البلاد، ترى بحيرات راكدة محاطة بالغابات، وقصوراً شماً ذات دهاليز مظلمات، وأقبية سوداً مخيفات؛ وترى بروجا مهدمة تريد أن تنقض تحت ثقل القرون الطوال. وترى حدائق غُلباً لا تطأها قدم إنسان، وقد ألفها الحزن والظلام. هذه القصور التي تجثم فوقها ذكرى الجرائم الخاليات، والآلام الدائمات، هي في آن واحد عظيمة وحقيرة، مأهولة ومقفرة. يروع أهلها ذات يوم خوف شديد، فيجتمع شبانها وشيوخها يتبادلون الرأي، ويبحثون في الأمر ويتحاورون محاورات يظهر فيها ماترلنك البعد الساحق بين هؤلاء وهؤلاء في أفكارهم وأعمالهم ومصائرهم
ويبقى القارئ في جو غامض لا يدري أنى يخرج منه. وفجأة تبرز له المشكلة التي بنيت عليها الدرامة. لقد وقف الموت: هذه القوة التي لا ترى أمام الحب والسعادة، لأن هذه القوة الفاجعة، تبغض هذه السعادات؛ هي تبغض الحب، والأمن والهدوء، فهي أبداً تسعى لتهديمها. وهنا يظهر ماترلنك متشائماً، فأي سعادة ترتجيها والموت حيال عينيك لا يزول؟
والحق أنه ليس أدعى إلى التشاؤم واليأس من قدَر مالين. لقد كانت تحب. وكانت تُحَب. لقد سميت على ولي العهد؛ حبيبها وخطيبها. ولكنها، وهي في فوران الهناءة والسرور، تسمع بخيانة خطيبها؛ فتجن وتموت بالخناق دون أن تتثبت مما سمعت؛ ويعلم خطيبها (هجالمار) بما فعلت حبيبته فينتحر
والفكرة بسيطة كما رأيت؛ ولكن ماترلنك يوقظ فيك وأنت تقرأها أدق المشاعر، وأخص العواطف؛ ويؤثر فيك تأثيراً بالغا. ًوهي لعمري درامة شكسبيرية بكل ما في هذه الكلمة من معنى
(للبحث بقية - دمشق)
صلاح الدين المنجد