الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 520/لكي ننتفع بتجاريب غيرنا

مجلة الرسالة/العدد 520/لكي ننتفع بتجاريب غيرنا

مجلة الرسالة - العدد 520
لكي ننتفع بتجاريب غيرنا
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 21 - 06 - 1943

2 - المسرح في أوربا

بين حربين

(في إنجلترا)

للأستاذ دريني خشبة

رأينا في الكلمة السابقة كيف علل إرقن عوامل الرقي والانحطاط في المسرح الأوربي بوجه الاجمال، وعرفنا وجهة نظره في جمهور النظارة؛ وسنرى كيف يربط وجهة نظره تلك بتأخر الدرامة بعد الحرب الكبرى في أوربا عامة وفي إنجلترا على وجه الخصوص، ثم ما نشأ عن انحطاط حاسة هذا الجمهور الفنية من قيام المسارح التجارية التي أجهزت على البقية الباقية من السمو المسرحي الذي ورثته أوربا عن جهابذة كتاب الدرامة وشعرائها قبل تحول هذه القارة من الزراعة إلى الصناعة، ثم ما صنعته الحرب الكبرى من التحلل في أعصاب الأوربيين وما أفسدت به أرواحهم من انتشار الخلاعات في معظم شعوبهم ولاسيما في شعوب البحر الأبيض المتوسط أو الشعوب اللاتينية على وجه التخصيص

لم تعد تروج المأساة في مسارح هذه الشعوب المحتاجة إلى ما يرفه عنها. . . لقد فقدت إنجلترا قرابة المليون من زهرة شبابها المثقف اليانع، وقل الرجال في فرنسا التي فقدت في تلك الحرب المشئومة أكثر من مليونين، وكان لقلتهم أوخم العواقب الاجتماعية والأخلاقية، فقد فشت الخلاعة، وانتشرت الرشوة، ونفقت السوق السوداء، وخربت الأمم، واختلت معايير الفضيلة، وأصبحت الخيانة الوطنية أبسط الجرائم التي تقترف دون مبالاة. أما في إيطاليا فقد خنقت الحريات باسم الإصلاح الفاسستي، ذلك الإصلاح المادي الذي ملأ روح الأمة بالخيلاء والزهو الكاذب وأفسد فيها مثُل غاريبلدي العليا. . وفي أسبانيا حدثت القلاقل التقليدية في تاريخها المفعم بالأعاجيب، فطاح عرش ألفونسو، وشبت الحرب بين الاشتراكيتين اللتين تصطرعان الآن في روسيا وألمانيا، وانصرف الجمهور عن المسرح بعد إذ كان يشارك الجمهور الإيطالي في الذهاب إليه (بالجملة) حيث كانت العائلات تقصد بكامل هيئاتها لشهود الروايات التمثيلية حاملة معها عشاءها أو غداءها فلا تجد بأساً من تناوله أثناء التمثيل. أما في روسيا وألمانيا فقد عرفنا رأي الاشتراكية في الفنون والآداب والأخلاق والأديان في الكلمة السالفة، وعرفنا كيف خضع المسرح فيهما لخدمة الدعاوة السياسية مما حاد به عن الجادة

فمن غير المعقول أن ير في التأليف المسرحي في شعوب هذه حال الكثرة الساحقة من أفرادها، وإذا قدر لنوع من التأليف أن يروج فيها فلابد أن يكون النوع الذي ينحط إلى مغازلة هذه الأذواق المريضة والأعصاب المنهوكة والأرواح المتعبة؛ ومؤلف الدرامة مضطر إلى أن ينصاع للخطة التي تمليها عليه الظروف المسرحية والتي ترسمها وتتحكم فيها نقود ذلك الجمهور، تلك النقود التي أتلفت الدرامة الفنية وخلقت المسارح التجارية في طول أوربا وعرضها ولاسيما في فرنسا وفي إنجلترا. إننا نردد في مصر دائماً أن واجب رجل المسرح سواء أكان مؤلفاً أو مخرجاً أو ممثلاً هو أن يرتفع دائماً بالجمهور لا أن ينحط إلى مستوى الجمهور، ثم ننسى أن ذلك الارتفاع بالجمهور الذي ننادي به هو عمل شاق يتعرض دائماً لظروف تجعل المهمة تنتهي دائماً إلى الفشل الذريع، لأننا نتعامى عن عيوب جمهورنا الذي كان ينبغي إصلاحه وتهيئته لشهود الروائع المسرحية. إن جمهورنا بثقافته التي لا نجهلها غير مستعد لشهود الدرامة الهادئة التحليلية ذات القضايا التي تنتهي إلى نتائج ترضي العقل ولا تستفز القلب، وتقنع التفكير ولا تحرك العاطفة. ولقد حاولت الفرقة القومية المنحلة القيام بهذا العمل الجليل، فماذا كانت النتيجة؟. . . إنها لم تجد جمهوراً. . . لأنها نسيت طبائع هذا الجمهور فلم تعالجها العلاج المعقول ولم تزخرف له من المغريات ما تجذبه بواسطته إليها. . . ولو أننا الآن بسبيل الكلام عن المسرح المصري لخضنا في الحديث عن الفرقة القومية التي أدى إلى حلها، كما أدى إلى إلغاء معهد التمثيل، تفكير أمي مرتجل يدل على قصر النظر إن لم يدل على العمى المطلق الذي يصيب سياستنا الإنشائية دائماً. . . ولما كان لهذا الحديث حينه إن شاء الله فنحن نرجئه لوقته. . .

