مجلة الرسالة/العدد 520/الحديث ذو شجون
→ دفاع عن البلاغة | مجلة الرسالة - العدد 520 الحديث ذو شجون [[مؤلف:|]] |
لكي ننتفع بتجاريب غيرنا ← |
بتاريخ: 21 - 06 - 1943 |
للدكتور زكي مبارك
بين الحب والإعجاب - شبهة لغوية - غناء وغناء
بين الحب والإعجاب
الصلة بين الكاتب والقارئ منوَّعة الألوان، فهنالك كاتب يحبه القارئ، وكاتب يعجب به القارئ، وكاتب يظفر بالحب والإعجاب
ومَرَدُّ الأمر إلى ذاتية الكاتب، فإن كان أدبه أدب وجدان فهو جدير بالحب، وإن كان أدبه أدب ذكاء فهو خليق بالإعجاب، وإن جمع بين الوجدان والذكاء فهو الكاتب المنشود، وهو الذاتية الكاملة فيما يرى أصحاب الأذواق وأرباب العقول
والظاهر أن الأدب الحق يأخذ زاده من الذكاء ومن الوجدان، فإن خلا من أحد هذين الزادين فهو عُرضة للضعف، وإن خلا منهما معاً فهو إلى فناء
وقد يظن بعض الناس أن الذكاء والوجدان من المواهب الثوابت، وأن من حق الموهوبين أن يتكلموا حين يريدون. وهذا توهم، فما يستطيع أعظم عقل أو أكبر قلب أن يجود بالمعاني في كل وقت، وإنما هي بوارق تَصدُر عن العقل والقلب من حين إلى أحايين
ومع هذا فمن المؤكد عندي أن العقول تُراض وأن القلوب تُراض، ولكن كيف؟
هنالك أغذية لا يعرفها مؤتمر الأغذية، وهي التأملات في دقائق الفروق بين الحيوات الحسية والمعنوية، وهي فروق لِطاف لا يدركها غير قلب الأديب وعقل الفيلسوف
والظاهر أيضاً أنه لابد من التزود بما سميته (الحاسّة الفنية) وهي حاسة لا توهب لجميع الناس، وإنما يختص الله بها من يشاء، وإلا فكيف جاز أن يكون النوابغ في كل أمة آحاداً وإن زاد أبناؤها على عشرات الملايين؟
إن الوجود كتابٌ مفتوح، ولكنه لا يُقرأ بسهولة، ولا يجتلي أسراره غيرُ أفراد، فكيف نصل إلى لُبابه المكنون؟
أعتقد أن مسئوليتنا نحو أنفسنا خطيرة، فنحن نضيع فرص التأمل، ونحن نتهيَّب ما يُغضب المجتمع، ونحن نجعل السلامة شارة النصر المب الأصل في الأدب أن يكون ثورة عقلية وذوقية، والأصل في طبيعة الأديب أن تكون قوة موحية، قوة تُعطى وتَمنح، وعنها تصدر أقباس الفكر وألوان الخيال
وليس معنى هذا أن يعيش الأديب عيش المحادة للمجتمع، فالمحادة المقصودة عناد بغيض، ولكن معناه أن يستقل الأديب عن الموحيات الخارجية، موحيات الظروف، بصورة تجعل أدبه من وحي الخلود
ويظن ناسٌ أن الكاتب المحبوب هو الذي يحدّث قراءه عما يألفون، وهذا خطأ في خطأ، وإنما الكاتب المحبوب هو الذي يمضي بقرائه إلى شِعاب من الفكر والروح والوجدان لا يصلون إليها بغير دليل. فمن غفلة بعض الكاتبين أن يأنسوا إلى العامية الفكرية، عامية الرأي المبذول بغير حساب على اختلاف عهود التاريخ. وما قيمة الكاتب إن لم يُشعر القارئ بأنه هداه إلى أفق جديد من آفاق العقل والروح، ولو بلمحة سانحة في أثناء الحديث؟.
