الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 52/ديمقراطية الطبيعة

مجلة الرسالة/العدد 52/ديمقراطية الطبيعة

مجلة الرسالة - العدد 52
ديمقراطية الطبيعة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 02 - 07 - 1934


للأستاذ أحمد أمين

يعجبني البحر في جماله وبهائه، وجلاله ولا نهايته، ويعجبني كذلك في ديمقراطيته، فهو لا يسمح لأحد أن ينغمس في مائه إلا إذا تجرد من كل المظاهر الكاذبة التي خلقتها المدنية، يجب أن يتجرد أولا من ملابسه التي تميز بين الغني والفقير، ومن ريائه ونفاقه ومظاهره التي اصطنعها ليجعل من الناس طبقات يتحكم بعضها في بعض. ففي البحر تتساوى الرءوس، لا غني ولا فقير، ولا ذو جاه ولا عديم الجاه، ولا عالم ولا جاهل , ولا حاكم ولا محكوم، لا يتميزون بشيء فلا بلباس البحر، وفي الحقيقة ليس هو لباس البحر، وإنما هو لباس البر، فليس للبحر لباس إلا ماؤه. ودليل انه لباس البر أن الناس حاولوا به أن يتميز بعضهم من بعض، واتخذوا منه شعارا للغنى والأناقة واللباقة والوجاهة، والبحر لا يعرف شيئا من ذلك، إنما يعرف ذلك البر، ومن اجل هذا سرعان منا ينغمس الناس في البحر، فيسدل بمائه الأزرق الجميل ستارا على كل أثواب الرياء حتى لا ترى بعد إلا رءوسا عارية لا يميز بينها شيء من الصنعة، ثم هو يرسل أمواجه تداعب الناس على المواء، فتغازل الأسود كما تغازل الابيض، وتصفع الجميل كما تصفع القبيح، وتعبث بلحية العالم، كما تلعب براس الجاهل، وأحيانا يهيج هائجه، وتثور حفيظته، فيزفر من الغضب، حتى ليكاد يخرج من لهابه، ويطفر من ثيابه، ويربد وجهه فيلفظ بالزبد، وينتفخ ويرتعد، ويرقص من غير طرب؛ وهو في هذه الحال لا ينسى ديمقراطيته، يأتي للباخرة الضخمة قد أخذت زخرفها وإزَّينت وظن أهلها انهم قادرون عليه فيبتلعها في لحظة، لا تغني عنه محصنات العلم القديم ولا الحديث، كما يبتلع أحيانابيا وديعا وشيخا ضعيفا، ليبرهن انه لا يعبا بقوة ولا ضعف، ولا يخشى باس كمي، ولا يرحم ضعف اعزل، سواء هو في هزله وجده، وسواء هو في حلمه وغضبه ـ ما اجمل البحر، وما اجله، وما ألطفه، وما أقساه!

على أنه يظهر لي أن الطبيعة في جملتها ديمقراطية لا أرستقراطية، ولا أرستقراطية إلا في الإنسان الكاذب، فالشمس ترسل أشعتها الذهبية، والقمر أشعته الفضية، على الماس سواء: على المؤمن والكافر، والأسود والابيض، والغني والفقير، والقصر الكبير.

ويأتي الجو بريح سموم فتلفح وجوه الناس على السواء، لا تميز عظيما ولا حقيرا، و شريفا ولا وضيعا؛ ثم يأتي بريح طيبة تنعش الناس كذلك، لا يعرف في شيء من ذلك محاباة، ولا يعرف طبقات، ولا يعرف أي نوع من أنواع التفاوت التي تواضع عليها الناس، يرسل في الصيف شواظا من نار فيدخل على الأمير في قصره، وعلى الفقير في كوخه، فلا يهاب عظيما، ولا يحتقر وضيعا، ويرسل في الشتاء برده القارس فلا يستطيع أن يتقيه الغني بصوفه وملابسه، ولا بمدفأته وناره؛ كما لا يتقيه الفقير في عدمه وبؤسه؛ ثم تطلع شمس جميلة، ويعتدل الجو، فتحتضن الطبيعة الناس على السواء وتكون لهم جميعا أما حنونا، مشفقة بارة_أن تحدث الباشا أو البيك في نفسه بأنه فوق طبقات العامة، وانه يستطيع في شرع العرف والعادة أن ينعم بما لم ينعموا، فتفسح له الطريق، ويخلى له السبيل، وتفتح له أبواب المجتمعات، ويعامل أولاده وأقاربه بما لا يعامل به الفقراء، فلن تحدثه نفسه أن يمتاز من الفقير في حر ولا برد، ولا نور ولا ظلام، فان أخطأ فيذلك وظن انه يغالب الطبيعة في شيء من قوانينهافعتهفعة أمن بعدها بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وأدرك انه أن علا الناس بماله أو جاهه، وان تلاعب بأوضاع النام لسخف الناس، فهو أمام أوضاع الطبيعة حقير ذليل.

