مجلة الرسالة/العدد 52/في الموقف الأدبي الحاضر
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 52 في الموقف الأدبي الحاضر [[مؤلف:|]] |
ديمقراطية الطبيعة ← |
بتاريخ: 02 - 07 - 1934 |
كان ظهور (الملاح التائه) و (وراء الغمام)، وصدور (الوادي) في لونها الجديد سبباً قريبا في حدوث هذه الضجة الأدبية القائمة. لان الديوانين على رغم ما قيل فيهما نتاج من الطراز الأزل يستحق العناية ويستوجب النقد ويستدعي الخلاف؛ ولان الشاعرين - وان كانا بحكم ثقافتهما غريبين عن العالم الأدبي - قد جذبا إليهما الأنظار، وعطفا عليهما الأنصار، بالطبع الموهوب والذوق الناقد. فلكل منهما في كل قهوة رقيب ورفيق، وفي كلحيفة عدو وصديق، وفي كل ناد مكبر ومنافس؛ ولان الوادي قد أخذت منذ حين تفتح لأدب الشباب (محضراً) في كل أسبوع، وقد تطوع للشهادة له وعليه أساتذة النقد في الجهاد والبلاغ. وكانت الحملة عنيفة على احبي الديوانين لحظهما الوافر من الإجادة ومحلهما الرفيع من الفن؛ فكابد الشاعر الطبيب مبضع العقاد، وقاسى الشاعر المهندس معول المازني. وكان الدفاع عنهما ألكن الحجة أرعن الدليل، لصرفه الجهد في رد المآخذ، ولو عني بتبيين المحاسن كما عني بتحسين المساوئ لأخفى ما ظهر تحت مجهر النقد من ضئال العيوب في بهر الجمال وروعة الصنعة. ولكل عمل من أعمال الناس جهة للمدح وجهة للذم لا تتشابهان على ناظر. والنقدناعة دقيقة لا يحسنها في الغالب إلا شيوخ الادب، لانهم استكملوا عدتها، واكتسبوا ملكتها بإدمان الدرس وطول المران وكثرة التجربة، فرد مآخذهم إذا برئت من الشطط والاعتساف يكون في الكثير الغالب من وراء القدرة الشابة.
كان أسلوب النقد ولا سك مشوبا بصلف الاستاذية، وعنت الحزازة، وعبث التهكم. وحجة النقاد انهم بالطبيعة أولياء الفن، وأمناء هيكله، وأصحاب اذنه، فلا يجمل بهم أن يخلوا فيه من لا يثبت معدنه على شدة السبك، ويخلص جوهره على تقصي النظر؛ وان الأدب اعسر من أن ينال بالدعوى العريضة، والدعاية المريضة، والأساليب الملفقة.
وكان طبيعيا أن يأنف الشباب من هذه اللهجة، ويألموا من هذه الشدة، ويزعموا أن هناك ائتمارا بهم وإنكارا بأدبهم، فيسوء ظنهم بالنقد، وتفيض مجالسهم بالشكوى، ويقابلوا الأستاذية بالتمرد، والحزازة بالعناد، والتهكم بالحنق، وبسطوا الأمر على انه نزاع بين أدبين: قديم يشتهيه الموت، وجديد تبتغيه الحياة، وتنفرج الحال أخيرا بين جيلين مقام الأول من الثاني مقام المدرب المشفق، والمرشد الناصح، والدليل المجرب.
إن شيوخ الأدب وشبابه إنما يصطنعون أدوات واحدة، ويعالجون موضوعات متقاربة، وينتجون نتائج متشابهة. فتاريخ الأدب يوم يكتب عن هذه الفترة لا يجد للشباب أسلوبا خاصا يسجله، ولا مذهبا جديدا يحلله، ولا أثرا مستقلاً يشرحه ويعلله. إنما هي مطامح الفتوة إلى المثل الذي توحيه الطبيعة، وتقتضيه الفطرة، ويلهمه الاطلاع، تحاول همتهم الوثابة أن تدنيهم منه فيقعد بهم عجز الوسيلة ونقص العدة.
وليس يسوغ في العقل أن يعد التسامح في اللغة والتساهل في الأسلوب والتجاوز عن القواعد ميزة، فان باس الشباب لم ينكسر أمام الشيوخ إلا في هذه الناحية.
والحق أن المسارعة إلي الإنتاج العام قبل استكمال وسائله الأولى غميزة بينة في أدب الجيل الحديث. فان الإلمام باللغات الأجنبية، والوقوف على قواعد الفن الاوربية، لا يجعلان المرء كاتبا في العربية ما لم يدرس هذه اللغة دراسة قوية نزدها طيعة لقلمه، لينة على لسانع، والاعتماد في اكتساب الأدب على محاكاة النماذج وتقليد المثل لا يقوم عليه فن ثابت، ولا ينهض به فنان معدود. وما كان المثل ليغني عن القاعدة وهو لا يضيء إلا ناحية من الطريق، والقريحة نفسها، وهي غريزة الأدب وافن في الإنسان، ليست من الكمال اليوم بحيث تجزى عن القواعد؛ كذلك الذوق وهن أداة الجمال كما أن العقل أداة الحق، لا يمكن أن يكون طريقا مأمونة إلى عمل أدبيحيح. فانه موهبة طبيعية تختلف في الناس وفي الأجناس. وتحتاج إلى المران بالدرس والعادة، وليس لها ما للعقل من سلطان وثبوت؛ وانك لتجد عقلا مطلقا مستقلا لا يختلف ولا يتغير، لان هناك حقيقة مستقلة تتميز بالوضوح والجلاء، ولكنك لا تجد مهما استقريت واستقصيت ذلك الذوق المطلق المستقل الذي لا يختلف باختلاف الألوان والأزمان والأمكنة. أما القواعد فهي نتيجة التجارب وخلاصة الملاحظات على طول القرون. وضعتها القرائح المنطقية المتعاقبة بعد أن فقهت أصول الأشياء، ودرست علائق هذه الاصول، واستخلصت نتائج هذه العلائق، ثماغت هذه النتائج قواعد وقالت لك إنها امثل الطرق لاحسان العمل دون أن تخضع عبقريتك إليها، ولا أن تسمح لهواك بالخروج عليها، فان بين الاستبداد والفوضى نظاما أحق أن نؤثر ويتبع.
وبعد، فان الفنان والناقد إنما يتعاونان على فهم الجمال، كما يتعاون القاضي والمحامي على فهم العدل، فليس من الخير لأحدهما أن يكون مع الآخر على حد منكب؛ وان الأدب الشيخ والأدب الشاب ليتعاونان على قيادة النفس، كما يتعاون البصر والجناحان على قيادة الطائر. فليس من خير أحدهما أن يكون من الآخر على قطيعة.
والأدب الرفيع من بعد ذلك كلهلة المرء بربه، ينفي الأذى عن لسانه ويذهب الغل عن قلبه.
أحمد حسن الزيات