يجب أن تكون للكاتب ذاتية عقلية وروحية، عساه يخلُق في القارئ وجداناً يحس به حقائق الوجود. فليس بكاتب ولا مفكر من يكون محصوله نُفاضة من أضابير زهد فيها العنكبوت
والأدب عند كل أمة وفي كل عهد سموٌ وعَلاء، أو هو التعبير الصحيح عن المطامح الكريمة في السمو والعلاء، ولهذا كان من أساسه الأصيلة أن يكون طريف الفكرة جميل الأسلوب
وليس المراد من طرافة الفكرة أن تكون رأياً لم يسمع بمثله الناس، لا، وإنما المراد أن يكون تعبير الكاتب عنها تعبيراً ذاتياً يجعلها من الطريف، بحيث لو تحدث عنها غيره لعُدت من الحديث المعاد
أما جمال الأسلوب فله عندي مقياس يخالف المعروف من المقاييس، والكاتب صاحب الأسلوب في نظري هو الكاتب الذي يشغلك بنفسك حين يوجه إليك الحديث، ومعنى هذا أن تبرز الفكرة بصورة قهارة ينسى فيها القارئ أنه في صحبة كاتب، ولا يدرك إلا أنه يواجه معضلات يعترك فيها العقل والوجدان. وهذه البراعة لا تتفق للكاتب ولا تنصاع إليه إلا بعد أن يكون إماماً في لغته، إمامة صحيحة كونتها الرياضات الطوال على الأداء المبين بالأسلوب الرشيق شبهة لغوية
هي شبهة من يتوهمون أن اللفظة الفصيحة هي اللفظة المخدَّرة ويريدون بها اللفظة التي لا يعرفها سواد الناس، فالكاتب العظيم في نظر هؤلاء هو الكاتب الذي يتحامى المأنوس من الألفاظ، ويؤثر الألفاظ التي عاشت في المعاجم بقوة التحنيط وإن حُرمت الحياة منذ أزمان
وأنا لا أقيم وزناً لهذا الرأي، وأضيف أصحابه إلى الجهلاء، ولا يؤذيني أن يتهموني بالتسامح في اللغة، كما طاب لأحدهم أن يقول ذلك في إحدى المجلات
الألفاظ تتقاتل في سبيل العيش كما يتقاتل الناس، فينتصر فريق وينهزم فريق، ثم يجيء الكاتب الحصيف فيعانق اللفظ المنتصر، ويتقدم الكاتب المخذول فيعانق اللفظ المخذول
كان أحد أعضاء المجمع اللغوي - وهو السيد حسن القاياتي - أنكر عليَّ في مقال نشره في جريدة البلاغ منذ سنين أن أستعمل لفظة (يستأهل) بمعنى (يستحق) فكتبت في الرد عليه مقالاً بعنوان: (والله تستأهل يا قلبي)
واستعملت مرة كلمة (شافَ) بمعنى (رأى) فثار خلْقٌ من خلق الله وعدوني من المتسامحين في اللغة، فسألتهم عن (تشوَّف) وهي كلمة كثيرة الورود في قصائد التشبيب، ثم أكدت لهم أن العرب في جميع الأقطار يقولون: (شافه) بمعنى (رآه) وقد (شفتهم) بعيني!
أتريدون الحق؟
الحق أن النقد اللغوي غلبت عليه الصبغة الببغاوية، واليكم هذا المثال:
قضى علماء البلاغة نحو عشرة قرون وهم يقولون في مؤلفاتهم وفي دروسهم بأن المتنبي أخطأ في جمع بوق على بوقات حين قال:
فإن يك بعض الناس سيفاً لدولةٍ ... ففي الناس بوقاتٌ لها وطبول
وكان العجب كل العجب أن يتحامل علماء البلاغة على المتنبي نحو عشرة قرون، ولا يجدون من يهديهم إلى الصواب.