تحكم العامل الاقتصادي إذن في خلق المسرح التجاري في أوربا جميعها، وفي إنجلترا خاصة، ولكي نعذر مديري المسارح التجارية في الانزلاق بالدرامة وبالمسرح في هذه الهوة التي لم تكن تليق بأسمى الأعمال الفنية الثقافية. نذكر أن متوسط نفقات المسرح العادي في إنجلترا في الأسبوع الواحد هو أربعمائة جنيه، ويقفز هذا المبلغ في مسارح الوست إند الإنجليزية إلى 1200 جنيه أو 1300 جنيه في الأسبوع، إذ يقدر إيجار المسرح بما يتراوح بين 250 و 600 جنيه في الأسبوع الواحد، ومتوسط إيجار أحد المسارح اللندنية اليوم هو 400 جنيه في الأسبوع، وبإضافة أجور الممثلين والإداريين ومصممي المناظر ومهندسي الإضاءة والخدم والمستخدمين الآخرين ورجال الأركسترا وأجور الإعلان والنور والتدفئة الصناعية وثمن الدرامة وضريبة الملاهي (وإن تكن محتسبة على النظارة) يقفز المنصرف على المسرح أسبوعياً إلى ما ينيف على الألف جنيه بكثير. وإذا علمنا أن ثمن تذكرة الكرسي الممتاز هو ستون قرشاً (12 شلناً)، وأن ثمن الكرسي العادي هو تسعة قروش عرفنا أن إيراد المسرح متوقف إلى حد بعيد على ثمن الكراسي الممتازة (الألواج والبناوير والكراسي الأمامية) وهي الكراسي التي يدفع ثمنها الأغنياء من الجمهور الذي وصفنا، فإن لم يعمل مدير المسرح حساباً لذوق هؤلاء الأغنياء انصرفوا عنه بطبيعة الحال وتكون النتيجة المنطقية هي الخراب والإفلاس إذ تسقط الرواية من الوجهة الاقتصادية، والمدير محتاج - كي يغطي مصروفات الإخراج فقط - إلى أن تباع جميع كراسيه في حفلات شهرين على الأقل، لأن فترة الإخراج لا تدر عليه إيراداً، وهي عادة تكلفه ثلاثة أسابيع، أي أنها تكلفه حوالي أربعة آلاف أو خمسة آلاف من الجنيهات. ومن أظرف ما يورده إرفن بهذه المناسبة أن جميع المديرين في مسارح لندن، بل في جميع المسارح الإنجليزية هم رجال مثقفون ثقافة ممتازة، وهم لهذا يخجلون من أنفسهم كلما بالغوا في الإسفاف بالدرامة إلى حضيض التهريج والشعبذة ليضمنوا إقبال الطبقة الخاصة من هؤلاء الأغنياء التي تشتري التذاكر ذات الأثمان المرتفعة

(وليس أحب إليهم، لهذا السبب، من أن يقدموا للجمهور درامات من عصارة الفكر ولباب الفلسفة لو ضمنوا جمهوراً من الأغنياء الفلاسفة؛ إذ لو تأخر الزمن بشكسبير وأقبل بعد الحرب الكبرى وفي يده روايته الخالدة هملت ليعرضها على أحد هؤلاء المديرين لألقوه جميعاً من نوافذ مسارحهم، إن لم يلقوه في شيء آخر داخل هذه المسارح (!!) وذلك لأن في رواية هملت ثلاثين بطلاً يقتل معظمهم، ثم منظر هذا الشيخ المفزع كفيل بتمزيق أعصاب المترفين من جمهور النظارة. . . فما لهم ولهذه المهلكات التمثيلية، وما جاءوا إلا ليلهوا هذا اللهو الخفيف الظريف الذي لا يسيل دموعاً ولا ينكأ في القلوب أوجاعاً!! ولا شك في أن شكسبير كان يرتد على عقبيه كسير الفؤاد كاسف البال فينطوي إلى الأبد على نفسه، وتضيع عبقريته التي تألقت في عصر إليزابث هباء منثوراً)