ثم يأتي القدر فينثر نعمه ونقمه، وشره وخيره على الناس جميعا، فصحة في الأغنياء والفقراء، وشره وخيره على الناس جمنعا، فصحة في الأغنياء والفقراء، ومرض في الأغنياء والفقراء. وتجد غنيا فاتر القوى منقوف الوجه، يبيت يتضور من الألم، يود لو خرج عن كل ماله وجاهه لتعود إليهحته، وبجانبه فقير مستحكم الخلقة، متين البنية، ممتلئ قوة وشدة وصلابة_وتجد جمالا في الأغنياء والفقراء، وقبحا في الأغنياء والفقراء، فهذه فقيرة مشرقة الجبين، افية الاديم، مفرطة الجمال، معتدلة القوام، لا تفتح العين على اجمل منهاورة، ولا أتم منها حسنا؛ وهذه سيدتها الغنية دميمة الخلقة، منكرة الطلعة، تنبو عن منظرها الأحداق، وتتفادى من مراها الأبصار، تريد أن تتجمل بالصناعة والأصباغ والحلي والملابس، فلا يزيدها ذلك كله إلا قبحا، على حين أن جارتها الفقيرة جميلة في طبيعتها، جميلة في بساطتها، جميلة حتى في ثيابها المهلهلة!

وللقدر في ذلك بدع، فاشهر طبيب في القلب يموت بالقلب، واعظم جراح يموت بالتسمم. وتلد الفلاحة الفقيرة في الطريق وهي حاملة قدرتها مملوءة ماء على رأسها، ثم يقطع (الخلاص) وتحمل طفلها وتذهب إلى بيتها سالمة غانمة؛ وسيدتها الغنية يحلل دمها وغير دمها قبل الوضع، ويعقم كل شيء في حجرة ولادتها، ويقف مشاهير الطبيبات والأطباء على بابها، حتى إذا أذنت ساعة الولادة بالقدوم استخدم كل ما وصل إليه الطب الحديث، والكيمياء بالحديثة، والعلم الحديث، وأمعنت جمهرة الأطباء في التطهير والنظافة واتخاذ وسائل الراحة والحصانة، وغير ذلك مما لم أذكر منه إلا قليلا؛ ثم هي بعد تصيبها حمى النفاس، ويقف الطب والعلم دهشا حائرا، ثم تسلم الروح إلى ربها، هازئا بكل ذلك القدر.

وهناك نوع من الأرستقراطية غريب، هو الأرستقراطية العلمية، فالمتعلمون ذوو الشهادات يعدون أنفسهم_وربما عدهم الناس أيضا_نوعا ممتازا من الناس، يختلفون عنهم نوعا من الاختلاف، ويرتفعون عليهم نوعا من الرفعة، كما ترتفع طبقة الأغنياء وكما ترتفع طبقة الامراء، فالمتعلم ينظر إلى أخيه الشقيق الجاهل نظرة فيها شيء من التعاظم، وشيء من الازدراء، وشيء من الغرور، وان ساواه في الدم، وان ساواه في الغنى أو الفقر، وهو لغروره يظن أن شهادته تخوله الحق أن تكون آراؤه في كل شيء خير الآراء، وان غير الجامعي لا يحق له أن يبدي رأيا بجانب رايه، حتى فيما ليس له اختصاص له اختصاص فيه.

وهو كذلك نوع من الأرستقراطية الكاذبة لا تعبا بها الطبيعة ولا تعيرها أي التفات، فقد جعلت بين المتعلمين أذكياء وأغبياء، وجعلت بين الأميين أذكياء وأغبياء، بل من غرور المتعلمين أن يسموا من لم يقرا ولا يكتب جاهلا وأميا ونحو ذلك من الأسماء، ويسموا من يقرا ويكتب متعلما، كأن وسيلة العلم والحكمة والعقل القراءة والكتابة وحدهما، ونحن لو نحينا غرور المتعلمين جانبا لهزئنا بالقراءة والكتابة في كثير من الأحيان، ولوجدنا وسيلة من وسائل الرقي، ولكن بجانبهما وسائل أخرى، ولوجدنا انهما لا تستحقان هذا الغرور الذي ينشئ نوعا من الأرستقراطية، فالحكمة في تصريف الأمور لا تعتمد على التعليم الجامعي، وسعة العلم كما تعتمد على الفطرة البشرية، والغريزة الإنسانية. ومن ثم قد ترى الجامعي الحائز لاقى الشهادات العلمية وهو أخرق في الحياة، سعيه في التصرف، وأخاه الذي يسمونه جاهلا أميا حكيما في تصرفه مدبرا لشؤونه وشؤون اخوته الجامعيين، وترى الأمة قد تصاب على يد متعلميها في أحوالها السياسية والاجتماعية اكثر مما تصاب على يد جاهليها، والفلاح القروي الأمي قد يرزق من الحزم في تصريفه، وبعد النظر في آرائه، وصدق الشعور في وطنيته، ما لا يرزقه أخوه الأستاذ في الجامعة أو العالم الحائز لأرقى الدرجات العلمية، بل قد يصدر من الرأي العام الجاهل في شؤون وطنه، وفي المسائل الهامة التي عرض عليه ما يفوق رأي متفلسفة المشرعين، وحيل القانونيين.

إن نظرنا إلى الذكاء، فالذكاء مشاع بين المتعلم والجاهل، وان نظرنا إلى حكمة التصرف، والحزم في إدارة الأمور، وتدبير شؤون الحياة، فذلك أيضا أمر مشاع بين الناس، ففيم غرور المتعلمين وإنشاؤهم أرستقراطية بجانب أرستقراطية الأموال والأعمال والطبقات. يطالبون أن يكال لهم المال جزافا، ويطالبون ألا يهينوا أنفسهم في عمل، ويطالبون أن يكون ميراثهم من آبائهم اكبر نصيب، ويطالبون أن يكون زبدة ما تخرجه الأمة لهم وحثالته لما يسمونه الجاهلين.

ما اسعد الأمة تخفف من غلوها فغي أرستقراطيتها، بجميع أنواعها، وتقلد الطبيعة في ديمقراطيتها واعتدالها.

احمد أمين