وأثني على نفسي (للمرة الأولى بعد الديشيليون) فأقرر أني تفردت برفع الظلم الذي عاناه المتنبي في تلك القرون، ولكن كيف؟
ليست البوقات جمع بوق، كما توهموا، وإنما هي جمع بوقة، والبوقة هي اللفظة الاصطلاحية في موسيقا الجيش العربي، كما تشهد نصوص رأيتها في بعض كتب التاريخ وهنا أسوق فائدة لا أذكر أني رأيت من نبه إليها في كتب الصرف، وهي جعل التأنيث من صور التصغير، فالبوقة أصغر من البوق، والطبلة أصغر من الطبل، والبحرة أصغر من البحر، وقد بولغ في تصغيرها فصارت بحيرة
و (طُونس) الساقية في عُرف أهل الريف له وصلة يسمونها (الفرخ) إن كانت طويلة، ويسمونها (الفرخة) إن كانت قصيرة
وفي شوارع القاهرة نجد بائعاً يتغنى:
(حَبِّ العزيز الرُّبعة بقرش)
فما الرُّبعة؟ هي مصغر الرُّبع، بلا جدال
إن الصفة الببغاوية في النقد اللغوي أضرت باللغة وآذتها أعنف الإيذاء، فقد كتب كاتب في الرسالة ينقد استعمال كلمة (مَرِير) بمعنى مُر، وحجته أن المرير هو الحبل المحكم الفتل، ثم اتفق أن رأيت الشريف الرضي يستعمل كلمة المرير ويريد بها المر، فنظرت في أساس البلاغة فوجدت الزمخشري نص عليها بوضوح لا يحتمل الخلاف
وأنكر قومٌ جمع صناعة على صنائع، وألحوا إلى أن حملوا وزارة المعارف على تغيير اسم مدرسة الصنائع، مع أن لهذا الجمع شواهد تفوق العدَّ، وعلى أقلام كبار البلغاء
وأنكروا أن تنسب إلى الطبيعة فتقول طبيعي، مع أن العرب لم يقولوا طبَعي، ومع أن (فَعَلي) في (فَعِيلة) هو في ذاته شذوذ
والجرائد تقول (القتيل) وهي تريد القتيلة، لأن قائلاً قال بأن (فعيل) يستوي في التذكير والتأنيث، وهذا خطأ، إذا كان فعيل بمعنى مفعول، وهل أخطأ صاحب لساب العرب حين قال: رجل دفين وامرأة دفينة؟
ولم يفهم النحويون علة التذكير في آية (إن رحمة الله قريب من المحسنين) فعدوه تذكيراً أوجبته المجاورة ونسوا أن (قريب) في معنى الفاعل لا معنى المفعول
والمراد من الصفة الببغاوية في النقد اللغوي هو أن يحكي بعض الناس ما يقرءون حكاية الببغاوات. فأكثر ما نرى من اعتراض هو ألفاظ منقولة عن ناس تعرضوا للنقد اللغوي بلا بصيرة ولا يقين
لغة العرب لغة آبائنا وأجدادنا، فليعرف من لم يكن يعرف أن خطأنا فيها أفصح من الصواب. وإننا لن نستمع لأي اعتراض بعد أن ركزنا الراية فوق ناصية الخلود
غناء وغناء
في مكان يستبق إليه ضياء الشمس، ونور القمر، وهدير الأمواج، وقفت أنتظر وفاءً بميعاد هو الميعاد
وأقبلت الروح الملائكية في سِمة إنسانية، كما يطيب للملائكة أن تتشكل بصور الناس في بعض الأحيان
ودار حديثٌ أعذب من رنين الكؤوس، وأرق من وسوسة الحلي، في لحظات الصفاء
ثم دار عتابٌ كعتاب القلوب للعيون، فماذا قلت وماذا قالت تلك الروح، وقد أصغى البحر واستمع الوجود؟