وقد عولج هذا الخطر في إنجلترا علاجاً جميلاً، إذ أنشئ في كل مدينة إنجليزية هامة مسرح من المسارح باسم أو المستودع - إن جازت هذه الترجمة السقيمة - أو مسرح الروايات التي سبق تمثيلها. وتمتاز هذه المستودعات بقلة النفقات، إذ لا يتجاوز مصروفات أحدها المائة من الجنيهات كما تمتاز بتفاهة أجور الممثلين وثبات ما تنفقه على المناظر لأنه لا يتكرر إلا كلما رث وأصبح غير صالح للاستعمال، ثم هي معفاة تقريباً من مصروفات الإخراج. فمن أشهر تلك المسارح مسرح برمنجهام الذي يدين ببقائه لكرم المستر باري جاكسون؛ ثم مسرح منشستر الذي كان يدين بوجوده للمِنح الكبيرة السخية التي تنفحه بها الآنسة تلك الإنجليزية العجيبة التي كانت تنفق من حر مالها على مسارح كثيرة حفظاً لها من الإنحلال؛ فمن تلك المسارح التي كانت تنعم بأعطياتها مسرح دبلن بإيرلندة أما مسرح هو الآخر يعتمد في مواصلة أعماله على كرم اثنين من أسخياء الإنجليز. . . وقد كانت معظم هذه المسارح تستمد قوتها من مسرح الكورت بلندن الذي كان يأذن لها جميعاً في تمثيل رواياته بل كان يمدها ببعض ممثليه. . . على أن مسارح المستودعات كثيراً ما كانت تحيد عن تقاليدها فتخرج روايات جديدة للمؤلفين المبتدئين. ومن هنا كانت فائدتها الجزيلة في إظهار عبقريات إنجليزية لم تكن لتبرز إلى الوجود لولا هذه المسارح. وحسبك أن تعلم أن برمنجهام كان الحقل الأول الذي نما فيه جون درنكووتر حيث أخرج له روايته المعروفة (أبراهام لنكولن)، كما نما فيه أيضاً شاعر الأوبرا المشهور (رتلاند باوتن)؛ وأن مسرح دبلن كان الحقل الأول الذي ازدهر فيه العاهل الدرامي الكبير جون. م. سينج والمستر لِتكس روبنسَن والليدي جريجوري. والذي يهمنا من هؤلاء الثلاثة هو سينج الذي يسمو إلى مرتبة شو في المسرح الإنجليزي الحديث؛ ولولا مسرح دبلن لما ظهر في الوجود. وفي مسرح منشستر: الـ ظهرت عبقرية ستانلي هاوتن، شارلز ماك إفوي ومستر الآن منكهوس. وفي ليفربول تألق نجم المستر رونالد جينس الناقد المسرحي اللامع. . . أما في مسرح الكورت بلندن فقد وثب إلى قمة المجد مستر شو وجولذ ورثي وجرانفيل باركر وجون هانكن. . . وكما كانت هذه المسارح وسيلة لإظهار هذه الطائفة الضخمة من كبار المؤلفين فكذلك كانت سبباً لظهور أكابر الممثلين الإنجليز. وقد كان مسرح ليفربول أعظم مدرسة إنجليزية لتخريج أحسن ممثلي الطراز الأول كما بدأ نبوغ الممثلة الذائعة الصيت سيبيل ثورنديك في مسرح منشستر وهي التي أصبحت درة مسارح الوسْت إند فيما بعد. . . وكذلك أخرجت تلك المسارح طائفة عظيمة من كبار المخرجين وعلى رأسهم المستر باسل دين كما أخرجت الكثيرين من مصوري المناظر وفي مقدمتهم المستر جورج هارِسْ

