مجلة الرسالة/العدد 520/من الغرب
→ تشارلز دكنز | مجلة الرسالة - العدد 520 من الغرب [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 21 - 06 - 1943 |
أغاريد بليتيس
لشاعر الهوى والغزل بيير لويس
(إلى شادية الأغاني!)
بقلم الأستاذ عبد العزيز العجيزي
(بليتيس)
فتاة غيداء فاتنة، مزملَّة بالصوف، وكاعب حسناء ساحرة، مدبَّجة بالدمقس والحرير، وغادة زهراء شائقة، متشحة بالكروم والأزهار، وغانية هيفاء رائعة ملتفة بأوراق الأشجار. . . أما أنا، فسافرة المحيا، عارية الجسد، خالعة العذار، حاسرة الإزار، ممزقة الغُلف، هاتكة سادل الحجب، متجردة من الحلي والذهب، ومن نعل يقي قدمي. هاأنذا بليتيس يا حبيبي! خذني بين أحضانك، عارية بلا ثياب تستر غصني المعتدل الفارع، ولا دثار يغطي قوامي الممشوق البارع.
حبيبي إن ليل شعري ظلال حلكته، ودجى غدائري منساب حول قدي، مسترسل على جسدي كأبهى الرياش. . . وثغري الدقيق، يقطر الشهد والرحيق، من بين فصي عقيق! حبيبي؛ خذني بين ذراعيك، وضمني إليك، واهصر عطفي بساعديك، ثم انهل رحيق ورودي، واقطف جنى ثماري، وارشف خمر أزهاري. . .
هاأنذا عارية كما جاءت بي أمي في نزوة من نزوات الهوى الجامح والهيام الدافق. . . فاشد بالأغاني إذا فتنك هيف قوامي، واصدح بالأماني إذا سحرك أضحيان جمالي، وترنح بالألحان والأنغام، ترنح النشوان بالمدام!
(تسابيح الليل)
امتدت ظلال الأشجار القاتمة، وأشباحها القائمة، كما يمتد الطود الراسخ. وانتشرت الكواكب متألقة في مساري الأفلاك ومسابح الأملاك؛ ولاطف النسيم الحالم أهداب الجفون الناعسة، وداعب العبير اللافح ورود الخدود الزاهرة. . . بينما الليل ساج، يوحي الأشع بسكونه، ويلهم الأفكار بصمته، والدجى ساهر يردد ترانيم قيثاري، ونسيمه الرقراق هائم يداعب غدائري، والظلام ناشر على قدمي غلالة من السحر والفتون. . . فتأخذني روعة جلاله، وتهيجني فتنة جماله. هنالك. . . يجود سنا محياي الباهر، بربيع موفق زاهر، تتفتق فيه الورود، وتتفتح الأزهار، ويفوح النسيم معطراً من شذى نسماتي، وعبير نفحاتي؛ وتذيع نسمات الروض همسات شوقي وحنيني، ويرتل هزار الأيك شكاة تأوهي وأنيني؛ ثم تسطع النجوم، وتأتلق الكواكب من سنا عينيّ، وضياء محياي!
واهاً حبيبتي! أترانيم صوتك العذب الندي، من شدو خرير المياه المترقرقة، أم من سكون الطبيعة الصامتة؟! واهاً لصوتك الحلو الرنين! واهاً لنغمك الشهي الرخيم! واهاً لغنائك الذي يهزّ أحاسيس نفسي وحياً وإلهاماً، ويثير أهازيج قلبي طرباً وإعجاباً. . .
(آهات)
علت وجهي حمرة الخجل، ولم ألب نداء الغزل، لرشف سلاف القبل. . . فارتعشت كزهرة بللتها حبات الندى، واضطرب قلبي؛ وخفق لخفقان فؤادي صدري ونهداي. . . وبعد دلال يثير الوجد، وإعراض يذيب الكبد، قلت: أواه. لا. لا!. . . ثم أسندت رأسي إلى الوراء. ولكن لم تغادر قبلة الحب شفتيّ، ولم تفارق رعدة الهوى ساقيَّ!
حينئذ، عانق رأسي مستعطفاً، طالباً عفوي وصفحي. . . فتنسمت شذى أنفاسه، ونشقت عبير أنسامه، وتأرج النسيم بنفح زفراته؛ ثم مضى عني وارتحل. . .!
أواه! هاأنذا وحيدة حزينة، أبكي ربيع حبي الراحل، وأندب زهر عمري الذابل، بعد أن طوح بي البعد في بيداء الهجر، بين تأوهات الحسرات، وتناوح العبرات!
أواه! هاأنذا راسفة بين أكداس آلامي وأحزاني، غارقة في خضم أسقامي وأشجاني؛ شاكية لوعة هواي، باكية هوى صباي! وقمت أنشد حبي الثاوي في الغاب المهجور، والربع المقفر؛ ورحت أناجي شبابي الهاوي في الرياض الموحشة، والمسالك الواجمة التي كتمت سر غرامنا مذ وطئتها أقدامنا! فلم أر من الأطياف إلا أشباح الذكريات، ولم أسمع من الأصوات إلا أصداء التأوهات!
أواه! لقد نفشت كظيم لوعات حيري حزينة، وزفرت أليم آهات حري كليمة، تهاوت بين الحشائش متهالكة، يذيبها الجوى، وتوارت بين الأعشاب غضبي كسيفة، يدميها الضنى! (أمطار)
ترقرق المطر فبلل الكون برذاذه، ولا مس الأرض بقطراته، ثم جاءت السماء بماء منهمر؛ وطاب لي السير تحت وابله وطله، متفيئة بوارف الشجر وظله.
واهاً للمطر في الربيع! ما أرقه وأعذبه! ما أروع الأغصان الدانية، وقد كللها الزهر الزاهي، وتهاوت عليها ظلال النوّار الضاحي، وماء المطر الضافي؛ فانتشر منها أريج يفوح بالعطر الزكي، والعرف الندي؛ وطاف بالنفس الولهى فأطربها، وحلق فوق الروح الحيرى فأنعشها. ولاح سنا محياي مشرق الضياء، ساطع اللألاء!
واحسرتاه! كم من الأزهار النضرة مبعثرة في الفضاء؟ كم من الورود العبقة ملقاة في مدارج الفناء؟ فرحمة بها يا حبيبتي ورفقاً! إدخريها للنحل، كي لا تهب عطرها للريح، وتذهب أدراجها برياها وجناها، ملوثة بطين الأرض وأقذارها.
عبد العزيز العجيزي