لو تجمع ما أثار البحر من عواطف على اختلاف الأجيال، ولو اعتصرت الحياة ما يجري في أعوادها من رحيق الحب، لكان هذا وذاك دونَ ما أضفينا على الكَون من بهجة النعيم. . . ولو دُعينا لأداء الزكاة عن تلك اللحظات لكان من القليل أن نقضي العمر في شكران من قضت حكمته أن يجعل الحب سيطرة روح على روح، وانجذاب روح إلى روح
كان ضجيج المدينة أضعف من أن يحجب سرار القلوب، وكان القمر بفضل عليائه أشرف من أن ينمِّ عن خلوة حبيب بمحبوب
في شهر يونية تقوم غمامة تحجب القمر في لحظة لا تنتظر ظلال السحاب، فنفهم أن للحب والشعر آلهة، كما تقول أساطير القدماء
كانت الدنيا كلها في يدي، وكان هواي هو الهوى، وزماني هو الزمان، وكانت لغة الوجد فوق الأصوات والحروف، وهل يعرف أحدٌ ما لغةُ الأنفاس الحِرار؟ وكيف وما كانت اللغات إلا تعابير عما يجوز البَوْح به من سرائر الأرواح؟
وأين اللغة التي تعبِّر عن فرحنا بالحب في تلك اللحظة الوجدانية؟
أين أين. . . وهي لحظة ما ظفر بمثلها عاشق في قديم ولا حديث؟
هي زاد العمر كله، فليتمرَّد الهجر كيف شاء بعد ذلك الوصال.
لو مرت تلك اللحظة بالناس في ماضيهم البعيد لظفرت اللغات بألفاظ وتعابير تفوق الوصف، ولكان من السهل أن أشرح ما يوحي به ذَرْع (الرمل) على نغمات الموج في صمت الليل
ثم نفترق، فمتى نلتقي، يا روحاً لا يحيا بدونه روحي؟
للوجود كله غِناء، ولنا وحدنا غناء، وروحك هو غَريد البلبل، وحفيف النسيم، وهدير الموج، وعربدة الكهرباء
ثم نفترق وقد تحيرنا بين النور الأحمر والأزرق، وهذه إشارة لا يفهمها غير أسارى هذين النورين في (دار الوجد والمجد)، عليها أطيب التسليمات!
فمن فاته أن يعرف سر هيامي بوطني فليقرأ هذه السطور بروحانية وإخلاص
الإسكندرية هي المثال المصوِّر لسرائر النعماء، ومن لم يزر الإسكندرية فليس من حقه أن يزعم أنه عاش لحظةً من زمان
ولي في الإسكندرية دارٌ تشكو جفائي، ولم أكن من الجافين، دارٌ أساورها بلا استئذان حين أريد، كأنها دار الهوى في سنتريس أو بغداد أو باريس
في الصبح قرأت مقالاً في جريدة الأهرام عن إيطاليا بعد ثلاث سنين، وفي الظهر قرأت مقالاً في جريدة الريفورم عن إيطاليا بعد ثلاث سنين، فتذكرت أني عرفت تلك الروح في اليوم الذي أعلنتْ فيه إيطاليا الحرب قبل ثلاث سنين
وما أبعد الفرق بين إيطاليا وبيني!
مرَّت بها موجاتٌ هزمتها، ومرت بي موجات نصرتني
أفي الحق أننا لم نتعارف إلا قبل ثلاث سنين؟
أنت يا جِنِّية الشاطئ رفيقة روحي منذ أزمان وأجيال، وأنت مُناي من الهوى قبل أن يتنفس صبح الوجود
لابد للإسكندرية من حبيبين، فلنكن هذين الحبيبين، ولتفرح بنا الإسكندرية فرح الأليف بالأليف
يا مثال الحُسن ومثال اللطف، ويا ريحانةً مطلولة في صباح من أصبحة آذار!
يا تلك الروح في تلك المدينة، تذكري ثم تذكري، تذكري (سبعة أَبحُر) في لغة العراق و (سبعة أرادب) في لغة السودان، وتذكري الأبيات التي أمليتها عليك من لغة الفرنسيس. والى اللقاء في شِعاب الوجدان زكي مبارك