أما ما كان يعاب على مسارح المستودعات هذه فجملة أمور أهمها ضآلة أجور الممثلين وضآلة المكافآت التي كانت تمنحها للمؤلفين الناشئين - وكثيراً ما كانت المس هورنيمان وغيرها من أسخياء الإنجليز هم الذين يشترون الروايات الجديدة ويمنحونها للمسارح على سبيل الهدايا ومن باب التشجيع، - وكانت هذه المسارح كلها متقاطعة فيما بينها، فلا يتصل أحدها بالآخر، ولا تقوم فرقها بزيارات إقليمية، وكانت عنايتها بالروايات الجديدة تافهة كما قدمنا. ولعل هذا كان سبباً في تخليد تلك الثروة العتيدة الضخمة من الروائع المسرحية القديمة التي لولا مسارح المستودعات لاختفت إلى الأبد أو لأصبحت محبوسة في بطون الكتب لمن شاء أن يقرأها لا لمن يحاول أن يمثلها أو يشهدها على خشبة المسرح قطعة فنية حية تتحرك بأشخاصها ومناظرها وعنصرها وموضوعها. على أن أكبر عيوب تلك المسارح هو الملل الذي يتسرب إلى نفوس النظارة من كثرة ما يشهدون ممثليها، إذ يتفق للمتفرج أن يشهد الممثل ثلاثين أو أربعين مرة (هذا في إنجلترا!) في السنة الواحدة، وفي ذلك من الإملال لنفس المتفرج ما فيه، والمتفرج - بل كل نفس بشرية - محتاجة إلى التشويق بالأشخاص الجدد حاجتها إلى الهواء الجديد والمناظر الجديدة والموضوعات الجديدة. ولعل هذا الركود في وحدة أشخاص الممثلين هو الذي أوشك أن يقضي على تلك المسارح بانصراف الجمهور عنها - ولعل هذا أيضاً هو أحد العوامل التي هونت على الجمهور المصري شأن المسرح وسببت انصرافه عنه. وهم يقترحون لاستدراك هذا الخطر - في إنجلترا طبعاً - تسهيل تزاور هذه الفرق ليعرض كل منها رواياته في مسارح البلدان الأخرى، على ألا تتحمل الفرق مصروفات الانتقال أو أجور المسارح التي تزورها ما دام التزاور سيكون على قاعدة التبادل المنفعي. . . ومن عيوب مسارح المستودعات أيضاً سرعة تغيير البرنامج الذي يقتضيه الفرار من إملال الجمهور المتشوق إلى رؤية الجديد دائماً. . . وسرعة تغيير البرنامج تؤدي إلى أخطار كثيرة منها عدم عناية الممثل بدوره لكثرة إرهاقه بالعمل. وكان المسرح الألماني يتخلص من نتيجة ذلك بتمثيل الرواية الواحدة في أكثر مسارح الـ في وقت واحد ولمدة طويلة معينة ربما امتدت إلى أكثر من خمسة عشر أسبوعاً، وبذلك يضمن ربحاً معقولاً للمؤلف الذي تخصص له حصة معلومة من جميع المسارح، كما يضمن الراحة لجميع أفراد الممثلين الذين يتمكنون بذلك من أداء أدوارهم على خير وجه مضمون. على أن الألمانيين، قبل الحرب الكبرى، كانوا يعرفون للمسرح قدره، وقد ضاقوا ببطء الأساليب المسرحية الإنجليزية فأنشأوا مسارحهم الخاصة على منوال جديد وذلك بتشييد المسارح الشعبية الحرة ' التي كانت بلديات المدن الكبرى تمدها بإعانات على جانب كبير من السخاء كما كانت هي تتألف عن طريق الاشتراك من آلاف الأعضاء الذين كانوا يمنحون امتيازات عظيمة لشهود الروايات، وكان أجر الدخول لا يتجاوز الخمسة قروش قط، كما كانوا، مقابل جنيه واحد في السنة، يحصلون، يحصلون على مجلة مسرحية ثقافية ويملكون الحق في شهود عدة محاضرات ثقافية تلقى عليهم بانتظام، هذا إلى حضور أربعين حفلة تمثيلية بالمجان موزعة على الفصل التمثيلي السنوي. والعجيب في ألمانيا أن برلين نفسها كانت متخلفة في الحركة التمثيلية وراء جميع المدن الألمانية الكبرى فلم تكن تفرض هذا الذوق الـ أو العاصمي الذي تفرضه العواصم الأخرى على المدن الأقل شأناً في المملكة؛ فكان لمدينة كولونيا مسرحها الشعبي العتيد الذي كانت بلديتها تمنحه سنوياً مبلغ خمسة وعشرين ألفاً من الجنيهات؛ وكذلك كان لمدينة ثورن، وهي من أصغر المدن الألمانية، مسرحها الشعبي الذي كانت تمنحه بلديتها مبلغ ألف جنيه سنوياً. وقد مثل مسرح كولونيا رواية المعركة لجولذورتي الإنجليزي فربح منها أضعاف ما ربح في إنجلترا.

دريني خشبة